“ورقة من غزة” ستُبكيكم.. أجمل ما كتب غسان كنفاني عن فلسطين

عربي بوست
تم النشر: 2023/11/28 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/11/28 الساعة 12:53 بتوقيت غرينتش
تركت روايات غسان كنفاني أثراً في أجيالٍ عربية بكاملها/ الصورة من تويتر

يحضر اسم غسان كنفاني دوماً خلال الحديث عن فلسطين، فهو من أهم الأدباء الذين أسسوا للأدب الفلسطيني فيما بعد النكبة، فتأثرت به أجيال كاملة أعاد -بشكلٍ أو بآخر- تشكيل وعيها السياسي من خلال الأدب.

يتداخل الأدب مع السياسة عند غسان كنفاني، حتى إن بشير أبو منّة يعتبر في كتابه "الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر" أن الأدب عند كنفاني سبق السياسة وأدى إليها أيضاً. 

يقول أبو منّة، وهو مدير مركز الدراسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في جامعة "كنت" البريطانية، إن مساهمة كنفاني الأدبية في واقع التشرد والحرمان الفلسطيني دفعته إلى العمل السياسي.

كان الأدب أداة غسان كنفاني الاحتجاجية الأولى، وهو الذي وُلد في فلسطين وهُجّر منها، فعاش القهر الذي رافق رحلة الخروج من الوطن باتجاه حياة المخيمات. ولأنه كان ابن الناس، استطاع أن يكون فاعلاً ومؤثراً في مجتمعه.

بعد 51 عاماً على استشهاده، ما زال الصحفي والروائي غسان كنفاني يعيش في ذاكرة فلسطين والفلسطينيين، وكأنه موجود في مكانٍ ما قربنا وحاضر في المشهد السياسي الاجتماعي العام. 

أجمل روايات غسان كنفاني عن فلسطين

رغم قصرها، فإن حياة كنفاني كانت زاخرة بالأعمال الأدبية التي ما زالت محفورة في وجداننا. لكن تبقى أهم رواياته هي تلك التي كتبها بدمه، بعدما اغتالته أيدي الموساد في يوليو/تموز 1972 عن طريق تفخيخ سيارته في بيروت، لتنهي حياة روائي أبى إلا أن تكون نهايته استثنائية، تماماً مثله.

نستعرض في القائمة التالية أجمل روايات غسان كنفاني، التي تُعتبر من أجمل ما كتب عن فلسطين؛ الوطن والقضية، مع الإشارة إلى أن أعمال الروائي الفلسطيني الأخرى نادراً ما كانت تخلو تماماً من أية إشارة إلى القضية الفلسطينية.  

يحضر اسم غسان كنفاني دوماً خلال الحديث عن فلسطين/ مواقع التواصل
يحضر اسم غسان كنفاني دوماً خلال الحديث عن فلسطين/ مواقع التواصل

"عائد إلى حيفا".. هل الهوية مكتسبة؟

واحدة من أجمل الروايات عن القضية الفلسطينية في الأدب المعاصر، وقد نُشرت للمرة الأولى عام 1969، وتُرجمت إلى الإنجليزية واليابانية والروسية.

في روايته "عائد إلى حيفا"، يترك سعيد وصفية بيتهما في حيفا أثناء نكبة 1948 بشكلٍ قسري، ليعودا إليه بعد 20 عاماً لأنهما تركا ابنهما خلدون، فتكون الصدمة قوية حين يدركان أن خلدون كبر بين جنود الاحتلال، فيخسر الأب أرضه وابنه.

رواية قصيرة وموجزة من أبرز روايات غسان كنفاني، لكنها نوعٌ من المحاكمة للذات من خلال إعادة النظر في مفهومَيْ العودة والوطن. وهي من دون شك تعبّر عن واحدة من أكبر مآسي فلسطينيي 48، وما يتعرضون له من طمسٍ للهوية.

