إذا زرت إسطنبول أو أيّ مدينةٍ تركيةٍ أخرى فإنّك ستسمع العديد من أسماء القادة والرؤساء الذين تتسمّى بهم الشوارع والمستشفيات والمؤسسات، وأحد هذه الأسماء الشهيرة جداً غازي عثمان باشا، ذلك القائد الفذّ الذي قاوم الجيش الروسي الضخم الذي يحاصره منذ 5 شهور، بل كاد يهزمه بجيشه الذي لم يعد يملك ذخيرة بسبب الحصار القاسي.
قصّة هذا القائد فريدة جداً، ولا تتكرّر كثيراً. نعم تكرّر في التاريخ أن يحترم الأعداء بعضهم بعضاً، بسبب بسالتهم وشجاعتهم، لكنّ ما لم يتكرّر كثيراً هو شجاعة غازي عثمان باشا الاستثنائية أثناء حصار الروس له ولقواته في مدينة بليفنا في بلغاريا.
روسيا.. العدوّ اللدود للعثمانيين
منذ أن ظهرت روسيا في القرن السابع عشر على مسرح الأحداث باعتبارها قوّةً عالمية تحاول أن تحجز لها مكاناً ضمن مقاعد الدول العظمى في ذلك الوقت، وكان عدوّها اللدود هي الدولة العثمانيّة. ليس فقط لأنّ الروس اعتبروا أنفسهم وريثي الدولة البيزنطية والمسيحية الأرثوذكسية، وبالتالي فهم يطالبون ويخططون لأخذ إسطنبول، باعتبارها كانت موطن الأرثوذكسية طيلة قرون، ولكن لأنّ الموقع الاستراتيجيّ للدولة العثمانية منع روسيا من أمورٍ كثيرة.
على مرّ العصور كانت روسيا دولةً بريّة ضخمة ومترامية الأطراف، لكنّها لم تكن يوماً دولةً بحريّة، فمنافذها البحرية على المحيط الهادئ في الشرق وعلى بحر البلطيق في الغرب، يمنعها الثلج في فصل الشتاء من أن تكون موانئ بحريّة، وهكذا كان السعي الروسي عبر التاريخ يتمثّل في: توفير تواجد بحري لها في المياه الدافئة، ما يعني البحر المتوسّط.
كانت الدولة العثمانية (وتركيا الحالية) تاريخياً هي الحائل بين روسيا من ناحية وبين البحر المتوسّط، ومهما اختلفت الحكومات أو السلالات الحاكمة، كانت تركيا بموقعها الحالي تمثّل أزمةً بالنسبة لروسيا.
كان المعبّر الحقيقي عن هذه الأزمة أو العَثَرة هو بطرس الأكبر، ويعتبر أحد أعظم من حكم روسيا عبر التاريخ. حكم بطرس الأكبر 40 عاماً، من عام 1682 وحتى عام 1725، وفي سنين حكمه برزت روسيا قوةً عالميةً عظمى.
للتدليل على ما قلناه سابقاً نستشهد بحدثين في حياة بطرس الأكبر، الأوّل أنّه بنى مدينة بطرسبرغ وجعلها عاصمته، بناها على سواحل بحر البلطيق في أوروبا، وهو بهذا يجعل دولته دولةً أوروبية وليست آسيوية، كما أنّ اختياره لمدينة ساحلية له دلالته، من أنّ روسيا تحاول دائماً أن تصل لمياه ساحلية، لكنّ بحر البلطيق ليس مثل البحر الأبيض المتوسط.
ولهذا كتب بطرس الأكبر عدّة وصايا لخلفائه، التالي: "ينبغي التقرُّب بقدر الإمكان من إسطنبول، فمن يتحكّم في إسطنبول يمكنه حقيقةً التحكُّم في بقية العالم، ولذلك ينبغي لنا أن نحارب الدولة العثمانية دائماً".
وهكذا كان الصراع الدائم بين العثمانيين والقياصرة الروس. وبالإجمال فقد قامت بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية قرابة 12 حرباً كبيرة، كاد العثمانيون في إحداها أن يأسروا قيصر روسيا، بطرس الأكبر نفسه، بينما كانت كفّة الانتصارات بشكلٍ عام تميل للروس، ويمكنك القراءة بالتفصيل عن هذه الحروب في هذه المادة.
الحرب الروسية العثمانية.. 15 عاماً من السلام لا تكفي
يمكن لنا اختصار خطوات الحروب بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية كالتالي: تترصّد روسيا فرصةً من الفرص للتدخُّل في شؤون الدولة العثمانية، فتردّ الدولة العثمانية، فتقع الحرب، فتفرض الحرب واقعاً جديداً على كلا اللاعبين، وهذا ما حدث تماماً في الحرب الروسية العثمانية التي وقعت بين عامي 1877 – 1878.
إذ كانت تلك الحرب نتيجةً للحرب السابقة التي وقعت بين الدولتين: حرب القرم (1853 – 1856)، فقد انتهت تلك الحرب بخسارة روسية كبيرة، فقد دعمت بريطانيا وفرنسا الدولة العثمانية في مواجهة روسيا بتوقيع اتفاقية باريس في 30 مارس 1856.
