عُرف ليونارد بلتيير كمناضلٍ سياسي، وأصبح في فترةٍ من الفترات أحد أشهر نشطاء حقوق السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، لكنه اشترك -عن طريق الصدفة- بجريمة قتل عَميلَين تابعَين لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) حتى انقلبت حياته رأساً على عقب.
أُدين في تسعينيات القرن الماضي بقتل العميلَين، وأصبحت قضيته قضية رأي عام ومحط اهتمام الصحافة العالمية، بعد ظهور شبهاتٍ عدة في جلسات محاكمته.
ووفقاً لمنظمة العفو الدولية Amnesty، يُعتبر بلتيير زعيم "الهنود الأمريكيون" وسجيناً سياسياً، لا بل أقدم سجينٍ سياسي في الولايات المتحدة. ويقضي عقوبة السجن مدى الحياة في سجن ولاية فلوريدا، منذ يونيو/حزيران 1977، أي منذ 45 سنة.
من هو ليونارد بلتيير؟
ولد ليونارد يوم 12 سبتمبر/أيلول 1944، بمدينة "غراند فوركس" في ولاية داكوتا الشمالية الأمريكية، وهو الطفل رقم 11 من العنقود الذي يضمّ 13 ولداً، لوالده ليو ووالدته ألفينا.
تطلق والدا ليونارد حين كان في الرابعة من عمره، فعاش لدى جدّه أليكس وجدّته ماري لوالده، اللذين أخذاه معهما لفترةٍ قصيرة إلى مدينة "بالت" التابعة لولاية مونتانا الأمريكية؛ حيث عمل الجدّ في مناجم النحاس، قبل أن تقرّر العائلة الاستقرار أخيراً بمحمية الهنود الأمريكيين "تورتل ماونتن" في داكوتا الشمالية.
ولما بلغ سنّ التاسعة، أرسلته العائلة إلى المدرسة الهندية في مدينة "واهبيتون"، التي تبعد عن "تورتل ماونتن" بحوالي 240 كلم.
هناك، تلقى ليونارد بلتيير تربيةً قاسية، حاله حال كلّ الأطفال الهنود الأمريكيين في ذلك الوقت، حين كانوا يُفصلون عن ثقافتهم الأصلية ويُجبرون على التحدث باللغة الإنجليزية والعيش في عالم "الرجل الأبيض"، بحسب ما جاء في موقع Your Dictionary الأمريكي.
تلقى ليونارد تعليمه في تلك المدرسة على مدى 9 سنوات، وعمل في مراهقته وشبابه في مجال التلحيم والبناء، ثم في ورشةٍ لتصليح السيارات كان يملكها -بالشراكة مع أصدقاء آخرين- بمدينة سياتل في ولاية واشنطن.
وكان الشاب بلتيير وشركاؤه يستعملون الغرفة المتواجدة فوق مبنى الورشة، كمنزلٍ مؤقت للهنود المحتاجين ويساعدونهم في تدبير أمور حياتهم اليومية، وخصوصاً أولئك الخارجين من السجن مثلاً أو الراغبين في التوقف عن إدمان الكحول والمخدرات. وقد تسبّب هذا العمل الخيري، مع مرور الوقت، في إفلاس الشركاء لاحقاً.
تزوج ليونارد بلتيير مرّتين، أنجب خلالهما 7 أولاد، كما تبنّى طفلَين آخرين. وفي العام 1968، حين كان يبلغ 24 عاماً، انضمّ إلى حركة الهنود الأمريكيين (AIM) التي تأسّست في العام 1968 وتدافع عن الحقوق المدنية للسكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية، على رأسها حقهم في الاحتفاظ بثقافتهم الخاصة.
كان ليونارد عضواً نشطاً في الحركة، ومناضلاً فعّالاً؛ ووفقاً لمجلة Paris Match الفرنسية، فقد شارك في عملية الاعتصام داخل قرية "ووندد ني" بالمحمية الهندية "بين ريدج"، التي دامت 72 يوماً (من 27 فبراير/شباط إلى 8 مايو/أيار 1973)).
وقد طالب السكان الأصليون خلال الاعتصام الشهير بتطبيق المعاهدات الدولية، التي تمنع استغلال محميات السكان الأصليين، وبالتالي تمنع استخراج اليورانيوم والغاز الطبيعي من أراضيهم.
كيف اشترك بجريمة قتل شرطيَّين فيدراليَّين؟
بدأت محنة ليونارد بلتيير يوم 26 يونيو/حزيران 1975، عندما كان مجتمعاً مع أعضاء حركة الهنود الأمريكيين داخل مزرعة "جامبينغ بول"، في المحمية الهندية "بين ريدج" بولاية داكوتا الجنوبية.
صودف عقد الاجتماع مع دخول شرطيَّين من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) إلى المزرعة، بهدف توقيف شابٍ -يُدعى جيمي إيغل- كان هارباً من العدالة لارتكابه عملية سرقة بمزرعةٍ مجاورة.
اعتقد الشرطيَّان جاك كولر ورونالد ويليامز أنهما شاهدا سيارة المتّهم داخل مزرعة "جامبينغ بول"؛ وعند اقترابهما منها، جرى تبادلٌ لإطلاق النار بينهما وبين ركاب السيارة، ثم سرعان ما شارك بعض سكان المزرعة في "المعركة الصغيرة" التي انتهت بمقتل أحد أعضاء حركة الهنود الأمريكيين (ويدعى جو ستانز) والشرطيَّين.
ووفق موسوعة Britanica، فإن تقرير الطبيب الشرعي يؤكد أن وفاة الشرطيَّين جاءت نتيجة إصابتهما برصاصةٍ مباشرةٍ في الرأس من مكانٍ قريب، لكن عياراتٍ نارية تسبّبت بجرحهما قبل ذلك كانت أُطلقت عليهما من مكانٍ بعيد.
