أول من صمّم مجسّم الكرة الأرضية ورسم خريطة العالم.. “الإدريسي” مؤسّس علم الجغرافيا

عربي بوست
تم النشر: 2023/05/05 الساعة 11:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/05 الساعة 11:56 بتوقيت غرينتش
أسّس الإدريسي علم الجغرافيا كما نعرفه اليوم/ الصورة من تويتر

أسّس الإدريسي علماً مستقلاً يُدرَّس اليوم في الجامعات والمدراس، وهو نتاج لرحلاته حول العالم، التي توّجها بمساهمته القيّمة في تأسيس علم جغرافيا البلدان الذي أصبح أحد علوم النهضة الأوروبية.

ومن دون أي مبالغة، فإن الإدريسي من دون أدنى شكّ أحد أعظم علماء العصور الوسطى، الذين تركوا بصمتهم في تاريخ البشرية. فقد كان أول من رسم خريطة للعالم على مجسّمٍ للكرة الأرضية، في وقتٍ كان ينظر الناس -بمن فيهم أهل الاختصاص- إلى الأرض على أنها مُسطّحة.

لم يعرف العرب قبل الإسلام رسم الخرائط؛ كانوا يهتدون بحركتهم في صحراء الجزيرة الواسعة، ورحلتَي الشام صيفاً واليمن شتاءً، بالشمس والقمر والنجوم. كما أنهم راقبوا مطلع ومغيب نجوم معيّنة لتحديد فصول السنة.

ومع ظهور الإسلام واتساع رقعته خارج الجزيرة العربية، التفت العلماء المسلمون إلى أهمية رسم الخرائط، ودراسة الظواهر الجغرافية.

فشهدت الخرائط تقدماً ملحوظاً مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، فضلاً عن ازدهار حركة التجارة التي كان يلزمها خرائط توضيحية من أجل سهولة الحركة، براً وبحراً، وعُرفت الخرائط عند العلماء المسلمين بأكثر من اسم، منها: الصورة، المصوّر الجغرافي، والرسم.

ولم تخرج الخرائط عن أربعة أنواع، كان آخرها وأكثرها تطوراً خريطة الإدريسي التي شهدت بداية تطوير فن الكارتوجرافي، أي رسم الخرائط وصنعها.

أحدث الإدريسي ثورة في علم الجغرافيا عندما رسم خريطة العالم من خلال الرحلات العديدة التي قام بها بشخصه، أو من خلال البعثات التي أرسلها إلى مختلف بلدان العالم ليرسموا له ما شاهدوه وعاينوه من تضاريس وبحار وأنهار.

ولم ينتهِ من رسم الخريطة التي تُعتبر الأقدم في العالم، والتي تتضمن الحدود والتضاريس بشكلٍ قريب لما نعرفه عليها اليوم، إلا في العام 1154؛ أي بعد أكثر من 10 سنوات من بدء عمل الإدريسي عليها.

وأرفقها بعملٍ عظيم في الجغرافيا الوصفية، يُعرف باسم كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"،  وهو عبارة عن نص جغرافي لخارطة العالم.

أول خريطة للعالم بشكل دقيق رسمها الإدريسي، مع الإشارة إلى أنها معكوسة/ وكيبيديا
أول خريطة للعالم بشكل دقيق رسمها الإدريسي، مع الإشارة إلى أنها معكوسة/ وكيبيديا

من هو الإدريسي؟

هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله، وقد وُلد في العام 1100 بمدينة "سبتة" المغربية (إسبانيا حالياً)، والتي كانت تابعة في ذلك الوقت إلى دولة المرابطين. وقد اشتُهر بلقب الإدريسي لأن نسبه يعود إلى إدريس بن عبد الله الهاشمي القُرشي، مؤسّس دولة الأدارسة في المغرب عام 788، قبل أن تسقط في العام 974.

لا يُعرف الكثير عن حياته، لكن يُعتقد أنه من سلالة الرسول، صلى الله عليه وسلم. فيُقال إن مؤسّس دولة الأدارسة هو في الأساس من نسل الرسول، من جهة ابنته فاطمة الزهراء (زوجة علي بن أبي طالب).

