هرب من سوريا وتزوج 4 إحداهن مسيحية.. تعرَّف على تاريخ لبنان من رواية “بيروت مدينة العالم”

عربي بوست
تم النشر: 2020/08/12 الساعة 12:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/12 الساعة 12:43 بتوقيت غرينتش

ربيع جابر، روائي من لبنان، حصل على البوكر عام 2012 عن روايته "دروز بلغراد"، قبل تلك الرواية كتب مجموعة من الروايات، لكن روايته عن بيروت كانت الأقوى، وقد اكتسب بها ربيع حقَّ أن يكون المؤرخ الروائي لمدينة العالم.

الرواية ذات الجزأين اللذين يزيد كل منهما على 400 تحكي تاريخ بيروت خلال حكاية عائلة اسمها البارودي، جد هذه العائلة بنى حارة البارودي، التي أزيلت عام 1915 ليحل محلها مبنى البلدية.

تبدأ الرواية بهروب عبدالجواد أحمد البارودي إلى بيروت، تطارده جريمة حدثت في دمشق، يصل إلى بيروت بين 1820 و1822 وهو هائم على وجهه، ليجد نفسه أمام أسوار بيروت، لم يتعمَّد أن يقصدها، في الحقيقة كان ذاهباً إلى القاهرة ليبتعد عن عساكر السلطان، وجده الحراس وقد لجأ إلى جوف شجرة توت معمرة بجوار السور، أدخلوه لمدينة بيروت، رجل مشبوه، لكن المدينة المتسامحة سرعان ما فتحت صدرها له.

الرجل ذو الذراع الواحدة المثير للشبهة وجد الأمان والرعاية عند إمام جامعها الكبير، الجامع العمري، بدأ عمله في تجارة الخضراوات، وكبر وكبرت معه أسرته، صاهر عائلات بيروت مسيحييها ومسلميها، بيروتييها الأصليين والمهاجرين إليها، تزوَّج من بنات الحسب والنسب، وتزوَّج إحدى اليتيمات، وختم زيجاته بالأنثى الشركسية التي عزفت على أوتار قلبه قبل أي أنثى أخرى، صادق اليهودي موسى يعقوب مزراحي، الذي ابتاع منه دكان الخُضر، مات مزراحي فانتقل ابنه إلى صيدا، وابنته سارة إلى دير القمر، لم يذهب أحد من الأولاد أو الأحفاد إلى فلسطين المحتلة، هاجر بعضهم إلى أمريكا، وانتهى وجودهم بالتدريح في بيروت وهم لا يحملون في نفوسهم إلا أنهم لبنانيون، فبيروت المتسامحة لا تدع أحداً دونما انصهار في عجينتها السكانية المتجانسة.

شارك البارودي في تجارته سمعان الصايغ، السرياني الحلبي، ترك سمعان حلب هرباً من الاضطهاد الذي تعرَّض له النصارى، فرضت عليهم الدولة العلية آنذاك قانون الأغيار، أراد أن يهرب إلى الإسكندرية، حيث لا يضطهد محمد علي أهل الذمة، لكن الحياة طابت له في بيروت، المدينة تزداد كل يوم تسامحاً.

مع نهاية العقد الأول من إقامته في بيروت، يجد عبدالجواد نفسَه مع زوجته وبناته اللاتي سمّاهن: صفية وسهيلة وسعدية ونرجس وزهرة وهند، كلهن أُخذت أسماؤهن من صفات بيروت.

كانت الحياة في بيروت سهلة على صعوبتها، ليس هناك ما يفرق بين سكانها، أراد عبدالجواد أن يتزوج من هيلانة النصرانية، تساءل أبوها عن فوارق الدين، يؤكد له عبدالجواد أنه لن يتدخل في دينها، ولكنها تتحول إلى الإسلام بكامل حريتها بعد شهرين من زواجهما، وبالمقابل إن أراد نصراني الزواج من مسلمة فليتحول إلى الإسلام ببساطة شديدة، ويعود ليعيش مع أهله، معه زوجتيه، لا يشعر أي منهما بالفرق، هكذا حصل مع ابنتي عبدالجواد.

هكذا تزوجت كل بناته، ولم يبق لعبدالجواد عقب من نسله الذكور، امتد عرقه في أحفاده من بناته، رُزق بتسع بنات كن أجمل الجميلات، انتهت عائلة البارودي في بيروت، إذ لم يبق من رجالها أحد، ذاب فرعها البيروتي في عائلات أخرى مسلمة ومسيحية، إذن هذه هي بيروت، كانت تصهر كل آتٍ إليها في المجموع.

