يعتقد الكثير من متابعي الفن الشعبي المغربي "العيطة"، أن "خربوشة" هي شيخة من شيخات هذا الفنّ الغنائي، لكن الواقع يختلف عن ذلك تماماً، وإن كان يدور في فلكه.
صحيح أنها حقاً صاحبة تلك الأبيات الشعرية الملحنة، والتي يُقال عنها "أهازيج"، إلا أنها كلمات خرجت من وجدانها لتروي حكاية وجعٍ عاشته -هي وقبيلتها- وواجهوا من خلالها حاكمٍ ظالم.
وإذا كان لا بدّ يوماً أن نروي سيرة حياة النساء المغربيات اللواتي واجهن الظلم والاستبداد، وأشعلنَ وميض الثورة، فمن المؤكد أن "خربوشة" ستكون على رأس القائمة إذا ما عُدنا إلى منتصف القرن التاسع عشر.
هي قصة شاعرة انتفاضة "أولاد زيد" الشهيرة، بوجه القائد عيسى بن عمر العبدي؛ استخدمت الشعر لنصرة قومها، وسلّطت لسانها لتنتقد ممثلي المخزن بأعلى صوت، قبل أن يتمّ إسكاتها وتتعرّض لكلّ أنواع الظلم، تختلف المراجع حول شكله.
كذلك لا توجد مراجع تاريخية مُوَثَّقة تتحدث عن حياة "حادة الزيدية" المعروفة باسم "خربوشة"، كما لا توجد أي صورة حقيقية لها (هناك صورة وحيدة متداولة من دون أن يتمّ التأكد من صحتها) لكن حكايتها معروفة عند الكثير من المغاربة، من خلال الروايات الشفهية المتوارثة من جيلٍ إلى آخر، ومن خلال أشعارها التي أسهم مغنّو فن "العيطة" المغربي في تخليدها.
"العيطة" نوع من الشعر يحتاج إلى تشفير
و"العيطة" هو فن مغربي يندرج شعره تحت خانة الشعر العربي المعروف بـ"الجزل"، والذي يُنظم باللغة المحكية المتداولة في البلدة أو القبلية أو المنطقة أو البلد ككل، وهو غالباً ما يكون ارتجالياً ومتحرّراً من قيود القافية وقواعد النحو والإعراب.
استخدمت الشعر لنصرة قومها، وسلّطت لسانها لتنتقد ممثلي المخزن بأعلى صوت، قبل أن يتمّ إسكاتها
ظهر فن "العيطة" في عصر سلاطين المغرب، أي منذ قيام الإمبراطورية المرينية في القرن الثالث عشر، وانتشر بقوة خلال فترة الاستعمار الفرنسي للبلاد، لأنه يعتمد على أشعارٍ تحمل معاني مُشفّرة لا يفهمها إلا أصحاب الأرض.. فكان وقتئذٍ وسيلةً للتواصل بين المقاومين في كفاحهم ضدّ العدو.
فكلمة "عيطة" متداولة في المغرب العربي، ولها عدة معانٍ أبرزها: "الصُّراخ"، و"الصيحة"، و"النداء"؛ وبالتالي فهي معانٍ إذا أسقطناها على هذا النوع من الشعر الشعبي فإنّها تُشير إلى الثورة وبث الحماس في نفوس المقاومين ضدّ الظلم والاستبداد.
عاشت خربوشة في فترة حالكة من تاريخ المغرب
وُلدت خربوشة وعاشت وماتت بإقليم عبدة في شمال مدينة آسفي، غرب المغرب، وتحديداً ضمن قبيلة أولاد زيد، وذلك خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر (لا يوجد تاريخ مؤثّق لتاريخ ولادتها).
وتقول بعض الروايات إن سبب إطلاق اسم "خربوشة" عليها يعود إلى أن وجهها كان يحمل ندوباً من آثار مرض الجدري؛ كما أُطلقت عليها تسمياتٌ أخرى كـ"الكريدة"، أي صاحبة الشعر الأجعد.
