لم تبدأ قصة أناتولي موسكفين وقت القبض عليه عام 2011، ولكنها بدأت قبل ذلك بعامين. في صباح أحد أيام شتاء عام 2009 لاحظ أحد حراس المقابر في مدينة "نيجني نوفغورود" الروسية أن هناك قبراً تبدو عليه علامات النبش والعبث، ولما تحقق من القبر وُجد أنه بالفعل قد تعرض للنبش، وهو أمر ليس معتاداً في المدن المتطرفة في روسيا.
ولكن بعد فترة قصيرة لاحظ بعض السكان المحليين أن هناك بعض القبور تبدو عليها علامات النبش، وهنا كان لا بد أن يقوم البعض بإبلاغ السلطات، التي قامت بمراقبات عديدة للجبّانات والمقابر في المدينة، وفي إحدى الليالي كان على رأس قبر مفتوح رجل غامض ومعروف بالسمعة الطيبة، أستاذ التاريخ واللغويات القاطن قُرب المقابر "أناتولي موسكفين"، وكانت هذه الواقعة بداية لاكتشاف مروّع هزّ عالم الجريمة في روسيا والعالم كله.
أناتولي موسكفين.. الرجل الذي لم يُثر أي شكوك
ولد أناتولي موسكفين في مدينة "نيجني نوفغورود" غرب روسيا قرب ضفاف نهر "الفولجا"، ونشأ في المدينة طفلاً هادئاً منعزلاً عن أقرانه من الأطفال؛ بل ووصفه والداه بأنه كان غريب الأطوار وليس له أصدقاء، ولكنه كان متقد الذهن وذكياً بشكل كبير، واعتقد والده آنذاك أن لارتفاع نسبة ذكائه علاقة بهذه الغرابة.
وفي طفولته- كما اعترف لاحقاً- تعرض لعدة حوادث كانت سبباً في تغير مسار استقراره النفسي تماماً، أبرزها تعرضه للضرب والتحرش الجنسي في سن 9 سنوات، والتي لم يجرؤ على الإبلاغ عنها أو حتى إخبار والديه بها.
ونشأ موسكفين نشأة هادئة تميل إلى الكتمان، ولكنه كان بارعاً في دراسته للتاريخ وفقه اللغة الروسية وافتتن بدراسة اللغات، عمل بالصحافة وسافر كثيراً على نطاق واسع، وتحدث 13 لغة، ولكن بحسب ما أظهرته التحقيقات لاحقاً كان لديه هوس غريب بالموت والحياة ما بعد الموت.
فقد عُرف على نطاق أكاديمي ومحلي بكونه خبيراً في المقابر، وكانت له سلسلة وثائقية لم تنشر من مسيرته بعنوان Great Walks Around Cemeteries وWhat the Dead Said، كما أطلق عليه في الأوساط الأكاديمية الروسية اسم "سيد المومياوات"، نظراً لمسيرته الاستكشافية التي استمرت لمدة 30 عاماً في عالم دراسة التحنيط، والتي قام بها من خلال زيارة 752 مقبرة في "نيجني نوفغورود" وحدها.
الواقعة التي أسقطت موسكفين
في العام 2011، وبعد مراقبة المقابر التي بدت عليها آثار النبش، تم اعتقال "أناتولي موسكفين" بقرب أحد القبور المفتوحة، وبعد استجوابه بدت أقواله متناقضة ومرتبكة، واعترف بأنه يدرس الموتى والتحنيط، وأن له عدة مقالات أكاديمية حول الموت وما بعده.
ولكن قوات الأمن استعانت بمحققين من إدارات جرائم القتل، والذين أصروا على أن هذه الرواية ليست مبرراً لنبش القبور، واستصدروا أمراً بتفتيش منزله، وعندما دخلت قوات الشرطة غرفته فوجئت بمجموعة كبيرة من المجسمات والعرائس كبيرة الحجم، وكلها متراصّة بشكل عشوائي في غرفته، وبدأ الرعب يسيطر على الجميع عندما لمس أحد رجال الشرطة إحدى العرائس، والتي كان لها ملمس غريب.