بين هجرة البارودي الأول وموت حفيده الأخير 160 عاماً، تحولت بيروت من بلد الخمسة آلاف إنسان إلى مدينة المليون الواحد، شهدت حروباً وحكاماً عثمانيين، ثم مصريين في عهد حكم إبراهيم باشا، ثم إلى الحكم العثماني المحمول على المدافع الإنجليزية، يتلوه الانتداب الفرنسي، ثم الحكم الوطني والحروب الأهلية، أكثر ما تأثر بكل هذه الحروب مداً وجزراً هو التسامح الذي ينطوي عليه قلب بيروت.

لسبب ما يجتذب اسم عائلة البارودي الروائيين، ففي روايتها "خرائط الحب" التي ترجمت إلى العربية، قامت الروائية المصرية أهداف سويف بتقديم سردية فلسطينية عربية تفند السردية الصهيونية من خلال عائلة البارودي، التي قدّمتها على أنها عائلة مقدسية قاهرية، لها فروع امتدت إلى أوروبا وأمريكا.

أجمل ما في الرواية أنها تحكي حياة عائلة البارودي جنباً إلى جنب مع تاريخ بيروت، الرواية تأخذنا في حواري بيروت وأسواقها، الدباغين، الصرامي، الفشخة، البازركان، العطارين، الحدادين، نمشي فيها قبل رصفها، ثم نمشي وقد رصفت في عهد إبراهيم باشا ببلاطٍ أبيض، بعدها نمشي وقد رصفت الشوارع بالحجر الصخري الأسود، أقام عبدالجواد بيته في مزرعة التوت، البيت أصبح بيوتاً، لينتهي بنا الأمر إلى حارة البارودي المسوّرة بحجارة، جاؤوا ببعضها من المقلاع، وبأكثرها من حجارة سور بيروت، الذي انهارت بعض أجزائه مع قصف المدفعية الإنجليزية، وهكذا خرجت بيروت خارج السور.
لا تبقى الحياة في بيروت حلوة دائماً، تتعرض لزلازل تجعل مَن في البيوت يرون النجوم فجأة، وكم هدمت مآذن وقباب وبيوت من صواعق رعدية، وكم طمرتها بحار الرمل الزاحفة، أما موجات الحمّى المالطية والسل، والكوليرا، وكذلك خانق الأطفال (الدفتيريا)، فكلها تضرب بلا هوادة أيضاً بين حين وآخر.

هرب العثمانيون من بيروت يوم جاءت جيوش إبراهيم باشا، هَدمت قوات محمد علي عاصمة الوهابيين، ثم تنامت طموحاته، فأعادت اليونان إلى حظيرة الدولة العثمانية، وبعدها زحف ليستولي على الشام ويصل إلى تخوم عاصمة الخلافة، رأت القوى الأوروبية أن دولة محمد علي الفتيّة ستحلّ محل الرجل المريض فاتحدوا عليه، النمسا وبريطانيا وروسيا نازَلُوه في البحر، دمّروا أسطوله، عقدوا معاهدة لندن التي فرضت على قوات محمد علي ألّا تتجاوز الشام ومصر، أعادوا بعض الهيبة لدولة العثمانيين، أصبحت بيروت مركزاً مهماً لقوات إبراهيم باشا، أقام المصريون الحجر الصحي الذي عُرف بالكرنتينا خارج السور في بيروت. 

مع الوقت أخذت بيروت دور كل موانئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، التي تستورد وتُصدّر إلى أوروبا، أخذ ميناء بيروت مكان عكا وحيفا ويافا واللاذقية، ازدهرت المدينة بالتجارة، تجارة عبدالجواد ازدهرت أيضاً، دكان الخضر في الفشخة، مطعم الشواء خارج السور مقابل المرفأ، ثم محل الأنتيكات في سوق البازركان، أضيف اسم الجواهرجي إلى ألقابه، لكن ابنه غادره والتحق بالثائرين على إبراهيم باشا، هؤلاء الذين تدعمهم إسطنبول.

 حرق شاهين قلب أبويه، لحق بأخواله إلى إسطنبول، هرب خاله مع جنود العثمانيين من وجه إبراهيم باشا، المنتصر، وعندما وصلت جيوش إبراهيم باشا إلى الكوتاهية طار إلى إسطنبول، حارب شاهين مع الثوار في الكر والفر ضد الجيوش المصرية، تشرّد معهم في صحاري الأناضول والعراق والشام، عاد ليتزوج، ثم عاد لسيرته الأولى، إلى الثوار، مات إثر المعركة الأخيرة التي هُزمت فيها جيوش إبراهيم أمام الإنجليز، سبقته أمه وتبعه أبوه. بنات البارودي التحقن بالمدرسة الأمريكية، كانت الإرساليات البروتستانتية الأمريكية قد بدأت العمل مبكراً، تطورت مؤسساتهم فيما بعد إلى الجامعة الأمريكية.