لكن روايات أخرى ناقضت هذه الأوصاف، حين ذكرت أن خربوشة كانت ذات جمالٍ مميز، مستندة إلى الاسم الآخر الذي كان يُطلق عليها وهو "زروالة"، أي صاحبة العينين الزرقاوين.
عاشت خربوشة خلال فترة حالكة من تاريخ المغرب، تميزت بأزمة مالية خانقة، كان خلالها الشعب هو المتضرر الأكبر من فرض الضرائب. حينها طبّق السلطان مولاي الحسن الأول، آخر ملوك الإمبراطورية الشريفية، سياسة التقشف في البلاد حتى يتفادى إغراق دولته في الديون الخارجية، ويتجنب بالتالي منح القوى الاستعمارية الكبرى فرصة التدخل في شؤون السلطنة، وفتح الباب على مصراعيه لاحتلال البلاد.
وسعى السلطان مولاي الحسن الأول أن يجعل الحكم مركزياً، وأن يبسط سلطة الدولة على كل القبائل دون تمييز، ولكنه واجه رفضاً ومقاومةً من بعض القبائل في دفع الضرائب التي كانت تخنق سكانها.
في يونيو/حزيران من العام 1894 توفي السلطان مولاي الحسن الأول، فخلَفه على العرش أصغر أبنائه مولاي عبد العزيز، الذي كان يبلغ حينها من العمر 16 سنة فقط؛ ما جعل السلطة الفعلية بيد الصدر الأعظم للدولة، أحمد بن موسى الشرقي البخاري- المعروف باسم "با حماد"- والذي كان يشغل من قبل منصب حاحب السلطان مولاي الحسن الأول.
وبحكم أن السلطة كانت بيد "باحمد"، فقد واصل سياسة التقشف التي اعتمدها السلطان مولاي الحسن الأول. واستمرت بذلك ثورات بعض القبائل الرافضة لدفع الضرائب، وكانت أكثر حدة من طرف قبائل الرحمانة ودكالة وعبدة بغرب البلاد.
وفي هذه الفترة بالذات ظهرت شخصية خربوشة الثائرة، رفقة أفراد قبيلتها أولاد زيد في وجه قائد عبدة، عيسى بن عمر، أحد أبطش ممثلي المخزن في ذلك العصر.
ثورة خربوشة وقبيلة أولاد زيد ضدّ عيسى بن عمر
وعيسى بن عمر العبدي هو قائد مخزني مغربي، عُيّن على رأس منطقة عبدة في عهد السلطان عبد العزيز بن الحسن، خلال فترة وصاية باحماد. كان من أبرز القياديين الكبار في المغرب خلال الـ30 سنة التي سبقت فترة الاستعمار الفرنسي.
تُثير شخصيته تقييمات متناقضة في الذاكرة التاريخية الجماعية بالمغرب، لكن صورته المرسّخة في الأذهان هي سلبية بشكلٍ عام.
فقد اشتهر عيسى بن عمر ببطشه وبقسوته، وبالمجزرة التي ارتكبتها قواته في آسفي لقمع انتفاضة أولاد زيد المعروفة بعام الرفسة. وصفه المؤرخ أحمد بن محمد الصبيحي بالحجاج بن يوسف الثقفي في مؤلفه "عيسى بن عمر وفظائعه".
وجاء في كتاب "عيسى بن عمر قائد عبدة" لمصطفى فنيتير: "لم تكن انتفاضة أولاد زيد (قبيلة خربوشة) في منتصف عام 1895 سوى حلقة من سلسلة الفتن والأهوال التي عصفت بالمغرب، بعد وفاة السلطان مولاي الحسن الأول، آخر ملوك الإمبراطورية الشريفة".
