كانت باريس في القرن التاسع عشر متحفاً مفتوحاً، يتوافد إليها الرسامون والموسيقيون والمسرحيون من كل العالم، لتصبح عاصمةً للفن العالمي.
في تلك الأجواء الفنية، وُلد ألفونس إيتيان دينيه (ناصر الدين دينيه) عام 1861 داخل قصرٍ على ضفاف نهر السين، خلال عهد الإمبراطور نابليون الثالث. عائلته تعمل في السلك القضائي، وكانت تحظى بعلاقاتٍ وثيقة مع الطبقة الحاكمة، ما جعلها من طبقة النبلاء في فرنسا.
كانت والدة دينيه شديدة الولع بالرسم والموسيقى والشعر والمسرح الإيطالي، مما ربّى عند الطفل ولعاً بالفن وحسّاً فنياً نادراً منذ الصغر. وفي سن العاشرة، اختارت العائلة أن يدخل ابنها مدرسة هنري الرابع -مدرسة النخبة الأرستقراطية في فرنسا- الموجودة بجانب جامعة السوربون والحي اللاتيني والعديد من أشهر معالم باريس الحضارية.
ظل دينيه 8 سنوات في مدرسة هنري الرابع ليتخرج فيها في العام 1879، ويحصل على شهادة البكالوريا. في تلك الفترة كان قد كوّن صداقات عدة، كان من بينها ألكسندر ميلران، والذي سيصبح في العام 1920 رئيساً لفرنسا.
بعد انتهائه من الخدمة العسكرية، كان والد دينيه يتطلع أن يصبح ابنه رجل قانون عملاً بتقاليد العائلة إلا أن الولد لم يداعب خياله إلا الوفاء لموهبته التي طالما حلم بها. وبسبب تحفظ الأب على ذلك، تدخل عمّ دينيه -وهو مدير إحدى أكبر المكتبات في باريس- واستطاع إقناع الوالد بهذا المسار.
على إثر ذلك، التحق دينيه بـ"ورشة جالان" التي أغلقت أبوابها بعد عامٍ واحد فقط، فالتحق بأكاديمية جوليان حيث درس فيها 4 أعوام. لم تركّز الأكاديمية على دراسة الفنون فقط، بل امتدت مناهجها لتشمل مواد في الكيمياء والفيزياء والهندسة وعلوم أخرى.
رحلته إلى الجزائر غيّرت حياته
في العام 1881، أنجز دينيه أولى لوحاته وأطلق عليها اسم "الأم كلوتيلد". تُصوّر اللوحة فلاحة فرنسية بلباسها الريفي التقليدي على ضفاف نهر السين، حيث عاش وتربّى على جنبات حدائقه. بعد 3 أعوام، رسم لوحة "القديس جوليان الكريم" المستوحاة من بعض الأساطير الفرنسية القديمة، لتدخل به هذه اللوحة عالم الشهرة، بعدما حصل على جائزة الشرف لإنجازها.
وفي موعدٍ مع القدر وبعيداً من عالم الفنون، اقترح لوسيان سيمون -صديق دينيه المقرّب، منذ أيام مدرسة هنري الرابع ومرحلة الفنون الجميلة- الانضمام إلى فريقٍ علمي يقوده أخوه للقيام بمغامرة للبحث عن حشرة نادرة يُعتقد أنها في صحراء الجزائر.
ورغم عدم حماسه للرحلة، بسبب ما قد تنطوي عليه من مشقاتٍ ومخاطر، فإن دينيه وافق على الذهاب مع الفريق على مضض واشترط أن تقتصر الرحلة على شمال الجزائر وبعض المعالم الشهيرة.. وستكون تلك الرحلة التي غيّرت حياته إلى الأبد.
عندما وصل إلى أرض الجزائر- التي ستصبح وطناً له فيما بعد- لم يكن دينيه قد تجاوز الـ23 عاماً حينها، في العام 1881. وبعدما عاد إلى فرنسا، تحوّل خوفه من الصحراء إلى انبهارٍ وسحرٍ بحضارة هذه البلاد، التي عاد إليها في العام التالي.
وفي الجو المقفر، ذاب دينيه عشقاً في تموّجات رمال الصحراء، وفي ألسنة ضوء الشمس التي تسطع على الأفق الممتد. وقرّر منذ العام 1887 تقسيم كل عام مناصفةً، بين الجزائر وفرنسا: يقضي الشتاء في فرنسا، وشهور الصيف في صحراء الجزائر، رغم صعوبة المناخ.
