على مدى سنوات حياته أصبح "بويى" آخر إمبراطور صيني ثلاث مرات، لكنه في جميع تلك المرات، لم يكن في السلطة بشكل حقيقي حتى ليوم واحد، بل كان "دمية".. تحكم بها حاشيته، وأعداؤه، وتعرض للخيانة والمؤامرات ومحاولات الاستغلال طوال حياته.
وبعد أن عاش طفولته في نعيم القصر الإمبراطوري، قضى جزءاً من حياته بين سجون السوفييت والصينيين، وعاش فقيراً معدماً في نهاية حياته، ولم يعد لقصره إلا سائحاً، اضطر لشراء تذكرة للدخول شأنه شأن الآخرين بعد تحويل القصر إلى متحف؛ ليلقي نظرة أخيرة على المكان الذي عاش فيه طفولته وشبابه.
آخر إمبراطور صيني وصل للحكم ليصبح واجهة لأرملة الإمبراطور السابق
ولد "بويى" عام 1906، وكان والده الأخ غير الشقيق لإمبراطور الصين من "سلالة تشينغ" والذين حكموا الصين لحوالي 300 عام، بعد وفاة الإمبراطور عام 1908، قررت أرملة الإمبراطور تنصيب "بويي" إمبراطوراً للصين، وهو لا يزال في سن عامين فقط.
كان اختيارها "بويي" إمبراطوراً في هذه السن الصغيرة وليس والده، لأنها علمت أنه سيكون من السهل عليها الاستمرار في حكم الصين من خلف الستار، لأنه كان مجرد طفل صغير. لكنها لم تكن تعلم أبداً أنها ستموت في اليوم السابق لتتويج "بويي".
أصبحت زوجات الإمبراطور السابق وصيات على العرش والمتحكم الحقيقي بمقاليد الأمور، وسرعان ما أصبح بويي مدللاً؛ لأنه منذ سن صغيرة أصبح شخصية شبه مقدسة، وكل طلباتها يتم تنفيذها.
كان الأشخاص البالغين من حوله، وبحسب تقاليد القصر والسلالة الحاكمة، يركعون حين يمر بجانبهم، باعتباره "ابن السماء"، وعاش طفولته في المدينة المحرمة، وهي التي تضم القصر الإمبراطوري، حيث لا يسمح له بالخروج ولا يسمح لعامة الشعب من غير النبلاء والحاشية الملكية بالدخول.
وسرعان ما أصبح بويي وهو في سن صغيرة سادياً، ويقوم بجلد وإهانة "الخصيان" المكلفين بخدمته لأتفه الأسباب، سجل بويي في سيرته الذاتية التي كتبها في سنوات لاحقة، أن "الخصيان" لم يكونوا يريدون الاعتناء به في الليل، لذلك قاموا بترتيب أن تنام الخادمات معه في السرير.
اللواتي قمن باستغلاله جنسياً، وبسبب ممارسة الخادمات الجنس المستمر معه في سنوات حياته الأولى، أدى ذلك لاحقاً إلى فقدان "خصوبته" وحرمانه من الإنجاب.
وبالنسبة للإمبراطور، لم تكن الحياة في المدينة المحرمة مترفة كما يتصور المرء. فبينما اُعتبر الإمبراطور "وسيطاً بين الأرض والسماء"، كان لا يزال في الواقع مجرد حلقة في سلسلة بيروقراطية عملاقة، مضطراً لاتباع البروتوكولات الصارمة التي تمليها التقاليد.
واضطر، وحتى هو طفل صغير، إلى حضور اجتماعات بشأن المسائل ذات الاهتمام العام منذ الساعات الأولى من الفجر، وللبت في العقوبات والإعدامات. وكان عليه أن يستقبل جموعاً من المندوبين الحكوميين، لمناقشة السياسات وتوقيع المراسيم، التي لم يكن يفهم منها أي شيء.
ولمضاعفة ضغوطه اليومية، كان روتين الإمبراطور يشرف عليه الخصيان والمسؤولون الذين لم تكن مصالحه الشخصية دائماً في صميم اهتمامهم.
كان الخصيان عبيداً افتراضيين يقومون بكل الأعمال في المدينة المحرمة، مثل الطهي، والبستنة، والتنظيف، وترفيه الضيوف، والعمل البيروقراطي ومرافقة الإمبراطور في كل مكان على مدار الساعة.
ولأن المدينة المحرمة كانت مليئة بالكنوز، كان الخصيان يسرقون بعضها، ويبيعونها باستمرار في السوق السوداء. وحين كانت هناك محاولات لمحاسبتهم، وعمل جرد بالممتلكات الملكية، حدث حريق في القصر حيث يتم الاحتفاظ بالسجلات.
فيما يشتبه بكونه حريقاً متعمداً لتغطية السرقة. وسمع صدفة أحاديث بين الخصيان جعلته يخاف على حياته. رداً على ذلك، بعد شهر من الحريق، طُرد الخصيان من القصر، وكانت تلك أولى المؤامرات على حياته.
آخر إمبراطور في الصين يتنازل عن عرشه للمرة الأولى
عام 1911، حين كان بويي لا يزال بعمر 6 سنوات، كانت الصين تخوض حروباً ومنذ سنوات مع اليابان ودول أخرى، وكانت الصين تفقد أراضيها، مثل هونغ كونغ في حرب الأفيون الأولى مع بريطانيا، ومناطق أخرى في الحرب الصينية اليابانية الأولى؛ مما سبب غضباً وقلة ثقة من الشعب الصيني في الإمبراطورية، وتصاعد "الروح القومية الصينية"، والرغبة في تشكيل ملكية دستورية.
