ربما تكون قد سمعت عن ضريح تاج محلّ، تلك المقبرة التي تعتبر إحدى عجائب الدنيا والتي بناها الإمبراطور المغولي شاه جهان ليدفن فيها زوجته ومحبوبته ممتاز محلّ. لكنّ هذه الشهرة لتاج محلّ غطّت على بقية محطّات حياة شاه جهان، وعلى نهايته المأساوية أيضاً.
فقد حكم هذا الرجل إمبراطورية الهند المسلمة طيلة 30 عاماً، وحكم ما يُعتقد أنّه أكبر مساحة حكمتها إمبراطورية المغول المسلمين في الهند، لكنّه أيضاً انتهى نهايةً مأساوية من الوحدة والغربة والعزلة، ليدفن في النهاية إلى جانب محبوبته ممتاز محلّ.
شاه جهان.. "ملك العالم" أقوى إخوته وليس أكبرهم
تأسّست سلطنة المغول في الهند عام 1526 على يد الشاب الطموح بابور الأوّل، واستمرّت تحكم الهند لمدة ثلاثة قرون ونصف، كانت في بعض مراحل ازدهارها إحدى أغنى وأكبر وأقوى دول العالم. ويعتبر عصر شاه جهان، وهو خامس السلاطين، أحد أبرز عصور ازدهار هذه الدولة.
للقراءة أكثر حول دولة المغول في الهند، من هنا.
وُلد شاه جهان في مدينة لاهور – في باكستان اليوم – عام 1592. ووالدته هي أميرة راجبوتيّة هندوسية أصبح اسمها بعد إسلامها بلقيس. تزوّجت من السلطان الرابع لسلطنة المغول في الهند: الإمبراطور جهانكير. ورغم أنّه ليس الابن الأكبر لأبيه، فقد حاز السلطنة من بعده، فكيف حصل هذا؟
كان اسمه خرّم وتعني "المِقدام"، وقد كان جدّه جلال الدين محمد أكبر معجباً به جداً، فقد كانت جدّته رقية هي التي تولّت تربيته، فكان قريباً من جده حين وفاته.
تزوّج شاه جهان زوجته الأولى قندهاري بيجوم وهي من نسل الشاه إسماعيل الصفوي، مؤسس السلالة الصفوية في إيران. لكنّ محبوبته الحقيقية كانت زوجته الثانية أرجماند بانو، التي لقّبت باسم "ممتاز محلّ" والتي تعني "جوهرة القصر". كان شاه جهان قد خطبها منذ 5 سنوات ولكنّها كانت صغيرة، فتزوّج من الأولى ريثما تكبر، وتزوجها.
كانت ممتاز محل أيضاً من نسل عائلةٍ فارسيّة، وكان والدها آصف جهان هو وزير والد شاه جهان، وكانت عمّتها زوجة والد شاه جهان، ما ضمن وضعاً جيداً لشاه جهان في خلافة العرش.
في شبابه، قاد شاه جهان حملات عسكرية كبيرة، ففي أول معركة خاضها كانت بجيشٍ تعداده 200 ألف جندي، أرسله والده لإخضاع مملكة راجبوت في الشمال، واستطاع خلال سنة أن يُخضع المملكة. استثمر شاه جهان بالطبع هذا الانتصار، فأرسله والده قائداً لبعض الحملات العسكرية في الجنوب لإخضاع بعض الممالك.
بعد انتصارات شاه جهان في الجنوب، كان نجمه ساطعاً في سماء الإمبراطورية، فهو الذي أخضع مملكة الراجبوت في الشمال، وكذلك أخضع مملكةً أخرى في الجنوب، فأعطاه والده لقب شاه جهان والتي تعني "ملك العالم".
بهذه الانتصارات ثمّ بزواجه من ابنة الوزير آصف جهان، ثمّ أخيراً بهذا اللقب الذي أطلقه عليه أبوه، أصبح شاه جهان يعتبر الأمير الأول في السلطنة.
مؤامرات سياسية وهزيمة مؤقتة
كان شاه جهان الابن الثالث للإمبراطور جهانكير، كما كانت زوجته ابنة الوزير، وكانت أخت هذا الوزير "نور جهان" زوجة جهانكير، وقد كانت جميلة يحبها الإمبراطور وذات رأي سياسي وحنكة استثنائية، وكان لها نفوذ كبير في القصر.
كان الطريق مرسوماً لدى نور جهان. بوصول شاه جهان إلى العرش تستطيع نور جهان أن تحتفظ بنفوذها بعد وفاة جهانكير. لكنّها اصطدمت بشخصيّة شاه جهان، ويبدو أنّه قد حصلت بينهما بعض المشاحنات، فرفعت دعمها له في القصر. وهكذا انقسم الحلف نسبياً بين نور جهان من ناحية وبين شاه جهان وأبو زوجته آصف جهان.
كان لدى السلطان جهانكير أربعة أبناء هم: خسرو و بارفيز وشهريار، إضافةً بالطبع إلى خرّم "شاه جهان". تمرّد خسرو على والده فهزمته جيوش والده وسُجن، أمّا بارفيز فقد عهد له والده ولاية العهد، لكنّ قراراته كانت تحت تأثير بعض قادته العسكريين.
استَبَقَت نور جهان أي خطوة من الأبناء الثلاثة بتزويج الابن الرابع شهريار من أحد بنتها من زواجها السابق، وبهذا ضمنت أن يكون زوج ابنها أحد المنافسين على وراثة العرش.
