كان عصر الاستكشاف في أوروبا – الذي بدأ في القرن الخامس عشر – عصر تحول، حيث قامت السفن الأوروبية بالسفر حول العالم للبحث عن طرق تجارية جديدة، وهو ما قاد لاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح الذي غير من الموازنات العالمية آنذاك، إذ بدَّل ميزان القوة بعد أن كانت في يد الشرق الإسلامي وتحولها لصالح الغرب الأوروبي؛ وهو ما مهد لبدء مرحلة الاستعمار التي غزت فيها الدول الأوروبية العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
كانت البداية على يد البرتغاليين والإسبان الذين تميزوا في بناء الأساطيل التي جابت البحر ذهاباً وإياباً بغرض البحث عن أسواق تجارية جديدة، ثم تبعتهم الدول الأوروبية حتى تميز القرن التاسع عشر بإمبريالته التي طالت أجزاءً شاسعة من العالم العربي والإسلامي.
وفي قلب كل تلك التغيرات العالمية وبالقرب من طرابلس الغرب في ليبيا، حيث مدينة جادو؛ نشأ شابٌّ في أسرة مُحبة للعلم، فيما أحب هو الأحلام الكبيرة التي أراد لها أن تتحقق رغم ما واجهته حياته من مصاعب وبلاده من استعمار، فكان لها من أشد المدافعين ومن أول المقاومين.
حياة بدأت بالسجن
وُلد سليمان الباروني عام 1870 في مدينة جادو في ليبيا بالقرب من طرابلس، جمع في مقتبل عمره بين الدراسة في جامع الزيتونة في تونس وفي الأزهر في مصر حتى تكونت شخصيته المحبة للعلم والدين على يد كبار العلماء في هاتين القبلتين العلميتين، وحين بلغ الثامنة والعشرين من عمره أراد العودة لبلاده لخوض غمار الحياة وبدء تحقيق أحلامه التي تخطت حدود وطنه.
فور وصوله إلى طرابلس، أوقفت الشرطة الباروني ليُوضع رهن التحقيق، إذ إنه كان يحمل معه مسودات كتابه عن المذهب الإباضي والذي كان يحمل أتباعه العداء للدولة العثمانية ويدعون للخروج عليها، وحُكم عليه بالمؤبد.
ولأن الباروني كان من المعروفين بإخلاصه للدولة العثمانية، احتج بعض مواطنيه وتدخّل الوالي العثماني بنفسه، حتى أصدرت المحكمة حكماً بالبراءة وذلك في عام 1898.
ولم تمض إلا سنتان حتى أعادت المحكمة النظر في الحكم لتُصدِر حكماً على الباروني بخمس سنوات، والتي لم يقضِ منها إلا عام واحد بسبب تدخل الوالي العثماني الجديد آنذاك والذي ساند سليمان ودعمه للخروج من سجنه.
ومع خروج سليمان من السجن لم تطق نفسه البقاء في طرابلس، فاستقرّ في مدينة يفرن، وأسس المدرسة البارونية وبجانبها أنشأ المكتبة البارونية، وأتم كتابه الذي تسبب في حبسه فخرج في ثلاثة أجزاء، وسماه "الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية"، كما نشر ديوانه "ديوان الباروني".
مجلة "الأسد الإسلامي" ومجلس المبعوثان
وفي عام 1906 أسس الباروني مطبعة الأزهار البارونية في القاهرة والتي عملت في البداية على طبع كتب الأدب والتاريخ والعلوم الشرعية، وفي عام 1908 أصدر جريدة الأسد الإسلامي والتي نادت باتحاد المسلمين، وذلك في مقال تحت عنوان "الجامعة الإسلامية".
وفي غمرة ما يقوم به الباروني من أعمال، صدر قرار من السلطان عبدالحميد بعودة العمل بالدستور وإعادة النشاط النيابي – بعد أن تعطل 30 عاماً – وأُجريت انتخابات موسعة شملت الدولة العثمانية وأقاليمها والتي كان من بينها ليبيا، فخاض الباروني الانتخابات وغدا نائباً في مجلس المبعوثان بالأستانة ممثلاً عن ليبيا.