محمود النامي، والي إبراهيم باشا على بيروت نظم الإدارة فيها، كل القوافل تدخل من باب الدباغة، تُسجّل الواردات والصادرات وتؤخذ المكوس. أصبح لبيروت مجلس شورى، ينظم التجارة، ويحفظ النظافة وغير ذلك، صار وضع النصارى والذميين أفضل، هرب بعض أبناء بيروت ليلتحقوا بعساكر السلطان، امتلأت أسواق المدينة بالبضائع، وميناؤها بالحيوية، دخل بين عامي 1835 و1837 مع بواخر المحركات التي حلت مكان السفن الشراعية 50 ألف طن من البضائع، أكثر من نصفها حملتها سفن مصرية، والنصف الآخر بواخر من كثير من دول أوروبا. عام 1837 أتت بواخر محملة بالنسيج الإنجليزي من الإسكندرية ومالطة، الحرير اللبناني نُقل إلى مرسيليا، سال الذهب في بيروت. وكما كانت البواخر تنقل الخيرات كانت تنقل الشرور أيضاً، أشهر قوّادي بلاد الشام آنذاك جلب الرقيق الأبيض، وعُرف مرض الزهري لأول مرة في بيروت.

امتلأت بيروت بالغرباء، أنيرت شوارعها بالفوانيس، وتم تبليطها، محمود النامي يريد شوارع بيروت نظيفة كعاصمة الفرنسيين. تضاعف عدد سكان بيروت، وأصبح فيها أكثر من 10 الآف من جنود مصر، عرفت موائدها الملاعق والشوك والسكاكين، وتذوّق أهلُها الشاي، وما كانوا يعرفون قبله غير القهوة والزهورات، كما عرفوا الفول المدمس وطوّروه بإضافة الليمون وزيت الزيتون، واستغنوا عن إضافة الخل، ثم عرفوا البطاطا التي كانت تأتي من مصر، ثم زُرعت في البقاع، واستطابها البيروتيون.

لا تستمر الحكاية هكذا طويلاً، بالمرستون، رئيس وزراء إنجلترا الماكر لا يريد لأي قوة صاعدة في العالم الإسلامي أن تحكم مصر وسوريا معاً، يريد أن يكون رجل أوروبا المريض أقصى ما يطمح إليه المسلمون، أقنع القوى الاستعمارية الكبرى في أوروبا بضرورة هزيمة جيوش إبراهيم باشا عن الشام، وتكبيله بالمعاهدات بحيث لا يمكن لجيش مصر أن يكون له دور خارج مصر، ها هي سفن الأسطولين الإنجليزي والنمساوي تقصف بيروت، وتنذر سليمان باشا، قائد الجيوش المصرية، بأنه إن استمرّ في المقاومة فقد رأى نموذجاً فقط للدمار الذي سيلحقه، اجتمع مع شورى بيروت، ثم قرر الانسحاب، علّه يظفر بنصر على الأرض، اجتمعت قوات إبراهيم في بحر صاف لتقاتل مع القوات العثمانية التي يقودها الإنجليز، مدافع الإنجليز التي هزمت نابليون في واترلو هي التي جاءت لتسجل نصراً آخر على المدافع الفرنسية التي تستخدمها القوات المصرية، والتي أصبحت قديمة، حرب ضروس يعرضها الكاتب بكل التفاصيل الحارقة، تنتهي لصالح إنجلترا، بل لصالح الدولة العثمانية، الجندي السوداني الذي تصدّى لشاهين البارودي ومحمد الفاخوري وأردى أحدهما قتيلاً، والآخر مقطوع اليد، قتل هو الآخر، نهاية حزينة، كلا الطرفين ابن الشرق، لكن المدفع الإنجليزي سيد الموقف، هنا بالمرستون الداهية، يستدعي من التاريخ دولة الصهاينة.

أستطيع أن أقول بعد قراءتي لهذه الرواية إنها عمل روائي محكم فنياً وتاريخياً، يُسرِف ربيع في التفاصيل، تفاصيل قد تغرق قارئاً، ولكنها تنمّ عن قدرة بديعة على الرسم بالكلمات، ترسم لوحات للمدينة، ولأشجارها، ولأطعمتها، ولأبنائها، ومناخها، وشفقها البرتقالي، وحروبها، كل ذلك يشكّل خلفيةً لمسرح الحدث، تُكبّل القارئ في أَسْر الإبداع، ماذا عن الأسئلة التي ما زالت منتصبةً في عقل القارئ؟ هل ستجيب عنها أحداث الجزء الثاني من "بيروت مدينة العالم".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

صالح الشحري
طبيب فلسطيني
طبيب فلسطيني واستشاري أمراض نساء و توليد. مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.
تحميل المزيد