عملية تشريح الجثتَين أظهرت أن الشرطيَّين الفيدراليَّين قد تعرّضا لجروحٍ غير مميتة، خلال عملية تبادل إطلاق النار، قبل أن يتمّ الإجهاز عليهما بدمٍ بارد بواسطة رصاصةٍ في الرأس.
تمّ الاشتباه بـ4 أشخاص في ارتكاب جريمة القتل، وهم: ليونارد بلتيير، وعضوان اثنان من حركة الهنود الأمريكيين، داريل دين بولتر وروبيرت روبيدو، إضافةً إلى الشاب الهارب من العدالة، جيمي إيغل.
وفي حين اعتُقل بولتر وروبيدو وإيغل، نجح ليونارد بلتيير في الهروب إلى كندا. فيما بعد، حصل المعتقلون الثلاثة على حُكمٍ بالبراءة، لعدم توفر الأدلة المادية التي تُدينهم في قتل الشرطيَّين الفيدراليَّين.
فرار ليونارد بلتيير إلى كندا، زاد من الشكوك حول ضلوعه في جريمة القتل، خاصةً بعد العثور على بصماته في بعض الأغراض الخاصة بالضحيتَين. فوضع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي اسمه ضمن قائمة أخطر 10 أشخاص مطلوبين للعدالة من قِبل الـFBI، في في 22 ديسمبر/كانون الأول 1975.
اعتقال ليونارد بلتيير في كندا وتسليمه إلى أمريكا
لم تستمر فترة هروب بلتيير طويلاً؛ فقد ألقت قوات الدرك الملكية الكندية القبض عليه يوم 6 فبراير/شباط 1976، بمدينة "هينتون" في ولاية ألبيرتا، ثم سلّمته إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد وافقت كندا على تسلميه، اعتماداً على ملفٍّ أُرسل إليها من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي تضمّن -بالخصوص- شهادةً لسيدةٍ تُدعى ميرثل بور بيير، تُدين فيها ليونارد بلتيير بارتكاب الجريمة؛ وهي السيدة التي ظهر لاحقاً أنها تعاني من اضطراباتٍ عقلية!
وعلى الرغم من أنّ القاضي الذي ترأس المحاكمة في ولاية داكوتا الشمالية رفض شهادة السيدة ميرثل بور بيير ضدّ المتهم، باعتبارها غير مؤهلة عقلياً، فإنّ هيئة المحلفين أدانت ليونارد بلتيير بارتكاب جريمتَي قتل من الدرجة الأولى. وحُكم عليه، يوم 2 يونيو/حزيران 1977 بالسجن مدى الحياة في عقوبتين اثنتين.
وبعد إدانته، رفضت المحاكم مراراً وتكراراً طلبات إجراء محاكمةٍ جديدة، رغم استمرار محاميه في الطعن بإدانته، بناءً على استنتاجاتٍ بوجود إخلالٍ بنظام العدالة في المحاكمة الأولية (تلميح للاعتماد على شهادة المرأة غير السوية عقلياً)، إضافةً إلى تلفيق الأدلة، وطمس بعضها.
ومن بين الشبهات المرتبطة بملف القضية، عدم وجود أي شاهد حول مقتل الشرطيَّين الفيدراليَّين، وعدم التعرّف على السلاح الذي أطلق الرصاصات القاتلة.
كما طالب محامو ليونارد بلتيير، في إطار القانون الأمريكي لحرية الوصول إلى المعلومات، برفع السرية عن 170 ألف صفحة من ملف القضية التي لا تزال في أدراج مكتب التحقيقات الأمريكي ووكالة الاستخبارات الأمريكية.
وبحسب الموقع الفرنسي Academic، لم يحصل فريق محاماة بلتيير سوى على 30 ألف صفحة في يوليو/تموز 2002، ولم تكن أبداً كافية لتقديم طلب إعادة محاكمة المناضل في حركة الهنود الأمريكيين.
كلينتون وعد بعدم نسيانه وأوباما رفض منحه العفو
لاقت قضية ليونارد بلتيير مع مرور السنوات، تعاطفاً كبيراً لدى المنظمات الحقوقية الدولية، والشخصيات العالمية المناهِضة للعنصرية، على غرار الحائزين على جائزة نوبل للسلام، نيلسون مانديلا وديزموند توتو والدالاي لاما، إضافةً إلى السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، الذين طالبوا بمنحه العفو الرئاسي.
أما منظمة العفو الدولية، فقد اعتبرت ليونارد بلتيير يوم 6 أبريل/نيسان 1999 مُعتقلاً سياسياً وطالبت بإطلاق سراحه فوراً ومن دون شروط. وقد وعد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون خلال عهده الثاني بأنه لن ينسى ليونارد بلتيير، من دون أن يحرّك ساكناً، كما رفض باراك أوباما منحه العفو الرئاسي في يناير/كانون الثاني 2017، بعد طلبٍ من هيئة الدفاع بسبب تدهور حالته الصحية.
خلال تواجده في السجن، كتب ليونارد بلتيير سيرته الذاتية، وقد حرّرها المؤلف الأمريكي هارفي أردن ونشرها في كتابٍ صدر سنة 1999 بعنوان Prison Writings: My Life Is My Sun Dance.
وقد سرد بلتيير في هذا الكتاب حياته في السجن، وعاد للحديث عن براءته من تهمة قتل العميلَين الفيدراليَّين، مُشيراً إلى أنه كان يتمنى عدم تواجده بالصدفة في ذلك اليوم بمزرعة "بين ريدج"، كما تطرّق لتجربته في تاريخ الشعوب الهندية الأمريكية ونضالاتها في مواجهة الظلم.