بعد وقت قصير من بدء البرنامج الوطني للتبرع بالدم، التابع للصليب الأحمر في أمريكا عام 1941، لم يُسمح للطبيب تشارلز درو، بالمشاركة الكاملة في البرنامج، والسبب لون بشرته، مع أنه كان الشخص الذي جعل هذا البرنامج ممكناً.
فقد تم استبعاد الأمريكيين من أصل إفريقي من التبرع بالدم، وحتى عندما بدأت المنظمة بالسماح للسود بالتبرع بالدم، تم فصل الدم حسب العرق دون أي مبرر طبي، الأمر الذي دفع تشارلز درو للاستقالة.
فقد واجه تشارلز الصعوبات طول حياته، والعنصرية من المؤسسات الطبية والتعليمية، على الرغم من أنه كان شخصية ناجحة حققت الكثير في المجال الأكاديمي والرياضي والطبي، وكان أكثر ما عرف عنه، أنه صاحب فكرة بنك الدم التي أنقذت حياة الملايين، وبسبب التقنية التي ابتكرها لحفظ الدم لما نجحت فكرة بنوك الدم حول العالم.
تشارلز درو الرياضي قبل فكرة بنك الدم والمستقبل الطبي
عام 1904 في العاصمة الأمريكية واشنطن، ولد تشارلز درو، لأب يعمل في تركيب السجاد، وأم كانت خريجة معهد المعلمات، في حي للطبقة المتوسطة.
ومنذ طفولته علّمه والداه المسؤولية والالتزام، ولم يكن درو في بداية حياته، متميزاً كثيراً في الجانب التعليمي، لكنه برز وأثبت تفوقه في الجانب الرياضي، وكرّس الكثير من وقته ومجهوده لألعاب القوى، حتى فاز بميدالية "جيمس إي ووكر" عن أدائه الرياضي في سن مبكرة.
حتى ذلك الوقت لم يبدُ على درو أية طموحات طبية مبكرة، وأشار في الكتاب السنوي المدرسي، إلى أنه يتطلع إلى أن يصبح مهندساً كهربائياً، حتى عندما كان في المرحلة الثانوية، كانت إنجازاته في فرق كرة القدم الأمريكية كبيرة، بينما كان مستواه الدراسي عادياً.
لكن كل شيء تغير بعد وفاة أخته الكبرى بعد إصابتها بمرض السل في عام 1920، وبعد دخوله المستشفى بسبب إصابة في كرة القدم، كانت تلك أحداث عززت اهتمامه بالطب، ولكن طريقه لم تكن سهلة على الإطلاق، لأنه خلال تلك الحقبة كان السود في أمريكا يعانون من الفصل العنصري في المؤسسات والمدارس.
وأدى الفصل العنصري إلى تقييد خيارات تشارلز درو للدراسة في كليات الطب، فلم تكن الجامعات تقبل سوى عدد محدود من الطلاب السود، فاضطر درو للسفر إلى كندا والدراسة هناك، كونها كانت أكثر تساهلاً مع السود في الجامعات.
في تلك الفترة عاد درو إلى نشاطه الرياضي السابق في الفرق الجامعية، وفي الوقت نفسه عمل مع أستاذ علم الجراثيم "جون بيتي"، الذي كان يحاول أن يستكشف طرقاً للعلاج عن طريق نقل الدم واستبدال السوائل الأخرى، فكانت تلك المرحلة من حياته هي بداية اهتمام تشارلز درو بموضوع نقل الدم.
بعد نيله الشهادة وعودته إلى أمريكا كان درو يأمل في العمل جراحاً، لكن مرة أخرى وبسبب لون بشرته لم تستقبله المراكز الطبية الأمريكية الكبرى، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن العديد من المرضى البيض في تلك الحقبة كانوا يرفضون العلاج من قبل الأطباء السود.
وجد تشارلز درو في عام 1935، فرصة الانضمام إلى هيئة التدريس في كلية الطب بجامعة هوارد، فأصبح مدرساً لعلم الأمراض، ثم أصبح فيما بعد مدرب الجراحة ثم رئيس الجراحة المقيم في مستشفى فريدمن.
"الدم من أجل بريطانيا" وفكرة بنك الدم
واصل تشارلز درو أبحاثه حول الدم، حتى طور طريقة لمعالجة وحفظ بلازما الدم، أو "تخزينها" لفترات زمنية أطول، كما اكتشف أنه يمكن تجفيف البلازما ثم إعادة تكوينها عند الحاجة.
استُخدم بحثه كأساس لأطروحة الدكتوراه الخاصة به عن بنك الدم، وحصل على درجة الدكتوراه في عام 1940، وأصبح تشارلز درو أول أمريكي من أصل إفريقي يحصل على هذه الدرجة من جامعة كولومبيا.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في أوروبا، أثبت تشارلز درو أهمية فكرته عن بنك الدم وتخزينه باستخدام الطريقة التي طورها، وطُلب منه أن يرأس جهداً طبياً خاصاً يُعرف باسم "الدم من أجل بريطانيا".
قام بتنظيم جمع ومعالجة بلازما الدم من عدة مستشفيات في نيويورك، وشحنها إلى الخارج لعلاج المصابين في الحرب. وأنقذ بذلك حياة الآلاف.
وفي عام 1941، عادت مشكلة العنصرية لتواجه درو مرة أخرى، بعد أن ترأس فكرة أخرى لبنك الدم، هذه المرة لصالح الصليب الأحمر الأمريكي.
عمل تشارلز درو على تطوير بنك الدم لاستخدامه من قبل الجيش الأمريكي، ولكن بعد فترة قليلة هناك، علم درو أن قادة الجيش يطالبون بفصل الدم الذي تبرع به الأمريكيون السود، عن الدم الذي يتبرع به البيض، ولم يرغب الجيش في استخدام الدم من الأمريكيين السود.
وبعد أن طالبهم درو بتوضيح، برروا ذلك بأنهم طلبوا فصل الدم الذي تبرع به السود، لأنه لا يمكن استخدامه إلا للجنود الأمريكيين السود، وهو أمر غير مبني على أي أساس طبي أو علمي، شعر درو بالإحباط من هذه السياسة العنصرية، بعد كل ما قدمه، وعدم معاملة السود بعدالة، فاستقال من منصبه للاحتجاج على العنصرية بعد بضعة أشهر فقط.
إنجازات تشارلز درو وتسمية ابنته على اسم بنك الدم
عاد درو لمهنة التدريس في الجامعة، وأشرف على إنشاء اثنين من أوائل بنوك الدم، واستخدمت باقي الدول التقنية لحفظ وتخزين ونقل الدم دون أن يتلف لإنشاء بنوك الدم الخاصة بهم، ولاحقاً أصبح أول ممتحن أمريكي من أصل إفريقي لمجلس الجراحة الأمريكي.
لكنه ظل يعمل على تطوير طرق تخزين الدم وتطوير عمل بنك الدم، وشغوفاً بالفكرة حتى أطلق على ابنته اسم "BB"، وهو اختصار أول حرفين من اسم بنك الدم "blood bank".
في 1 أبريل/نيسان 1950، تعرض درو لحادث سيارة، ومات متأثراً بجراحه حين كان عمره 45 عاماً فقط، ومنذ وفاته، تلقى درو عدداً لا يحصى من التكريمات، وظهر اسمه في المؤسسات التعليمية في جميع أنحاء أمريكا، لكن اسمه بقي مرتبطاً بأهم إنجازاته وفكرة "بنك الدم" التي أنقذت حياة الملايين.