يطلق البعض على تحتمس الثالث لقب "نابليون الشرق"، وبغضّ النظر عن اختلاف السياقات بين تحتمس الثالث ونابليون، إلا أنّ هذا الفرعون الشاب استطاع من خلال انتصاره في معركة مجدو أن يثبّت أركان الدولة المصرية الحديثة في العالم القديم، وأن يستوعب أعداءه بعدما هزمهم بطريقة كانت مثيرة للانتباه.
بشكلٍ عام، يعتبر موقع مجدو الأثري في فلسطين مسرحاً للعديد من المعارك، ليس فقط في التاريخ القديم بل وكذلك في التاريخ الحديث. ففي مجدو دارت المعركة الحاسمة بين الجيش البريطاني والجيش العثماني، وعلى إثر هزيمة الجيش العثماني فيها عام 1918 استولى الجنرال البريطاني اللنبي على سوريا.
لكنّ أشهر تلك المعارك التي قامت في مجدو، كانت معركة مجدو التي كان بطلها الفرعون المصري تحتمس الثالث.
يعتبر تحتمس الثالث أحد أعظم القادة العسكريين في مصر القديمة، فقد استطاع توسيع حدود بلاده بشكلٍ لم يسبقه أحد من الفراعنة، وبتوسيعاته تلك يعتبر المؤسس الحقيقي للإمبراطورية المصرية القديمة في أقصى اتساعها.
وهكذا، أصبحت مصر القديمة في عهده قوةً عالميةً عُظمى.
ما قبل معركة مجدو
تأسّست الإمبراطورية المصرية القديمة أول الأمر على يد القائد أحمس الأول (1570-1544 ق.م. تقريباً)، الذي مثّل انتصاره على الهكسوس الذين احتلوا مصر، بداية الفترة المعروفة باسم المملكة المصرية الحديثة (1570-1069 ق.م. تقريباً).
حافظ كل فرعونٍ جاء بعد أحمس على حدود هذه المملكة أو حاول توسيعها. لكنّ تحتمس الثالث ذهب إلى ما هو أبعد من أي فرعونٍ آخر. إذ قاد 17 حملةً عسكرية ناجحة خلال 20 عاماً، وسجلها جميعاً على جدران معبد آمون في الكرنك. لكن أكثر الروايات المسجلة تفصيلاً كانت عن أولى حملاته وأكثرها شهرة: معركة مجدو.
للقراءة بالتفصيل عن أحمس الأول، يمكنك الاطلاع على هذه المادة (هنا).
بعدما توفي تحتمس الثاني عام 1479 ق.م كان ابنه وخليفته تحتمس الثالث في الثالثة فقط من عمره. وهنا تدخلت زوجة والده حتشبسوت لتحكم -باعتبارها وصيةً عليه- طيلة 20 عاماً، ولتصبح أول فرعون امرأة لمصر.
في ذلك الوقت قضى تحتمس الثالث شبابه في بلاط العاصمة طيبة يتلقَّى التدريب العسكري، ويُحصّل العلوم والمعارف المفترض بأمير المملكة الحديثة أن يكون مطلعاً عليها.
خلال سنواتها الأولى، لم تُنظّم حتشبسوت أيّ حملاتٍ عسكرية كبرى، لكنَّها حافظت على قواتها في ذروة كفاءتها. وبمجرد أن أثبت تحتمس الثالث نفسه، قامت بترقيته ليصير قائد قواتها.
كانت حتشبسوت واحدةً من أكثر الملوك قوةً وحيلةً وكفاءة في تاريخ مصر. وحين توفيت، تركت لتحتمس الثالث بلداً مزدهراً بقواتٍ قتالية شديدة التنظيم وعالية التدريب.
لكنّ وفاة أيّ ملكٍ قويّ واستلام ملكٍ شاب من بعده، عادةً ما يثير لدى حكّام الأقاليم الأكبر سناً رغبةً في الاستقلال. وهذا ما حصل مع تحتمس الثالث.
قاد ملك مجدو وملك قادش تمرداً ضد الفرعون الشاب تحتمس الثالث، إذ ربما اعتقدوا أنّه كان ضعيفاً.
ويبدو أنّه من المحتمل أنّ حتشبسوت نفسها قد توقعت ذلك نظراً لوجود بعض الأدلة التي تُشير إلى أنّ أولى حملات تحتمس الثالث كانت بتكليفٍ منها.
وبدعمٍ من المملكة الميتانية في شمال سوريا والعراق، جذب التحالف بين كنعانيي مجدو وبين سوريي قادش عدداً من المستائين من الحكم المصري، أو الراغبين في الاستقلال ليحشدوا قواتهم خارج مدينة مجدو أواخر عام 1458 أو أوائل عام 1457 قبل الميلاد، أي بعد وقتٍ ضئيل للغاية من وفاة حتشبسوت.