كما تذكر بعض المراجع أن أحد أجداد الإدريسي هو المعتلي بالله أبو زكريا يحيى بن علي بن حمود؛ وهو ثالث حكام بني حمود في الأندلس، ومؤسّس طائفة مالقة، التي أسّسها بعدما خلعه أهل قرطبة من خلافة الدولة الأموية في الأندلس.

وبعد سقوط طائفة مالقة تحت سيطرة طائفة غرناطة، انتقلت أسرة بني حمود للعيش في سبتة، أين وُلد العالم أبو عبد الله محمد بن محمد.

درس في قرطبة وزار مدينة أصحاب الكهف 

لا تذكر المراجع معلومات كثيرة عن حياة الإدريسي، باستثناء أنه تلقى تعليمه في مدينتَي سبتة وفاس المغربيتين، قبل أن يواصله في قرطبة الأندلسية التي كانت قُطباً علمياً كبيراً في شتّى المجالات. 

ولكن منذ بداية شبابه، عُرف عن الإدريسي شغفه بالجغرافيا. فقد قال عنه المؤرخ صلاح الدين الصفدي، في كتابه "الوافي بالوفيات": "كان أديباً ظريفاً، وشاعراً، وفوق ذلك مُغرماً بعلم الجغرافيا".

تُشير الموسوعة البريطانية Britannica إلى أن الإدريسي عاش أيضاً في مدينتَي مراكش المغربية وقسنطينة الجزائرية، وأنه قضى فترةً طويلة من شبابه في السفر بين شمال إفريقيا وإسبانيا، ما سمح له باكتساب معلوماتٍ مفصّلة ودقيقة عن المنطقتين.

ومن المُرجّح أن تكون الرحلات التي قام بها في شبابه قد قادته إلى أجزاءٍ كثيرة من أوروبا الغربية، مثل: البرتغال، وشمال إسبانيا، والساحل الأطلسي الفرنسي، وجنوب إنجلترا، قبل أن يزور آسيا الصغرى عندما كان عمره 16 سنة فقط.

وبحسب موقع "الجزيرة"، فإنّ الإدريسي قد زار أيضاً مصر وبلاد الشام، ووقف على خرائب "إفسين"، مدينة أصحاب الكهف في الأناضول التي ذكرها في كتابه الشهير "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق".

فقد وصف الكهف قائلاً: "يُقال إن أفسين هي مدينة أصحاب الكهف، وأما أصحاب الكهف فهم في كهف برُستاق بين عمورية ونيقية (أزنيق التركية) وهذا الكهفُ هو في جبلٍ عُلوّه أقلّ من ألف ذراع، وله سرب من وجه الأرض كالمدارج ينفذ إلى الموضع الذي فيه أصحاب الكهف".

ويتابع قائلاً: "فيه الموتى، وهم أصحاب الرقيم وعددهم سبعة، وهم نيام على جنوبهم وعددهم سبعة، فانية جسومهم، وهي مطلية بالصبر والمر والكافور. وعند أرجلهم كلب راقد في استدارة رأسه عند ذنبه، ولم يبقَ منه إلا القحف، وأكثر أعظمه باقية حتى لا يخفى منه شيء".

رسم توضيحي غربي للإدريسي/ Shutterstock
رسم توضيحي غربي للإدريسي/ Shutterstock

15 سنة لتأليف "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"

توسّعت شهرة الإدريسي تدريجياً في العالم الإسلامي وأوروبا، وصار يُعرف بعالم الجغرافيا الكبير، قبل حتى أن يضع خريطة العالم. ما دفع بملك النورمان، روجر الثاني، إلى دعوته للعمل في بلاطه بصقلية.