ومع عزل السلطان عبدالحميد في عام 1909، أهملت الحكومة الجديدة بقيادة جمعية الاتحاد والترقي – تركية النزعة – ليبيا، وكانت الظروف مواتية لإيطاليا للقدوم على احتلال ليبيا معلنةً إخراج ليبيا من الحكم العثماني، فما كان من الدولة العثمانية إلا أن سلَّمت ليبيا في معاهدة أوشي، التي اعترفت بموجبها بامتلاك إيطاليا لليبيا، وبدأ الغزو الإيطالي بطرابلس وذلك في عام 1912، في الوقت الذي كان فيه الباروني في يفرن، فاجتمع كثير من رؤساء القبائل عنده وأسسوا "الجيش الإسلامي الطرابلسي"، ثم وجه الباروني نداءً عاماً لكافة أهل طرابلس بالنفير واللحاق بهم.
معركة المنشية ودحر القوات الإيطالية
انضم الجيش الطرابلسي إلى الحامية العثمانية التي رفضت تسليم المدينة رغم توقيع الحكومة العثمانية على معاهدة أوشي (التي تعرف باسم لوزان الأولى).
ورغم تفوُّق القوات الإيطالية بالعدد والعتاد، استطاع الطرابلسيون ومعهم الحامية العثمانية في إفشال تقدُّم القوات الإيطالية والتي ظلت 60 يوماً لا تستطيع التقدُّم عن شريط حدودي ضيق في طرابلس، فجنّ جنون الإيطاليون وأخذوا يقتلون الشيوخ والأطفال، وأرسلوا للحكومة الإيطالية لإرسال نجدة فتجهزت حملة قوامها 15 ألف جندي إيطالي.
ذاعت في تلك الفترة إشاعة أثناء معارك القوات الليبية والإيطالية أن الدولة العثمانية ستعقد صلحاً مع إيطاليا، فما كان من الباروني إلا أن أرسل احتجاجاً شديد اللهجة لمجلس المبعوثان، وأعلن الصدر الأعظم عدم إبرام أي صلح مع إيطاليا، إلا أن الضغط أشتد من قبل الاتحاديين – أعضاء جمعية الاتحاد والترقي – فدخلت الدولة العثمانية مرة أخرى في مفاوضات معاهدة أوشي-لوزان مع إيطاليا، والتي لم يسقط حتى وقتها إلا بعض المناطق القليلة في طرابلس.
اتفق الطرفان في بنود المعاهدة على وقف القتال، وصرَّح السلطان العثماني محمد رشاد بتنازله عن ليبيا ومنح الليبيين الاستقلال المطلق، ما نزل على الجيش الطرابلسي كالصاعقة.
نتيجة لذلك دعا فريق من الزعماء الطرابلسيين للتفاوض مع إيطاليا لمنحهم الاستقلال بموجب المعاهدة؛ وذلك لعدم قدرتهم على مواجهة القوات الإيطالية وحدهم بعدما تخلت عنهم الدولة العثمانية، إلا أن فريقاً آخر رأى أنه لا حل إلا باستكمال القتال ضد القوات المستعمرة لبلادهم، وكان على رأس هذا الفريق سليمان الباروني.
رئيساً للحكومة، ومن ثم والياً
تمركز الفريق الذي لم يرَ في التفاوض حلاً في مدينة يفرن، وأعلنوا حكومة جديدة واختاروا الباروني رئيساً لها، ومن ثم قامت هذه الحكومة بتأسيس خط مواجهة مع القوات الإيطالية وأسسوا مراكز للتلغراف حتى حدود تونس.
تقدّمت القوات الإيطالية في العديد من المدن على مدار عامي 1912 و 1913 لكنهم لم يستطيعوا مواجهة خط الدفاع، وهو ما منعهم من ضم جنوب ليبيا والمناطق المحيطة بمدينة يفرن، فحاول الطليان استدراج واستمالة الباروني لكنهم لم يُفلِحُوا وأيقنوا بضرورة ضرب هذه الجبهة بكافة قوتهم.
وفــي صبيحة يوم 23 مارس/آذار 1913، زحــف الجيش الإيطالي في منطقة الأصابعة، وفقد الجيش الإيطالي العديد من الكتائب التي سعت قوات طرابلس لعمل الكمائن لها، إلا أن الجيش الإيطالي ما لبث يدفع بكتائب أخرى كلَّما سقطت كتيبةٌ منهم، ومع حلول الليل نَفَذَت الذخيرة من الجيش الطرابلسي وانسحبوا في جنح الليل ودفنوا شهدائهم ونقلوا الجرحى إلى يفرن.