وأضاف: "في ذلك الوقت كانت البلاد تعيش تحت وطأة أزمةٍ مالية خانقة لمدة نصف قرن، واعتبر المخزن (الدولة) في ذلك الوقت أن فرض المزيد من الضرائب هو أحد الحلول الرئيسية، بعدما أصبحت المورد الرئيسي لخزينة الدولة. ومما زاد الطين بلة تعسّف القادة وممثلي المخزن، الذين وسّعوا نفوذهم وراكموا الثروات على حساب القبائل".
وتابع الكاتب: "استغلّت القبائل المتمردة انشغال المخزن بنقل العرش ووجود قاداتها في فاس لتقديم البيعة للسلطان الجديد، فقلبت الطاولات في وجوههم. ومع ذلك، وعلى عكس أي توقع، نجت إيالة القائد عيسى بن عمر من هذه الموجة من الثورات. فعندما عاد عيسى بن عمر إلى عبدة، وجد بيته في أفضل حالة، فأظهر للقبيلة كل عطف ورضا، وكافأ نبلاءها على حسن استقامتهم".
وبالموازاة مع إبدائه الرضا تجاه قبائل إقليمه، فضّل عيسى بن عمر أن ينتهج سياسة جديدة، توجساً من المستقبل. فقد عمد إلى تقريب قبائل أخرى من خارج إيالته من دكالة وأحمر، لاعتمادها سنداً خارجياً عند الحاجة، وصار يمدّها بالخيل والسلاح احتياطاً، حتى لا يقع به وبداره يوماً ما وقع بغيره.
تُثير شخصية القايد عيسى بن عمر تقييمات متناقضة في الذاكرة التاريخية الجماعية بالمغرب..
لكن صورته المرسّخة في الأذهان هي سلبية بشكلٍ عام
قبيلة أبناء زيد كانت الأكثر تضرراً من قسوة الطبيعة وقلة الحصاد وقتئذٍ، واشتكى معظم سكانها من سياسة القائد، الذي أثقل كاهلها بالنفقات وسعى إلى تهميشها وإذلالها عندما أمرها بتجريدها من الخيول والأسلحة. لذلك، ودائماً وفقاً للكتاب نفسه، "فقد أشعل بيده نار الحرب، التي هزّت كل ممتلكاته لمدة عامين".
أبيات خربوشة الخالدة في هجاء القائد عيسى بن عمر
قاد ثورة أولاد زايد الحاج محمد بن ملوك الزرهوني، الذي لم يكن سوى صهر القائد عيسى بن عمر، كذلك فقد وجد الثوار إلى جانبهم جندياً باسلاً لم يكن يحمل سيفاً ولا بندقية، كان يحارب فقط بالكلمات. لم يكن ذلك الجندي سوى الشاعرة خربوشة، التي كانت كلماتها أقوى من البارود والرصاص، وأرعبت ممثل المخزن.
يُروى أن خربوشة كانت تبثّ الحماس بين رجال قبيلتها قبل الدخول في الاشتباكات أو المعارك مع جنود القائد عيسى بن عمر، كما نظمت أشعاراً فضحت من خلالها ظلم ممثل المخزن وبطشه، وكانت كلمات "عيوطها" (جمع عيطة) تُتداول بين القبائل المغربية الأخرى.
ومن أهم الأبيات التي ألقتها خربوشة في هجاء عيسى بن عمر، وبقيت خالدة حتى يومنا هذا، تلك التي قالت فيها:
والأيام الأيام أيام القهرة والظلام فينك يا عويسة وفين الشان والمرشان
شحالْ غيرتِ من أعباد شحال صفيتي من أسْياد
ومعناها باللغة العربية الفصحى: "أيام القهر والظلم.. أين أنت يا عيسى وأين الشرف.. كم غيرت من الناس.. وكم قتلتَ من أسياد".