ذكر المؤرخ الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات" أن روجر الثاني أرسل بطلب العالم الشهير "ليُصلح له شيئاً من صورة العالم"، قبل أن يكلّفه بمهمات علمية كبيرة. وقد أكد الإدريسي على ذلك في كتابه الشهير، موضحاً أن سبب إرسال الملك بطلبه كان من أجل تحقيق غرضين. 

  • الأول: معرفة حدود دولته الناشئة في جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية، ومعالم هذه الدولة ومدنها وجغرافيتها.
  • الثاني: معرفة "صورة العالم" من خلال صنع كرة أرضية، فضلاً عن صنع خريطة للعالم وجغرافيته.

يُمكن القول إن انتقال الإدريسي للعيش في بلاط الملك روجر الثاني هو بمثابة منعطفٍ حاسم في حياته المهنية، فقد أنجز معظم أعماله العلمية الكبيرة في جزيرة صقلية الإيطالية.

فقد ذكرت الموسوعة العربية "المعرفة" أن الإدريسي كان يبلغ 38 عاماً، عندما غادر المغرب نحو صقلية، ودخل إلى بلاط الملك روجر الثاني سنة 1138. 

وأوضحت أنه عندما التقى الرجلان، شرح العالم العربي لملك النورمان موقع الأرض في الفضاء، مُستخدماً بيضة لتمثيل الأرض. فشبّه الإدريسي الأرض بصفار البيضة، المُحاط ببياضها، تماماً كما تهيم الأرض في السماء مُحاطة بالمجرَّات.

رسم تصوّري للإدريسي في قاعة روجر الثاني وهو بشرح كروية الأرض/ وكيبيديا
رسم تصوّري للإدريسي في قاعة روجر الثاني وهو بشرح كروية الأرض/ وكيبيديا

وفقاً لموقع Face2FaceAfrica، فإن خدمة الإدريسي في صقلية انتهت بـ3 إنجازات جغرافية رئيسية، وهي:

  • كرة فضية تم تصويرها على خريطة العالم.
  • خريطة للعالم تتكون من 70 قسماً، تم تشكيلها من خلال تقسيم الأرض شمال خط الاستواء إلى 7 مناطق مناخية متساوية العرض، كما تم تقسيم كل منها إلى 10 أجزاء متساوية بخطوط الطول.

وقد رسم بنفسه هذه الخريطة بلوحة كبيرة أطلق عليها اسم "لوح الترسيم".

  • نصّ جغرافي يُقصد به أن يكون مفتاحاً للكرة الأرضية.

ويُعرف هذا العمل العظيم في الجغرافيا الوصفية الآن باسم "كتاب روجر"، أو كما يُعرف أيضاً باسم "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق". أمضى الإدريسي في تأليفه 15 عاماً، وقد انتهى منه في يناير/كانون الثاني 1154، قبل أسابيع من وفاة الملك روجر الثاني.

وقد جمع في تأليفه معلومات من الأعمال الجغرافية العربية واليونانية ومعلومات أخرى تم الحصول عليها من خلال الملاحظات المباشرة وتقارير شهود العيان.

توفي الملك روجر الثاني في فبراير/شباط 1154، فخلفه في حكم صقلية ابنه غليالم الأول، من دون أن يغيّر ذلك من وضع الإدريسي الذي احتفظ بمركزه داخل قصر باليرمو. فألّف للملك الجديد كتاباً آخر في الجغرافيا، سمّاه "روض الأنس ونزهة النفس". 

وقد وُجد مُختصر مخطوط من هذا الكتاب في بداية القرن العشرين، بمدينة إسطنبول التركية، تحت عنوان "روض الفرج ونزهة المهج"؛ وهو محفوظ حالياً في مكتبة "حكيم أوغلو علي باشا".

وإذا كانت خريطة العالم و"كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" لا يزالان محفوظين في مخطوطات عدة، فإن الكرة الأرضية الفضية لم يتبقَّ منها أي أثر. ويُقال إن الثوار (وهم النبلاء النورمان) حطموها ونهبوها عند اقتحامهم لقصر روجر في عهد غليالم الأول.