تلك الهوية التي تضيع بين قرابة الدم وانتماء التربية، فماذا لو وُلد المرء فلسطينياً، لكنه تربّى وسط أسرة يهودية وتعلّم في مدارس إسرائيلية، ثم خدم في الجيش الإسرائيلي؟ هل سيبقى فلسطينياً، أم يصبح إسرائيلياً؟ وهل الهوية مكتسبة، أم هي انتماء وتربية؟

ولمن لم يقرأ رواية "عائد إلى حيفا"، لا بدّ أنه يعرف صفية جيداً، فهي بطلة العبارة الأشهر التي ما زالت تتردد حتى اليوم: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله". كما أنها تتضمن مجموعة أخرى من الأفكار المحفورة في ذاكرتنا، مثل العبارة التي ترددت كثيراً في حرب إسرائيل على قطاع غزة 2023: "كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود". 

حظيت رواية "عائد إلى حيفا" باهتمامٍ كبير بين المسرح والتلفزيون والسينما، وكانت ملهمة لأعمالٍ كثيرة، أبرزها مسرحية "عائد إلى حيفا" من إخراج اللبنانية لينا أبيض (2010)، ومسلسل بالعنوان نفسه من إخراج باسل الخطيب (2004)، وعدد من الأفلام السينمائية.

لم يكن غسان كنفاني صحفياً وروائياً عادياً/ الصورة من تويتر
لم يكن غسان كنفاني صحفياً وروائياً عادياً/ الصورة من تويتر

"رجال في الشمس".. الفلسطيني الأخرس والعربي الأصم

منذ وقتٍ مبكر، حفر غسان كنفاني اسمه في أدب المقاومة الفلسطينية؛ ورغم اغتياله ووفاته في وقتٍ مبكر، كان حريصاً على التعبير عن المقاومة الفلسطينية، وكانت له كتابات نقدية وأدبية لا نغالي في القول إنها ساهمت في رفع وعي أجيالٍ كثيرة.  

تمثل هذه الرواية رمزية واقعية يصور كنفاني من خلالها معاناة الشعب الفلسطيني وما لحقه من ظلم وضياع وفقدان للهوية، بعد أن سُلبت منه أرضه وأبسط حقوقه في عيش حياة كريمة.

كان عنوان الرواية مدخلاً مباشراً للتعبير عن قصة اللجوء الفلسطيني وما رافقها من عذابٍ وذلّ وغربة عن الأرض/الوطن، للسعي خلف لقمة العيش من أجل أن يجد الفلسطيني مكاناً له تحت الشمس.

يحكي كنفاني في رواية "رجال في الشمس" قصة 3 رجال فلسطينيين من مختلف الأعمار اختاروا الهجرة إلى الكويت بطريقة غير شرعية عبر الصحراء، لعدم امتلاكهم جوازات سفر وأوراق ثبوتية، هرباً من الفقر وحياة الذل في المخيم بعد الغزو الإسرائيلي.

يساعدهم في تحقيق ذلك سائق الشاحنة أبو الخيزران، الذي كان معروفاً وسط رجال الحدود وشاحنته لا تُفتش، لذلك فإن مهمة نقله للرجال كانت شبه سهلة، بعد الاتفاق على المبلغ المطلوب.

تبدأ الرحلة نحو الصحراء الموحشة تحت لهيب الشمس الحارقة؛ وقبل أن يصلوا إلى نقطة التفتيش عند الحدود العراقية، يتوجب على الـ3 الاختباء داخل خزان الشاحنة حتى تنتهي إجراءات التفتيش، ويتناوبون بعد ذلك على الجلوس أمام مقعد السائق.

قبل الوصول إلى الحدود الكويتية يعيد الرجال الكرّة ويختبئون، لكن رجل الأمن عند الحدود يستوقف أبا الخيزران ليلقي عليه نكتة طال سردها لـ15 دقيقة، كانت كفيلة لاختناق الرجال الـ3 داخل الخزان؛ فما كان من أبي الخيزران إلا أن يلقي بجثثهم في مكب للنفايات ويستولي على أموالهم.

انقسم القراء حول روايته "رجال في الشمس"، التي صدرت عام 1963؛ فقد اعتبر المؤيدون أن الروائي الفلسطيني قدّم فيها صرخةً ودعوةً إلى التحرك من أجل التغيير، معتبرين أن ربط شخصية أبي الخيزران بالهزيمة، ما هو إلا تجسيد للقيادات العاجزة عن قيادة شعبها.

بينما يرى منتقدو الرواية أن شخصية أبي الخيزران، ورغم حضورها الروائي القوي، بقيت أسيرة لمفهوم الذكورة الذي لا ينسجم مع الفكر التقدمي الذي حمله الكاتب. ولعلّ أبرز المنتقدين كان الروائي اللبناني إلياس خوري.