وقد استعملت خربوشة اسم "عويسة" في هذه الأبيات عن قصد، بدلاً من "عيسى"، بهدف تصغير قيمة القائد المتسلط. وعدّدت هذه الصفات القبيحة لعيسى بن عمر في أبياتٍ هجائية أخرى، قالت فيها:
حركتِ الغلة وسْبيتي الكسيبة وصُكتي النسا كيف النعام
يتمت الصبيانْ بالعرام سير آ عيسى بن عمر
يا وكال الجيفة يا قتال اخُوتو يا محلّلْ الحرام وايلييي
ومعناها: "استوليتَ على الغلة والحصاد، واعتديتَ على النساء مثل الجبناء، ويتّمتَ الكثير من الأطفال.. ارحل يا عيسى بن عمر آكل الجيفة (وهو مصطلح يستعمل لأكل مال الحرام)، يا قاتل إخوانه، و يا من حلّلت الحرام".
لا تُعرف بالضبط المدة التي استمرت فيها ثورة أولاد زيد، ولكن معظم المراجع تحدّدها ما بين 6 أشهر وسنتين، وتُطلِق عليها اسم "عام الرفسة"، كما تشير أيضاً إلى حادثة شهيرة وحزينة كانت حاسمة في نهايتها.
وتتمثل هذه الحادثة في أنّ عامل مدينة آسفي، سعى إلى الصلح بين الطرفين المتقاتلين، وقد وقع الاختيار على مخزنٍ كبير لتاجرٍ إسباني في المدينة يُدعى "خورخي"، من أجل احتضان اجتماع الصلح في أحد أيام شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1895.
ولكن القائد عيسى غدر بزعماء قبيلة أولاد زيد وقتل العديد منهم خلال الاجتماع، وكان من بينهم زعيم الثورة محمد بن ملوك الزرهوني، كما اعتقل 800 شخصٍ من رجاله وتمّ تعذيبهم والتنكيل بهم.
نهاية حزينة لخربوشة وروايات مختلفة حول وفاتها
لا يُعرف بالضبط قصة وفاة خربوشة؛ لكن وفقاً لموقع "نون بوست" فإنّ بعض الروايات تشير إلى أن القائد عيسى بن عمر قتل كلّ أفراد أسرتها، وبعد أن سجنها أمر باقتلاع لسانها، انتقاماً لكبريائه من القصائد التي كانت تُلقيها.
ونقلت روايات أخرى أنها هربت إلى أخوالها في قبيلة الشاوية، قبل أن يُلقي رجال المخزن القبض عليها ويتمّ إرسالها إلى "الحضرة الشريفة" في الرباط، لكن عيون عيسى بن عمر ترصّدتها وهي في طريقها إلى السلطان، فخطفتها وقتلتها.
وتوجد قصة مغايرة تقول إنّه وبعد استعطافها لعيسى بن عمر "حنّ" قلبه، فاستمهل النظر في أمرها، ولما طلبها من سجانها المدعو "الشايب"، أجابه بأنه فتك بها بعدما أغاظه هجاؤها لسيّده وقائده. ومن شدّة غضب القائد وحسرته المريرة على خربوشة أمر بأن يُجلد "الشايب" حتى يعجز عن الكلام.
ماتت خربوشة أو "حادة الزيدية" قتلاً، من دون أن يؤكد التاريخ الرواية الأصلية. لكن قصتها بقيت خالدة في الذاكرة الجماعية المغربية، وستبقى ما دام عدد من فناني وطنها سعوا لتكريمها والتعريف بكفاحها ضدّ الظلم والاستبداد من خلال المسرحيات أو الأفلام أو غناء شعرها.يُمكن القول إن أبرز فيلمٍ سينمائي قُدّم عن حياتها كان للمخرج المغربي حميد زوغي، الذي أُنتج في العام 1998، والذي حمل عنوان "خربوشة". كما غنّى عدة مطربين كلمات شاعرة الثورة الراحلة، وخصوصاً تلك التي هجت فيها القائد عيسى بن عمر، لعلّ أحدثهم سكينة فحصي.