وبسبب ولعه الكبير بالجزائر وأهلها ونمط حياتهم، ورغبته الجامحة في معرفة الآخر ومعايشته، قرّر دينيه تعلّم اللغة العربية. فانضمّ إلى معهد اللغات الشرقية عام 1888، في الوقت الذي كانت فرنسا قد قضت فيه على كلّ أشكال المقاومة في الجزائر، حين عاش الرسام الفرنسي زلزالاً داخلياً كبيراً غيّر -على أثره- الكثير من أفكاره وآرائه.
من ألفونس إلى ناصر الدين دينيه.. هكذا اعتنق الإسلام
بينما كان يقوم برسم لوحة "الصعود إلى بوسعادة" في المدينة الجزائرية خلال صيف 1893، يتعرّض دينيه لهجومٍ عنيف من مجموعة يهود اختلط عليهم الأمر وظنّوه رسام آخر قد أساء في الماضي إلى بعض نسائهم.
وفي وسط الهجوم، استشاط أحد المارين غضباً وهاجم اليهود مدافعاً عن دينيه، فأنقذه من بين أيديهم. كان هذا الرجل سليمان بن إبراهيم، الذي سيصبح صديقاً للرسام الفرنسي بعد تلك الحادثة.
بعدها بأشهر قليلة، تعرّض سليمان إلى اعتداءٍ انتقامي بالسكين من مجموعة اليهود نفسها كاد أن يودي بحياته. فتوطدت علاقته بدينيه حين قرّر الأخير ملازمة سليمان لرعايته، وهكذا أصبح الاثنان رفيقين حتى العمر الباقي.
كان سليمان بن إبراهيم يتقن اللغتين العربية والفرنسية، كما كان واسع الاطلاع على الموروث الثقافي الجزائري؛ ما جعله، ليس صديقاً لدينيه فقط، بل مرشداً ومعلّماً له، كما كان له تأثير كبير في اعتناق الرسام الفرنسي الإسلام.
كل شيء كان يُشير إلى تقرّب دينيه من الإسلام؛ اللوحات ذات الطابع الإسلامي، إتقانه للغة العربية، حبّه للفصحى وسرعة تعلّمه للهجة الجزائرية العامية، حبّه للجزائريين وتمضية الكثير من الوقت معهم، إضافةً إلى معرفته لبعض رموز الحركات الإسلامية، وإطلاعه على التراث الأدبي العربي مثل سيرة عنترة.
إلى أن قرّر في العام 1913 اعتناق الإسلام، داخل الجامع الكبير بالعاصمة الجزائرية، وبحضور العديد من العلماء والمفكرين المشهورين. فقد كان لإسلام دينيه أصداء كبيرة داخل الجزائر.
اتخذ ألفونس اسم ناصر الدين دينيه، وأوصى بأن يُدفن وفق التعاليم الإسلامية بعد مماته، في مقابر المسلمين بمدينة بوسعادة التي أحبّها كثيراً وأنجز الكثير من أعماله فيها.
سليمان بن إبراهيم باعمر لمن يزور الجزائر هو مجرد دليل سياحي، بينما كان لناصر الدين دينيه خير الرفيق والمرافق في مغامرات الحياة والموت أيضاً، حيث دُفن الرجلان جنباً إلى جنب، وحجّا معاً.
أسلم ألفونس على يد سليمان بعدما درس تعاليم الإسلام، واختار أن يكون ناصر الدين وأن يتوّج مساره -رفقة سليمان- بتأليف "حياة محمد"، و"محمد رسول الله"، و"الشرق في نظر الغرب"، و"الحياة العربية"، و"خضراء أولاد نايل" .
عن إسلامه، قال دينيه: "عرفت الإسلام، فأحسستُ بانجذابٍ نحوه وميلٍ إليه، فدرسته في كتاب الله، ووجدت فيه ما يكفل خير الإنسان روحياً ومادياً واتخذته ديناً، وأعلنت ذلك رسمياً على رؤوس الملأ".
ساهم ببناء مسجد باريس وكتب عن السيرة النبوية
على عكس باقي الأوروبيين الذين كانوا يسكنون في الحي الأوروبي، عاش ناصر الدين دينيه في الحي العربي؛ وهو الأمر الذي أخاف قادة الاستعمار في الجزائر، الذين كانوا يعملون دوماً على فصل المجتمع الفرنسي والأوروبي عن الجزائريين.