خليج <a href=سان بيترسبرغ كما يظهر في كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"/ الصورة من تويتر " class="wp-image-1077990 js-lazy-me" data-lazy-source="https://arabicpost.net/wp-content/uploads/2023/05/fmwprkawyaeuex_.jpg">
خليج سان بيترسبرغ كما يظهر في كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"/ الصورة من تويتر

أكد كروية الأرض وأشار إلى جاذبيتها

صحيح أنه من أوائل الذين تحدثوا عن كروية الأرض، لكن لا يُعدّ الإدريسي الأول على الإطلاق. فقد سبقه إلى ذلك العالم الإغريقي أفلاطون، وعلماء مسلمون آخرون مثل ابن خرداذبة.

لكن تصميم الإدريسي لمجسّم الأرض، على شكل كرة فضية، وإشارته لجاذبيتها ووضعها في النظام الفلكي، منح لكلامه مصداقية أكثر. كما يُعتبر كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" من أمهات الموسوعات الجغرافية الوصفية في العصور الوسطى، لِما تضمّنه من تعريفات ومصطلحات، وما اشتمل عليه من أعلام وأماكن. 

فقد اعتمد عليه العديد من الجغرافيين المسلمين المتأخرين، مثل الحسن الوزان، وابن سعيد المغربي، وأبو الفداء، وفضل الله العمري؛ كما رجع إليه المَلاحون والمكتشفون في القرنين الـ15 والـ16. 

ومن المُرجح أن تكون رواية الإدريسي عن الإخوة الـ8 المغرورين، الذين توغلوا في بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) -من ميناء لشبونة البرتغالية ووصلوا جزراً نائية على  سواحل غرب إفريقيا- قد شجعت المَلاحين البرتغاليين على مواصلة رحلاتهم الاستكشافية.

كما كانت خارطة الإدريسي للأرض مُنطلقاً لتطوير الخرائط من قِبل العلماء الجغرافيين الأوروبيين، على غرار الإيطالي مارينو سانوتو الذي عاش ما بين 1260 و1338، وتميّز برسم خرائط جغرافية دقيقة عن البحر الأبيض المتوسط وغرب إفريقيا وشرقها. 

وقد نشرت مطبعة ميديشي في روما مختصراً لكتاب "نزهة المشتاق"، تبعته ترجمة له باللغة اللاتينية تحت عنوان Geographia Nubiensis. 

أما الترجمة الكاملة الوحيدة للكتاب، فكانت إلى الفرنسية من قِبل المستشرق والرحالة الفرنسي بيار أميدي جوبار، ونُشرت تباعاً في مجلدين اثنين عامي 1836 و1840 بعنوان La Geographie D'Edrisi.

وإضافةً إلى شهرته في علم الجغرافيا، فقد كان الإدريسي أيضاً فيلسوفاً وعالم رياضيات وفلكيا وطبيباً وعالم نبات. ويُنسب إليه تأليف كتابين مهمين بعنوان: "الجامع لصفات أشتات النبات"، و"كتاب الأدوية المفردة".

وقد وصف في هذا الأخير الأدوية وخواصها والنباتات المُستخلصة منها، مستخدماً اثنتي عشرة لغة، ما يوحي بأنه كان يُجيد التحدث بعدة لغات إلى جانب العربية التي له فيها بعض الأبيات الشعرية المميزة، كتلك التي تحدث  فيها عن معاناته من غربة الوطن:

ليـت شعــري أيـن قبـري ضــاع في الغربة عمـري

لم أدع للعين ما تشتـــاق فـــي بـــر وبـــحـر

لا توجد معلومات عن الحياة التي عاشها الإدريسي في سنواته الأخيرة، كما اختلفت روايات المؤرخين حول مكان وفاته.

يقول البعض إنه عاد إلى مسقط رأسه في سبتة، حيث توفي سنة 1166، فيما يقول آخرون إنه أمضى بقية حياته في باليرمو حتى وفاته في العام نفسه الذي توفي فيه الملك الثاني لصقلية، غليالم الأول.

تحميل المزيد