بالنسبة إلى خوري، فالفحولة ليست دليلاً على قدرة قيادة الشعوب، كما أن العجز الجنسي لا يشير إلى الفوضى وقيادة الشعوب نحو الهاوية. 

ويرى إلياس خوري أن الرواية كان فيها 3 رجال يدقون ولا أحد يسمعهم، ويتساءل: هل فعلاً دقوا، كما ادعى غسان كنفاني، وهو لم يسمعهم؟ أم لم يدقوا؟ وهل المشكلة في كون الفلسطيني أخرس، أم في أن العربي لا يسمع؟

"رجال في الشمس" واحدة من أجمل روايات غسان كنفاني الذي أعطى من خلالها إشارات عن كيفية تشكل الهوية الفلسطينية، وكيف يعود الفلسطيني لامتلاك لغته.

مقابلة مع كنفاني، الناطق باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حول مطالب الجبهة لإطلاق سراح الرهائن بعد عملية مطار اللد

"أم سعد".. المقاومة المسلحة

لم يكن الروائي الفلسطيني صحفياً وأديباً منفصلاً عن السياسية، لا بل إن روايات غسان كنفاني تصبّ بأغلبيتها في خانة السياسة وهموم الإنسان الفلسطيني، كما أنه انتمى إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فكان الناطق الإعلامي باسمها، وأسّس مجلة "الهدف" التابعة لها، وترأس تحريرها.

صحيح أن نشاطه السياسي لم يكن أثره واضحاً في كتاباته الأدبية، ولكن أفكاره ألقت بظلالها على رواياته، لاسيما لجهة الدعوة إلى الثورة. فقد كان كنفاني متأثراً بالأدب الواقعي والفكر الماركسي.

مع ترسخ إيمانه بالعمل الفدائي والمقاومة المسلحة، كتب غسان كنفاني روايتين هما: "الرجال والبنادق"، و"أم سعد" التي صدرت عام 1969 وجاءت بعد انقطاع عن الكتابة دام 3 سنوات.

قدّم كنفاني في رواية "أم سعد" بعداً جديداً للثورة، وإيماناً بالمقاومة المسلحة لتحرير الأرض. واختار أم سعد التي أهداها الكتاب لتكون رمزاً للمرأة الفلسطينية بكل أحوالها، مع اختلاف دورها في المجتمع. 

مثّلت أم سعد الزوجة المراعية، والمرأة الكادحة، والأم التي تلد أولاداً فدائيين؛ هي "الشعب والمدرسة"، كما يصفها كنفاني، لدرجة أن زوجها يقول إنها "تخلّف وفلسطين تأخذ". وهي ليست من نسج خيال الكاتب، بل يقول عنها في مقدمة الرواية: "هي امرأة حقيقية أعرفها جيداً، وما زلت أراها دائماً وأحادثها وأتعلم منها".

في رواية "أم سعد"، عرض غسان كنفاني قضية اللجوء كما لم تُعرض من قبل، فكان أول من صوّر معنى أن يكون الفلسطيني لاجئاً في بلده وغريباً عنه. كما جسّد صورة الفلسطيني المتخاذل الذي يتحّول إلى جنرال يذلّ أبناء شعبه مقابل لقمة العيش.

الثابت الوحيد في هذه الرواية كان فكرة المقاومة المسلحة وأم سعد، التي بقيت تنتظر السلاح 20 سنة رغم كل شيء. فكانت شخصية ملحمية ثابتة من أول الرواية حتى نهايتها.

"أرض البرتقال الحزين".. برتقال يافا 

في كتابه "أرض البرتقال الحزين"، وهو عبارة عن مجموعة قصصية صدرت عام 1962، يروي غسان كنفاني في قصة تحمل العنوان نفسه عن عائلة هُجّرت من يافا إلى عكا ثم لبنان، كتبها عام 1958 في الكويت. 

في القصة، يحكي كنفاني كيف بكت نساء العائلة حين حملن البرتقال الذي كان يبيعه أحد الفلاحين على جانب الطريق، خلال الرحلة إلى لبنان، وكيف نزل الوالد من جانب السائق ومدّ يده فحمل برتقالة، وأخذ ينظر إليها بصمت ثم انفجر يبكي كطفلٍ يائس. 