اعترفت الاتفاقية بالاستقلال الذاتي لرومانيا داخل إطار الدولة العثمانية، لكنّ الخسارة الكبرى لروسيا أنّها لم يعد لها موطن قدم في البحر الأسود، الذي باتت الدولة العثمانية تتحكم فيه بشكل شبه كامل.
وفي عام 1877 كانت الفرصة مواتية لروسيا لشنّ حربٍ أخرى غير تلك التي كانت نتائجها غير مرضية لها، فقد فشل مؤتمر ترسانة الذي عقد في 1876 للوصول لحلّ بين الدولة العثمانية والقوميين الصرب الذين أرادوا الانفصال عنها، ولمّا فشل المؤتمر، فقد كان فرصةً لروسيا لتبدأ حرباً جديدة تفرض من خلالها واقعاً جديداً، فكانت الحرب الروسية العثمانية.
قبل إعلان الحرب وصل الجيش الروسي إلى رومانيا (المتمتعة بحكم ذاتي تحت السلطة الاسمية للدولة العثمانية)، احتجت الدولة العثمانية لدى الدول الأوروبية التي تدخلت لصالحها في حرب القرم، لكنّ أحداً لم يتدخّل.
انطلق الجيش الروسي يضمّ المدينة تلو الأخرى، حتّى احتلوا مضائق البلقان الموصلة لمضيق شيبكا، وإذا سيطر الجيش الروسي إلى مضيق شيبكا فإنّ العاصمة نفسها ستكون في خطرٍ مُحدق.
اتخذ السلطان عبدالحميد الثاني – الذي تولى السلطنة منذ شهور فقط – إجراءات فورية لمواجهة روسيا، فعزل بعض القيادات واستدعى بعض الجيوش من جبهاتٍ أخرى ليواجهوا روسيا، وهكذا تمّ استدعاء عثمان باشا من معسكره لمساعدة مدينة نيكوبوليس على الحدود الرومانيّة، لكنّ المدينة كانت قد سقطت في أيدي الروس، وعندما وصله الخبر وصل إلى عسكر في بليفنا البلغارية.
معركة بليفنا.. غازي عثمان باشا يردّ الروس بضراوة
أقام عثمان باشا تحصيناتٍ ومعاقل دفاعية قوية للغاية، لم يتوقعها الجيش الروسي، وهكذا قرّر الجيش الروسي مهاجمة المدينة لكنّ عثمان باشا وجنوده استطاعوا صدّهم، وكانت خسائر الروس في هذا الهجوم تقارب 3 آلاف قتيل.
وما هي إلا عشرة أيام أخرى حتّى عاود الجيش الروسي محاولته اقتحام المدينة، بحوالي 50 ألف جندي و184 مدفعاً، لكنّهم لم يستطيعوا دخول المدينة أيضاً، وكانت خسائرهم 7305 قتلى، وفق ما ذكره المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية". في المقابل، كانت خسائر غازي عثمان باشا 100 قتيل و400 جريح. وبهذا الانتصار الثاني أصبحت بليفنا مركزاً تحولت له الانظار، ووصل الكثير من مراسلي الحرب والملحقين العسكريين الأوروبيين لمتابعة الوضع على الجبهة.
في هذه الأثناء، وبعدما صدّ عثمان باشا الهجومين، تواصل المدد من جميع الجهات، وانقلب الوضع لبعض الوقت، فقد بدأت القوات العثمانية بالهجوم بدلاً عن الدفاع.
انقسم الجيش العثماني إلى ثلاث جبهات، الأولى انضمّ إلى عثمان باشا في بليفنا، والثانية انطلق لمواجهة الجيش الروسي الذي يقوده ولي العهد الروسي، والثالثة انطلق لاسترداد مضيق شيبكا، وكاد الأمر يتمّ للعثمانيين لولا انقلاب الأمير الروماني هوهنزولرن على العثمانيين وانضمامه للروس، فوصل إلى الميدان بمئة ألف جندي، وفق ما ذكره محمد فريد باشا في كتابه "تاريخ الدولة العلية"، كما وصل القيصر بنفسه لميدان المعركة لتشجيع الجنود وشحذ حماستهم وهممهم.
ركّز الروس هجومهم لأخذ مدينة بليفنا، لما لها من موقعٍ استراتيجيّ، وكذلك لما لها من رمزية بعدما استطاع عثمان باشا صدّ الهجوم الروسي مرتين. فقرروا إطلاق هجومٍ شامل مرة ثالثة على بليفنا في شهر سبتمبر/أيلول. استمرّ الهجوم 12 ساعة، وانتصر غازي عثمان باشا مرة ثالثة وصدّ الهجوم.
كانت خسائر الروس في هذه المرة أضخم، فقد خسروا أكثر من 15 ألف قتيل، منهم 3 جنرالات و 350 ضابطاً. بينما كانت خسائر عثمان باشا 3500 قتيل وجريح.