يقول عالم الاجتماع والمستشرق الفرنسي جاك بيرك: "لقد استولى الشرق منذ مدة طويلة على دينيه، فقرّر الاستقرار في بوسعادة". وفي كتابه "المغرب بين حربين"، يستكمل بيرك كلامه واصفاً تمرّد ناصر الدين دينيه على سياسة الفصل العنصري للاستعمار:
"شخص مثل دينيه يُحيّر ويُخيف، إنّها حرب صامتة ومتواصلة بين الرسام والضباط. لقد ساهم -من خلال علاقاته- بالتوسط لدى الحكام العسكريين الفرنسيين لحلّ الكثير من قضايا المدنيين البسطاء، الذين قهرتهم آلة الحرب الفرنسية".
فمن خلال علاقاته بالسلطات الفرنسية، استطاع دينيه رفع الحكم العسكري عن مدينة بوسعادة والحصول على سلطة مدنية تعمل على ترتيب شؤونها، بجانب السلطة العسكرية الفرنسية.
في الوثائقي الذي أنتجته شبكة "الجزيرة" عن الرسام والكاتب الفرنسي، عرض المخرج الجزائري أسامة الراعي بعض المخطوطات والمراسلات التي طالب فيها دينيه قوات بلاده برفع أيديهم عن مدينة بوسعادة، التي قضى فيها ما تبقى من عمره.
كما تحدث الوثائقي، الذي عُرض في العام 2016، عن صدمة الفرنسيين بعد إسلامه سنة 1913، وهو الذي كان يُنتظر منه التبشير بالمسيحية وسط أهالي الجزائر. فوقع ناصر الدين دينيه بين التخوين والمقاطعة، وأُقصيت لوحاته -التي كان الطلب عليها كبيراً في السابق- من الجوائز والتتويجات.
لكن كل ذلك لم يكسر عزيمته؛ فقد واصل الرسام الفرنسي اشتغاله وانشغاله بالمعرفة، وقال بالكتابة ما لم تسمعه اللوحة والريشة.
ظلّ ناصر الدين دينيه وسط أهالي بوسعادة لمدة نصف قرن من الزمان؛ يأكل من طعامهم، ويحضر أفراحهم وأتراحهم، يصلّي معهم، وينقل مشاهد حياتهم اليومية عبر لوحاته النابضة إلى العالم كله.. وهو ما أخاف المستشرق بيرك، الذي رأى أنه يشنّ حرباً ثقافية تهدّد الاستعمار أكثر من المقاومة المسلحة. فقد استطاع ناصر الدين دينيه أن يجعل من بوسعادة معلماً حضارياً يصطف بجانب روائع الفن العالمي.
عدد اللوحات التي خصّ بها بوسعادة وحدها فاقت 130، تعكس جميعها عشقه للمدينة على بساطتها ونظرته لأهاليها، وسرّ انسجامه مع عاداتهم. ويُقال إنه أصبح "بوسعادي" الهيئة واللسان أكثر من سكانها الأصليين، واشتغاله على بعض التفاصيل التي تنفرد بها البيئة الثقافية والاجتماعية للمنطقة جعل ريشته تتميز عن أعمال أبناء جيله من الفنانين التشكيليين.
بعد إسلامه، وفي العام 1918، ألّف ناصر الدين دينيه أول كتابٍ يسرد السيرة النبوية باللغة الفرنسية مع صديقه سليمان. وعام 1922 أنجز كتابه "الشرق في مرآة الغرب"، والذي فنّد فيه آراء المستشرقين الذين يشكّكون في الإسلام ويسيئون إلى المسلمين.
سعى دينيه كذلك إلى بناء مسجد في فرنسا بمعاونة أصدقائه الفرنسيين والجزائريين، فقد كان ضمن لجنة بناء هذا الصرح الديني، الذي أُطلق عليه اسم "مسجد باريس الكبير" وأفتُتح سنة 1926.
في العام 1929 ذهب ناصر الدين دينيه مع رفيق دربه سليمان لأداء فريضة الحج، حيث وجد إشراقات روحية جديدة جعلته أكثر تمسّكاً بالإسلام. وبعد عودته من الحج بفترة قصيرة، وفي 25 ديسمبر 1929 توفي ناصر الدين دينيه وأُقيمت له حفلة تأبين كبيرة في مسجد باريس حضرها رجال الدولة ومشاهير العلماء. ولتحقيق وصيته، نُقل جثمانه ليُدفن في بوسعادة كما أراد، حيث رسم أكثر أعماله الفنية التي خلدت ثقافة الشرق التي أحبَّها ووهب حياته لها.