في أحد المقاطع، يكتب: "كانت أمك ما زالت تنظر إلى البرتقالة بصمت.. وكانت تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها لليهود.. كل أشجار البرتقال النظيف التي اشتراها شجرة شجرة، كلها كانت ترتسم في وجهه، وترتسم لمّاعة في دموعٍ لم يتمالكها أمام ضابط المخفر". 

وبعد انهيار الوالد لاحقاً بسبب سوء الأوضاع، ينهي غسان كنفاني قصته بعبارة "حينما لامستْ نظراتي وجه أبيك يرتجف بغضبٍ ذبيح، رأيتُ في الوقت ذاته المسدس الأسود على الطاولة الواطئة، وإلى جواره برتقالة.. وكانت البرتقالة جافة يابسة". 

"أرض البرتقال الحزين"، لقبٌ يدرك غسان كنفاني جيداً أنه يليق بمدينة يافا الفلسطينية التي اشتهرت بزراعة هذه الفاكهة الحمضية على مدار مئات السنوات، حتى صارت مرادفة لها ومتلاصقة بها؛ فتحوّل برتقال يافا إلى علامة تجارية فارقة في التاريخ الفلسطيني.

غلاف كتاب
غلاف كتاب "أرض البرتقال الحزين"/ فيسبوك

"ورقة من غزة".. البقاء في الأرض

في المجموعة القصصية نفسها، ستقرؤون إحدى أجمل القصص القصيرة التي ستترك أثرها الكبير في وجدانكم، وهي بعنوان "ورقة من غزة" التي كتبها كنفاني حين كان بالكاد قد بلغ العشرين من عمره.

"ورقة من غزة" هي رسالة كتبها فلسطيني إلى صديق طفولته مصطفى الطالب، المقيم في كاليفورنيا الأمريكية، بعد أن يعود إلى حيِّه المدمّر في غزة؛ وهما اللذان تعاهدان على الخروج من "جحيمها" في أعقاب النكبة.

كان الراوي قد قُبِل في فرع الهندسة المدنية بجامعة كاليفورنيا، ومن المقرر أن يلتحق بصديقه مصطفى ليحققا بذلك حلمهما القديم. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان وتغيّرت خطط الراوي، فقرر البقاء في غزة.

"سيبدو لك غريباً بعض الشيء أن أزف إليك هذا النبأ، وثق تماماً يا مصطفى بأنني لا أشعر بالتردد قط، بل أكاد أجزم أنني لم أرَ الأمور بهذا الوضوح أكثر منّي الساعة، لا يا صديقي.. لقد غيرت رأيي، فأنا لن أتبعك إلى حيث الخضرة والماء والوجه الحسن كما كتبت، بل سأبقى هنا، ولن أبرح أبداً".

ويروي الصديق إلى صديقه أسباب بقائه في غزة بعد زيارته لها، والتي كان من المقرر أن تكون قصيرة. فيكتب في رسالته "ورقة من غزة"، قائلاً: 

"وجدت غزة كما تعهدها تماماً: انغلاقاً كأنه غلاف داخلي، ملتف على نفسه، لقوقعة صدئة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه، أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقّتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر، وبيوتها ذات المشارف الناتئة". 

وتابع: "هذه غزة، لكن ما هي هذه الأمور الغامضة، غير المحددة، التي تجذب الإنسان لأهله، لبيته، لذكرياته، كما تجذب النبعة قطيعاً ضالاً من الوعول، لا أعرف! وكل الذي أعرف أنني ذهبت لأمي في دارنا ذلك الصباح، وهناك قابلتني زوجة أخي المرحوم ساعة وصولي، وطلبت مني، وهي تبكي، أن ألبي رغبة ناديا، ابنتها الجريحة في مستشفى غزة، فأزورها ذلك المساء. أنت تعرف ناديا ابنة أخي الجميلة ذات الأعوام الثلاثة عشر؟

يضيف الراوي في "ورقة من غزة": "في ذلك المساء اشتريت رطلاً من التفاح ويممت شطر المستشفى أزور ناديا.. كنت أعرف أن في الأمر شيئاً أخفته عني أمي وزوجة أخي، شيئاً لم تستطيعا أن تقولاه بلسانيهما.. شيئاً عجيباً لم أستطع أن أحدد أطرافه البتة! لقد اعتدتُ أن أحب ناديا، اعتدت أن أحب كل ذلك الجيل الذي رضع الهزيمة والتشرد، إلى حد حسب فيه أن الحياة السعيدة ضرب من الشذوذ الاجتماعي".