بالفحص الأوّلي تبيّن أن هذه العرائس ما هي إلا جثث محنطة لفتيات صغيرات، تتراوح أعمارهن بين 9 إلى 11 عاماً، وكانت الجثث مُزينة ومنمقة، وترتدي ملابس طفولية غير التي دفنت بها.
اعتقلت الشرطة موسكفين على الفور، وبدأت التحقيقات في إظهار الحقائق المروعة، فبحسب اعترافاته فإنه حوّل 29 جثة فتاة إلى عرائس عن طريق التحنيط، واعترف بأنه فعل ذلك بدافع التعاطف مع تلك الفتيات، وأشفق عليهن من برودة ووحشة القبر.
واعترف بأنه كان يحب الفتيات الصغيرات، وحاول أن يتبنى فتاة بعد أن فشل في الزواج والإنجاب، لكن السلطات لم تسمح له.
واعترف موسكفين بأنه لم يدنس أياً من جثث الفتيات بأي فعل جنسي، ورفض رفضاً باتا اتهامه بالبيدوفيليا "الهوس الجنسي بالأطفال"، واعترف بأنه لا ينجذب جنسياً للجثث أيضاً "مرض النيكروفيليا".
الاعترافات والتقييم النفسي
كان قد عثر في بيت موسكفين على صناديق- وأحياناً ألعاب موسيقية- داخل أجساد الفتيات الميتات حتى يتمكنّ من إنتاج أصوات عندما يلمسهن موسكين مثل العرائس التي تُصدر الموسيقى، كما عُثر على متعلقات شخصية، وملابس للفتيات دُفِنَّ بها، داخل بعض المومياوات، وفي إحدى المومياوات كانت هناك قطعة من شاهد قبر، مكتوب عليها اسم الضحية داخل جسدها، واحتوت أخرى على بطاقة بيانات مستشفى تحمل تاريخ وفاة الفتاة وسببها، كما عُثر على قلب بشري مجفف داخل مومياء أخرى.
وفي التحقيقات وبعد أن بدت اعترافات موسكفين غريبة وشاذة؛ أخبر المحققين- وذكرها في كتاب له لاحقاً باسم "Necrologies" أي "قوائم الموتى"- بحادثة تعرض لها في صغره، والتي ربما كانت أقرب لتفسير هوسه الغريب بالموتى والجثث، ففي عام 1979 وفي سن 13 عاماً أوقفته مجموعة من الرجال أثناء تشييع جثمان فتاة تبلغ من العمر 11 عاماً، في طريق عودته من المدرسة، ومن ثم أجبروه على الوقوف أمام جثة الفتاة، وتقبيل جثتها.
واعترف بأنه لم يشعر بالخوف، وقام بتقبيل الفتاة الجميلة الميتة، وبعدها وضعت والدة الفتاة الحزينة خاتم زواج على إصبعه، ووضعت خاتماً آخر على إصبع ابنتها الميتة، فيما بدا وكأنه عرس أخير للفتاة قبل توديعها.
وبرغم أن القصة قد تبدو خيالاً بحتاً من أفكار شخص مهووس بالموتى؛ فإن هذه القصة كانت سبباً في إدراك أن عقلية موسكفين غير مستقرة، ومن ثم عرضته السلطات على أكثر من خبير نفسي.
وكانت النتائج كلها متوقعة، إذ أقر الخبراء النفسيون والأطباء أن أناتولي موسكفين مصاب بأكثر من مرض هوسي، فهو في حالة عقلية مَرضية لا تؤهله للمحاكمة، وتحولت محاكمته الجنائية إلى حكم بالإيداع في مصحة عقلية للعلاج بدون فرصة لإطلاق سراحه، والتي بقي فيها حتى يومنا هذا.