أعلنت 13 مقاطعة صينية من أصل 18 مقاطعة ذات أغلبية تسكنها قومية الهان والتي تمثل حوالي 94% من الشعب الصيني، استقلالها عن الإمبراطورية وأسست تلك المقاطعات فيما بعد حكومة جمهورية، بقيادة الزعيم الثوري صن يات صن.
وفي عام 1912 بسبب الضغط الكبير على القصر الإمبراطوري، أصدرت إحدى أرامل الإمبراطور السابق مرسوماً نيابة عن "بويي" يتنازل بموجبه عن العرش، ونقل السلطة للجمهورية الصينية الجديدة.
وأصبح "بويي" بذلك الإمبراطور الصيني الأخير؛ لينتهي بذلك المرسوم أكثر من ألفي عام من حكم الأباطرة في الصين؛ لكن تضمنت الاتفاقية مع الثوار احتفاظ الإمبراطور بحاشيته، والاستمرار بالعيش في جزء من "المدينة المحرمة"، والعيش بنفس الترف من أموال الضرائب.
عودة الإمبراطور الصيني الأخير لمنصبه وعزله مرة ثانية
عام 1917 تمت إعادة الإمبراطور الصيني الأخير إلى العرش كإمبراطور من قبل أحد أمراء الحرب الموالين للعائلة الحاكمة، ولكن بعد 12 يوماً فقط تم عزل "بويي" مرة أخرى، بعد فشل جهود أمير الحرب الذي دعمه.
في عام 1924، سيطر على بكين أمير حرب آخر اسمه "فنغ يوكسيانغ" بعد انقلاب قام به. ولكسب موافقة الجمهور، قرر إلغاء الاتفاقية التي سمحت لـ"بويي" بالعيش في المدينة المحرمة. وألغى "يوكسيانغ" لقب "بويي" وامتيازاته الإمبراطورية، واعتباره مواطناً عادياً في جمهورية الصين.
تم طرد بويي من المدينة المحرمة في نفس اليوم. ومُنح 3 ساعات للمغادرة. وبعد طرده وجد بويي ملاذاً في مقاطعة "تيانجين" التي لم تنضم للجمهورية بعد، وحاول التودد إلى كل من أمراء الحرب الذين يقاتلون من أجل الهيمنة على الصين من جهة، والتقرب إلى اليابانيين الذين كانوا يرغبون منذ فترة طويلة في السيطرة على الصين.
"إمبراطور دمية" تحت سيطرة اليابانيين وسجين بأيدي السوفييت
عام 1931 وفي ظل الوضع المضطرب في الصين استغل اليابانيون الفرصة للاستيلاء على منطقة منشوريا شمال شرق الصين، بحجج وذرائع مختلفة.
في عام 1932 قررت اليابان إنشاء واجهة لدولة مستقلة في منشوريا، لتعزيز شرعية وجود قواتها في الصين. وتم تشكيل حكومة دمية، وتعيين "بويي" إمبراطوراً عليها، لكن جميع المسؤولين في تلك الحكومة وبويي نفسه كانوا تحت المراقبة المستمرة من اليابانيين. ولم تكن لهم أي سلطة حقيقية سوى توقيع القرارات التي أصدرها اليابانيون.
كان لكل مسؤول صيني، مستشار ياباني يوجهه فيما يتعلق بالاختيارات والقرارات، وسمح احتلال منشوريا للجيش الياباني بشن هجمات عسكرية ضد كل من الصين والاتحاد السوفييتي، واستغلال موارد منشوريا لدعم الإمبراطورية اليابانية.
استمر الوضع على ذلك الحال حتى عام 1945، حين أعلن الاتحاد السوفييتي الحرب ضد اليابان وغزا منشوريا، وأنهى وجود تلك الدولة وقبض على "بويي"، وعزله من منصب الإمبراطور، وكانت هذه المرة الثالثة في حياته التي يفقد فيها ذلك المنصب.
نهاية آخر إمبراطور صيني "فقير معدم"
بعد القبض عليه اقتاد السوفييت بويي، ووضعوه في سجن لـ4 سنوات في سيبيريا، وعندما وصل الحزب الشيوعي الصيني تحت قيادة ماو تسي تونغ إلى السلطة في عام 1949، أعيد إلى الصين بعد مفاوضات مع الاتحاد السوفييتي.
في الصين كان مصير "بويي" لا يقل سوءاً عن مصيره في السجن السوفييتي، وقضى 10 سنوات في سجن صيني لمجرمي الحرب، كان السجناء من كبار المسؤولين والضباط اليابانيين وأفراد صينيين من حكومة منشوريا.
وكان بويي هو أضعف الأسرى جسدياً، وغالباً ما تعرض للتنمر والسخرية من قبل الآخرين، الذين أحبوا إذلال الإمبراطور السابق. وفي السجن قررت الحكومة الصينية الشيوعية وضعه في "برنامج إعادة التأهيل الشيوعي" للسجناء السياسيين.
في 1959 حصل بويي على عفو خاص من "ماو"، بعد أن تمت "إعادة تأهيله" وعاش في بكين في منزل متواضع، وكانت لديه وظيفة كنس الشوارع، ثم عمل بستانياً في الحدائق. لكن أول ما قام "بويي" عند عودته إلى بكين هو زيارة المدينة المحرمة وقصره الإمبراطوري بعد تحويله لمتحف كسائح.. ليشاهد الكثير من المعروضات التي كانت من أغراضه الشخصية التي استخدمها في شبابه.
عام 1967، توفي "بويي" بعد صراع مع مرض السرطان، ليطوي بذلك نهاية قصة آخر إمبراطور صيني تلاعب به من حوله طوال حياته واستغلوه لمصلحتهم.