ويقول: "ماذا حدث في تلك الساعة؟ لا أدري! لقد دخلت الغرفة البيـضاء بهدوء جمّ. إن الطفل المريض يكتسب شيئاً من القداسة فكيف إذا كان الطفل مريضاً إثر جراح قاسية مؤلمـة؟ كانت ناديا مستلقية على فراشها، وظهرها معتمد على مسند أبيض انتثر عليه شعـرها، كفـروة ثمينة، كان في عينيها الواسعتين صمت عميق، ودمعة هي أبداً في قاع البؤبؤ الأسود البعيد، ووجهها كان هادئاً ساكناً، لكنه موحٍ كوجه نبي معذب، ما زالت ناديا طفلة، لكنها كانت تبدو أكثر من طفلة، أكثر بكثير، وأكبر من طفلة، أكبر بكثير..
– ناديا..
لا أدري، هل أنا الذي قلتها أم إنسان آخر خلفي، لكنها رفعت عينيها نحوي، وشعرت بهما تذيبانني كقطعة من السكر سقطت في كوب شاي ساخن، ومع بسمتها الخفيفة، سمعت صوتها:
– عمي.. وصلت من الكويت؟
وتكسّر صوتها في حنجرتها، ورفعتْ نفسها متكئة على كفيها ومدت عنقها نحوي، فربتُّ على ظهرها، وجلست قربها:
– ناديا، لقد أحضرت لك هدايا من الكويت، هدايا كثيرة سأنتظرك إلى حين تنهضين من فراشك سالمة معافاة، وتأتين لداري فأسلمك إياها، ولقد اشتريت لك البنطال الأحمر الذي أرسلت تطلبينه مني.. نعم.. لقد اشتريته".
يقول الراوي: "كانت كذبة ولَّدها الموقف المتوتر، وشعرت وأنا ألفظها كأنني أتكلم الحقيقة لأول مرة، أما ناديا فقد ارتعشت كمن مسه تيار صاعق، وطأطأت رأسها بهدوء رهيب، وأحسست بدمعها يبلل ظاهر كفي:
– قولي يا ناديا.. ألا تحبين البنطال الأحمر؟
ورفعت بصرها نحوي، وهمَّت أن تتكلم، لكنها كفت، وشدّت على أسنانها، فسمعتُ صوتها مرة أخرى من بعيد:
– يا عمي!
ومدّت كفها، فرفعتْ بأصابعها الغطاء الأبيض، وأشارت إلى ساقٍ مبتورة من أعلى الفخذ".

وهنا، يختم الراوي رسالته إلى صديقه مصطفى قائلاً: "يا صديقي.. أبداً لن أنسى ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، لا، ولن أنسى الحزن الذي هيكل وجهها واندمج في تقاطيعه الحلوة إلى الأبد".

ويضيف: "لقد خرجت يومها من المستشفى إلى شوارع غزة، وأنا أشد باحتقار صارخ على الجنيهين اللذين أحضرتهما معي لأعطيهما إلى ناديا، كانت الشمس الساطعة تملأ الشوارع بلون الدم".ثم يتساءل: "لقد قالوا لي إن ناديا فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها فوق إخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب وقد نشبا أظافرهما في الدار، كان يمكن لناديا أن تنجو بنفسها، أن تهرب.. أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل. لماذا؟".
فينهي رسالته جازماً: "لا يا صديقي! لن آتي لسكرمنتو، وأنا لستُ آسفاً البتة، لا ولن أكمل ما بدأناه معاً منذ طفولتنا: هذا الشعور الغامض الذي أحسسته وأنت تغادر غزة.. هذا الشعور الصغير يجب أن ينهض عملاقاً في أعماقك.. يجب أن يتضخم، يجب أن تبحث عنه كي تجد نفسك.. هنا بين أنقاض الهزيمة البشعة. لن آتي إليك، بل عد أنت إلينا. عد لتتعلم من ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة وما قيمة الوجود.. عد يا صديقي، فكلنا ننتظرك".

تحميل المزيد