استطاعت نور جهان أن تُوقِع العداوة بين شاه جهان ووالده بمكيدةٍ من مكائد القصر، إذ طلبت من زوجها وضع زوج ابنتها شهريار قائداً للحملة العسكرية التي ستواجه سلطان فارس نادر شاه، وعندما حدث ذلك تمرّد شاه جهان على والده، لكن هزمته جيوش والده جهانكير، والذي يعني لقبه "القابض على العالم".
بعدما هُزِمَ شاه جهان هرب إلى الجنوب في ولاية الدكن، وبعد ثلاث سنوات من التمرد الذي كان مليئاً بالهزائم والهروب المتكرِّر من جيوش أخيه بارفيز، طلب العفو والصفح من والده، فوافق والده وعيّنه على إحدى المناطق المغمورة في الدولة.
كان السلطان جهانكير قد بدأ يضعف بعض الشيء مع تقدمه في السنّ، كما أنّ الأمير بارفيز وليّ العهد توفّي، وما لبث أن توفي والده بعده بفترة قصيرة، وهنا كانت الفرصة سانحة لشاه جهان، فلم يعد من منافس له على عرش السلطنة سوى أخيه شهريار، زوج ابنة نور جهان.
أسرع شاه جهان إلى العاصمة بعدما جمع جيشاً ضخماً وتواجه هو وأخوه وهزمه وأسره ثمّ قتله لاحقاً. وهكذا أصبح شاه جهان – أو ملك العالم – سلطاناً لا يُنازعه أحد على الإمبراطورية مترامية الأطراف في الهند وباكستان وأفغانستان.
آثار الإسلام لا زالت باقية في الهند.. وتوسّع سياسي كبير
وصل شاه جهان إلى الحكم عام 1628 وعمره حينها 36 عاماً فقط، لكنّه ما لبث أن واجه نكبةً لم يتوقّعها؛ فقد ماتت زوجته ومحبوبته ممتاز محل عام 1631 بسبب نزيف حاد أصابها أثناء ولادة طفلها الرابع عشر.
توفيت ممتاز محلّ وعمرها 38 عاماً فقط، وما لبث السلطان أن دخل في دوامةٍ من الحزن، واعتزل الناس عاماً كاملاً، ويقال إنّه عندما عاد إلى شؤون الحكم بكامل تركيزه كان قد شاب شعره وتغيرت ملامحه من حزنه على وفاته.
كانت ممتاز محلّ زوجته الثانية، لكنّه اختارها هي "إمبراطورة المغول" متجاوزاً زوجته الأولى، وأطلق عليها لقب "مليكة جهان" أي "ملكة العالم"، وقد بلغ من ثقته بها أنّه منحها ختمه الإمبراطوري، والذي تستطيع من خلاله توقيع المراسيم الإمبراطورية في كلّ الشؤون الداخلية والخارجية.
دفنت ممتاز محلّ في مدينة "برهانبور" في إحدى الحدائق، وبعدما اكتمل بناء تاج محلّ نُقل الرفات في تابوت ذهبي حيث مثواها الأخير.
أراد شاه جهان تخليد ذكرى زوجته فأمر ببناء ضريح لم يُبنَ مثله من قبل، ولم يُبن بعده فيما يبدو، فقد بني في 22 عاماً، وقد شارك في بنائه 22 ألف عامل ومهندس، جاؤوا من كل بقاع الأرض، من إسطنبول وكشمير وشيراز وبغداد وبخارى وسمرقند.
لكنّ تاج محلّ لم يكن البناء الوحيد، فقد امتلأت الهند في عهد شاه جهان بالمعمار، ومنها على سبيل المثال عمائر مدينة دلهي الجديدة والقلعة الحمراء والمسجد الجامع ومسجد اللؤلؤ. لكنّ أشهر وأغلى الأشياء التي بناها شاه جهان هي عرش الطاووس.
رُصّع هذا العرش بعددٍ هائل من الجواهر النادرة، وقد كانت قوائمه من الذهب الخالص واحتوى سقفه على 12 عموداً من الزمرد، على كل واحد منها طاووسان مزينان بالجواهر. وقد استغرق بناء هذا العرش 7 سنوات، وبلغت تكلفته ضعف تكلفة ضريح تاج محلّ!
النهاية غير متوقعة
استمرّ حكم شاه جهان 30 عاماً، منذ عام 1628 وحتى عام 1658، بدأت علائم الضعف تظهر على الإمبراطور خصوصاً بعد إصابته بشللٍ نصفيّ، كما بدأت بوادر الحرب الأهلية بين أبنائه.
كان أبرز المرشحين لخلافته هو ابنه الأكبر دارا شيكوه، لكنّ ابنه الصغير أورنجزيب عالم كير أعلن تمرّده أولاً خوفاً من أن يستغلّ أخوه الأكبر دارا – ابن ممتاز محل – مرض والده ويعزله ويستفرد بشؤون السلطنة.
وهكذا بدأت المعارك بين الأخوين، كما أعلن الابن الثالث شاه شجاع انفصاله في إقليم البنغال وأسس مملكته الخاصة، كما فعل مراد نفس الشيء في الكجرات.
أثناء ذلك، أيّد شاه جهان ولده الأكبر وأقرّه على ولاية العهد، استمرّت المعارك بين دارا وأورنجزيب الذي ضمّ مراد إلى جانبه، ولكن حسم الصراع أورنجزيب وقتل أخيه الأكبر دارا.
عزل أورنجزيب والده شاه جهان في قلعة أكرا تحت حراسةٍ مشددة، وبقي تحت الإقامة الجبرية حوالي 9 سنوات ترافقه ابنته الكبرى جهان نارا، حتى توفي عام 1666 عن عمر 76 عاماً. وقد دفن قرب زوجته في الضريح الذي شيّده: تاج محلّ.