ووفقاً لما سجّله نقش تحتمس الثالث فقد شارك في هذا التحالف ما يزيد عن 100 من المدن الكنعانية.
تحتمس الثالث يرفض نصيحة قادته.. ولكنّه يؤكد عبقريته العسكرية
حشد تحتمس الثالث جيوشه بسرعة وتقدّم من عاصمته طيبة إلى مدينة مجدو. وفي وضعٍ استثنائي استطاع تحتمس الثالث بحسن ترتيبه للأمور أن يقطع مع جيشه 240 كيلومتراً في 10 أيام فقط!
استراح الجيش المصري في غزة، وبالقرب منها في بلدة عرونة كان لدى الجيش ثلاثة طرق ليسلكها إلى مجدو، طريقين واسعين ممهّدين، يتيح للجيش التحرك بسهولة وسرعة، وطريق ثالث ضيّق سيتطلّب من الجيش التقدم في صفٍ واحد بصعوبة، وستصل من خلاله طليعة الجيش إلى ساحة المعركة، بينما مؤخرة الجيش لا تزال تتقدم في مسيرتها، ما سيفقد الجيش وحدته القتالية بسبب العامل الزمني.
استمع تحتمس الثالث إلى مشورة قادته، لكنّه خالفهم الرأي في النهاية. ووفقاً للسجلات التاريخية التي احتفظ بها كاتبه العسكري تجانيني عن المعركة، فقد خاطب تحتمس الثالث قادة جيشه قائلاً:
أقسم، بمحبة رع لي، وبتفضيل أبي آمون لي، وبأنفي الذي يتجدد بالحياة والرضا أنّ جلالتي سيمضي في طريق عرونة! ومن أراد منكم فليسلك تلك الطرق التي تتحدثون عنها، ومن أراد منكم فليتبع جلالتي! وسيقول هؤلاء الأعداء الذين يلعنهم رع: انظروا، هل سلك جلالته طريقاً آخر لأنّه خائفٌ منا؟ هذا ما سيقولونه.
انصاع جنرالات الجيش للفرعون الشاب، وفي خطابه لجنوده أخبرهم أنّه سيقودهم بنفسه في الأمام.
تمّ تفكيك العربات الحربية وحملها، ثم انطلق الرجال بخيولهم في صفٍ واحد عبر الممر الضيّق ليخرجوا من وادي قنا قرب مجدو.
وكانت المفاجأة: لم يعثر جنوده على أي أعداءٍ في انتظارهم.
افترض التحالف أنّ تحتمس الثالث سيختار أحد الطريقين السهلين. ولهذا تركوا جنودهم مستعدّين للدفاع عن الطريقين الآخرين. وبهذا كان قرار تحتمس الثالث باختيار الممر الصعب هو الذي منحه أفضلية عنصر المفاجأة.
لكنّه أيضاً لم يكن قادراً على الهجوم فوراً لأنّ الشطر الأعظم من جيشه كان ما يزال محشوراً في ممر عرونة. وكان أمام مؤخرة الجيش أكثر من سبع ساعات من المسير قبل اللحاق بملكهم.
لذا أمر تحتمس الثالث بالاستراحة لتجديد نشاط جنوده بالقرب من جدول المياه في قنا.
تمركز جيش تحتمس الثالث بناءً على أوامره بحيث يكون الجناح الجنوبي على تلةٍ فوق جدول قنا، بينما كان الجناح الشمالي فوق منطقةٍ مرتفعة شمال غرب مجدو. بينما كان الملك سيقود الهجوم شخصياً من قلب الجيش. كان هذا التنسيق ليمنع أولاً الجيش المحارب من الهرب، وإذا هُزم الجيش المصري فإنّ جناحيه المطلين من أعلى سيمثلان مدداً يقلب نتيجة المعركة.
يحكي كاتبه العسكري تجانيني في روايته للأحداث كالتالي:
تقدّم جلالته في عربةٍ من الذهب الخالص، المزينة بعتاده القتالي مثل حورس صاحب الذراع العظمى، ومنتو إله الحرب، ونقوش والده آمون وهو يشدّ على ذراعيه. وهناك انتصر جلالته عليهم وهو على رأس جيشه. وحين شاهد الأعداء جلالته ينتصر عليهم، فرّوا على الفور إلى مجدو بوجوهٍ مرتعدة. وتخلوا عن أحصنتهم وعرباتهم الحربية المصنوعة من الذهب والفضة، حتى يُمكن رفعهم إلى المدينة من ثيابهم. والآن بعد أن أغلق الناس أبواب البلدة في وجههم، أنزلوا لهم حبلاً قماشياً لرفعهم إلى المدينة.
حصار دام ثمانية أشهر!