بدأ حصار بليفنا الشامل في 24 أكتوبر/تشرين الأول عام 1877، وبهذا أصبح وصول الإمداد لهذه المدينة مستحيلاً. لكنّ عدم وصول الإمدادات لم يثنِ غازي عثمان باشا عن الدفاع عن المدينة، فوقوعها في يد الروس يعدُّ كارثةً للدولة العثمانية، خصوصاً بعد خروج رومانيا وأميرها عن السلطة العثمانية بانضمامه للروس. فالسيطرة على مدينة بليفنا البلغارية يجعل الطريق مفتوحاً للعاصمة العثمانية نفسها، إسطنبول.
خلال شهرين من الحصار المُحكم، نفذت الذخائر والمؤمن من معسكر العثمانيين، هل يستسلم؟ ماذا لو فعل؟ ستقع المدينة في يد الروس، وستضيع الشهور الخمسة التي دافع فيها عن المدينة وصدّ هجومين هباء.
قرّر عثمان باشا أن يخرج هو وجنوده بما تبقّى معهم من سلاحٍ وذخيرة، خارج المدينة، ليواجهوا مصيرهم، فإمّا أن يقتلوا أو يسلموا، وهكذا خرج الجيش يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 1877. أخلت الجنود مواقعها في القلاع المحيطة بالمدينة، وخرجوا جميعاً في طريقٍ واحد ومسيرةٍ واحدة.
وهكذا خرج غازي عثمان باشا على رأس جيشه في مسيرةٍ ليلية إلى الجيش الروسي، واستطاع الجنود العثمانيون الوصول للاستحكامات الروسية التي حول المدينة. سيطر الجنود على مدافع خطّ الاستحكامات الأوّل، ومدافع خطّ الاستحكامات الثاني، وكادوا أن يسيطروا على خطّ الاستحكامات الثالث. لكنّ عثمان باشا أصيب برصاصة في فخذه اليسرى، قتلت حصانه. وهكذا وقع القائد عن فرسه، واضطرب الجند وظنوا أنّه قد قتل.
لكنّ روايةً أخرى تقول إنّ أحد المواطنين اليهود في مدينة بليفنا تسلل إلى المعسكر الروسي وأخبرهم بنية عثمان باشا الخروج ليلاً، فكانوا قد أخذوا استعداداتهم وتصدوا للهجوم المفاجئ، وعندما أصيب عثمان باشا اضطربت صفوف الجيش ووقعت الهزيمة.
حاول الجنود أن يعودوا أدراجهم لأسوار المدينة، لكنّ الروس كانوا قد سيطروا عليها، فأصبح الجنود بين نارين. وبالإجمال، كانت نتيجة هذه المعركة مقتل 2500 جندي عثماني، وجرح 3500.
رفع الجنود الراية البيضاء، وطلب عثمان باشا التفاوض على الاستسلام، وهكذا طلب الروس تسليم العثمانيين كلّ أسلحتهم، فسلمهم سيفه وأمر جنوده بتسليم سلاحهم.
قابل القيصر الروسي غازي عثمان باشا بنفسه، وأعاد له السيف احتراماً وتقديراً لبسالته وشجاعته واستماتته في الدفاع عن المدينة.
اقتيد غازي عثمان باشا مكرماً إلى روسيا، حيث تمّ التعامل معه معاملة الضيوف وليس أسرى الحرب، بينما اقتيد الجنود المستسلمون أسرى حرب، ويقول بعض المؤرخين إنّه تم قتل الكثيرين منهم خلال عملية سوقهم إلى روسيا.
ظلّ عثمان باشا في روسيا حتّى نهاية الحرب، التي انتهت بمأساة محققة للدولة العثمانية، فقد وضعت الحرب نهايةً للنفوذ العثماني في البلقان، وأخرجت رومانيا من التبعية للدولة العثمانية، كما أوقعت بعض المناطق في القوقاز والبحر الأسود في يد روسيا.
كانت معركة بليفنا المعركة المركزية في تلك الحرب، فصمود غازي عثمان باشا وجنوده فيها اجتذب أنظار العالم، ومع سقوطها استطاعت الجيوش الروسية الإطباق على الجيشين العثمانيين المعزولين في البلقان، وهزمتهما.
أعطى السلطان عبدالحميد لعثمان باشا لقب غازي، وقرّبه إليه وجعله مستشاره، ويعتبر المؤرخ يلماز أوزتونا غازي عثمان باشا أقدر القادة العثمانيين في القرن التاسع عشر على الإطلاق.
استمرّ حصار بليفنا 4 أشهر و23 يوماً، وكانت القوات الروسية 150 ألف جندي (وهناك تقديرات تقول إنّ عددهم كان أكبر) و600 مدفع، بينما كان جيش غازي عثمان باشا 30 ألف جندي ويمتلك 58 مدفعاً فقط.
عاش غازي عثمان باشا في العاصمة إسطنبول، حتّى توفي عام 1900. لكنّه سجّل اسمه في التاريخ باعتباره أحد أعظم القادة المسلمين في العصر الحديث.