يُشير تقرير تجانيني إلى أنّه لو كان الجيش المصري طارد الأعداء الهاربين بطول الميدان وقطع طريق الفرار عليهم، لكانت المعركة قد انتهت في ذلك اليوم بشكلٍ حاسم.
لكنّ الجنود بدأوا في جمع غنائم العدو من ساحة المعركة وسمحوا للخصوم بالوصول إلى ملاذٍ آمن وتنصيب الدفاعات.
لاحقاً، أمر تحتمس الثالث بحفر خندقٍ حول مدينة مجدو وتنصيب الحواجز حول الخندق. ولم يكن مسموحاً لأحدٍ بالخروج من المدينة إلا لتسليم نفسه، أو تلبيةً لطلب تفاوض من ضابطٍ مصري.
مثّلت هذه الاستراتيجية من تحتمس الثالث نقطة ضعف للمُحاصَرين، فقد فتح للسكّان ما يعرف بـ"الممر الذهبي". وكانت فكرته من هذه الخطة أن يجعل لأيّ شخص ممراً يجعله يأمل بأن يعيش، بدلاً من أن يدفع الحصار المُحكم الجميع لحمل السلاح ومواجهة الجيش المصري بعنف من ليس أمامه خيار آخر.
استمر الحصار سبعة أو ثمانية أشهر على الأقل، قبل أن يُسلّم قادة التحالف المدينة.
لكنّ تحتمس الثالث لم يكن منتقماً على طريقة المنتصرين بعد الحصار، فقد كانت لديه استراتيجية مختلفة. عرض عليهم تحتمس الثالث شروطاً سخية للغاية، وصلت إلى اكتفائه بوعدٍ من خصومه بعدم التمرد مرةً أخرى ضد مصر، ولم يُعدَم أي منهم، بينما تُرِكَت المدينة على حالها، دون أذى أو انتقام.
جرّد تحتمس الثالث القادة من مناصبهم لتعيين مسؤولين جُدد يدينون بالولاء لمصر بدلاً منهم. كما بدأ في خطةٍ استراتيجية بعيدة الأمد: اصطحب أطفال القادة المستسلمين رهائن معه في مصر، ليضمن حسن سلوكهم.
لكنّه في مصر، لم يعاملهم معاملة الأسرى أو الرهائن، فقد حصلوا على أفضل عنايةٍ ممكنة وواصلوا العيش في نفس مستواهم. ومع الوقت تعلّموا الثقافة المصرية، وحين بلغوا سنّ الرشد، أُرسِلوا مرةً أخرى إلى بلادهم وهم لا يحملون في قلوبهم سوى التقدير والولاء لفرعون مصر.
كانت هذه المعركة محوريةً، إذ قضت بشكلٍ حاسم على التمردات التي يمكن أن تنشأ في ساحل بلاد الشام، وبسطت السيطرة المصرية على هذه المنطقة بقدمٍ راسخة.
كانت قائمة الغنائم التي عادت بها الحملة إلى مصر كافيةً لإعلان النصر الساحق، إذ شملت أسرى الحرب، والعبيد، والرهائن، والأسلحة، والدروع، والعربات الحربية من الذهب والفضة، والمجوهرات، والمعادن النفيسة، والمواشي.
شملت الغنائم 3 آلاف فرس، وما يقارب 1000 عربة حربية، وقرابة 300 كيلوغرام من الذهب.
لكن الأهمية الاستراتيجية الأخرى التي حازها تحتمس الثالث بانتصاره بعد إخماد التمرد وإثراء الخزانة المصرية، هو السيطرة على شمالي كنعان، إذ أصبحت بذلك قاعدةً يشن منها حملاته العسكرية على بلاد الرافدين.
لذا، وبعد انتصاره الكاسح، أرسل أمراء مدن ما بين النهرين، الذين لم يُشاركوا أو يدعموا التحالف، الجزية إلى مصر من تلقاء أنفسهم ليكسبوا حظوة الملك المحارب الشاب، بطل معركة مجدو آملين في شراء حمايته. ومن هنا بدأت شهرته تصبح أسطوريةً بسرعة البرق.
ففي السنوات التالية غزا سوريا وأراضي مملكة ميتاني -وكلاهما من المشاركين في تمرد معركة مجدو- قبل أن يحول انتباهه إلى حدود مصر الجنوبية ليهزم النوبيين ويُوسّع حيازات مصر في تلك المنطقة.
وكما كان الحال في مجدو، اعتمد تحتمس الثالث دائماً على عنصر المفاجأة ولم تردعه أبداً المصاعب والعقبات في طريق النصر. وجاء انتصاره على التحالف في مجدو ليرسّخ سمعته مبكراً ويضمن له أن يكون نجاح حملاته مستقبلاً شبه مؤكّد، لأنّ العدو سيعرف مسبقاً أنّه على وشك مواجهة خصمٍ لا يُقهر.