وفي صباح اليوم التالي، هاجم الجيش الإيطالي يفرن، وحاوطوها من جميع الجهات، واستطاع الباروني أن يجمع أهل يفرن بعد أن دفن الشهداء، وارتحلوا في الليل بعد أن أوقدوا النار في الخيام متَّجهين إلى تونس، وهناك طالبت القوات الفرنسية تسليم سلاحهم فأجابوا بأنهم فاعلون متى ابتعدوا عن الحدود مسافة يأمنون معها على أنفسهم من ملاحقة الطليان، فلما سلموا سلاحهم، طالبتهم القوات الفرنسية في تونس بسرعة مغادرتهم البلاد، وأخبرتهم أنهم غير مرحب بهم، فتوجه الباروني إلى الأستانة.
لما وصل الباروني إلى الأستانة أكرم السلطان وفادته ومنحه رتبة الباشوية. ولقرب الباروني من المشهد السياسي في الأستانة استطاع أن يحشد لجعل الدولة العثمانية تُعيد النظر في أمر ليبيا، وعلى هذا أوفد الباروني أخاه يحيى الباروني في أوائل عام 1916.
وجد أخوه يحيى أن الطرابلسيين عازمين على مواصلة المقاومة ضد المستعمر الإيطالي، فأصدر السلطان العثماني فرماناً يقضي بإلحاق طرابلس بالدولة العثمانية من جديد وتعيين سليمان باشا الباروني والياً عليها، وحملته غواصة إلى ليبيا ليعود من جديد في أبريل/نيسان 1916.
اتخذ الباروني من مدينة الزاوية مركزاً له، ورفع العلم العثماني وبدأ في تنظيم القوات الطرابلسية من جديد حتى امتدت من حدود مصراته شرقاً إلى زوارة على الحدود التونسية، وبدأت الغواصات في الوفود من الأستانة تباعاً، وبدأت القوات في قطع الطريق على القوات الإيطالية حتى باتوا محاصرين براً بفضل القوات الطرابلسية وبحراً بفضل الغواصات العثمانية، وانطلقت القوات الطرابلسية في شن الغارات المنظمة على الطليان، واستمر هذا الوضع لمدة سنتين حتى جاء عام 1918 وقد وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وخرجت منها الدولة العثمانية وحلفاؤها منهزمين، ولم تعد طرابلس الغرب ضمن ولاياتها.
الجمهورية الطرابلسية.. أول جمهورية في العالم العربي
سرعان ما اجتمع الأعيان بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، واتفقوا على إعلان الجمهورية، وانتُخِبَ أعضاؤها والذين كان من بينهم الباروني، وأجَّلوا انتخابات رئيس الجمهورية حتى تستقرّ الأمور، كما انتخبوا مجلساً للشورى، وأقسم الحاضرون جميعاً بالولاء للجمهورية.
وأصدر مجلس الحكومــة بلاغاتٍ تدعو الضباط الوطنيين إلى تقديم الطاعة للحكومة الجمهورية الجديدة والدفاع عن شرف الوطن، وأرسلت بلاغاً آخر للحكومة الإيطالية تقول فيه: "تفتخر الأمة الطرابلسية بتتويج استقلالها بإعلان الحكم الجمهوري، وانتخاب نواب عنها من كافة أنحاء القطر، لمجلسي الحكومة والشورى، ولا هدف لها إلا ضمان وحدتها وحريتها داخل حدودها السياسية المعروفة، ولا تقصد إلا أن تعيش عيشة هنيئة مسالمة لجميع الأمم التي لا تحاول غصب حقوقها. لذلـك فالحكومــة الجمهورية الطرابلسية تدعو الحكومة الإيطالية للاعتراف بها وسد كل باب يضطــر الحكومة الطرابلسية إلى مداومة الحرب إلى أن تحقق أملها المشروع".
كما أرسلت الحكومة بلاغات أخرى إلى رئيس الولايات المتحدة، ورئيس الوزراء البريطاني، ورئيس الحكومة الفرنسية، إلا أن الحكومة الإيطالية رفضت الاعتراف بالجمهورية وأعلنت قتالها على كافة أنحاء الجمهورية.
ومع قدوم عام 1919 تفاجأ الطرابلسيون بخطابٍ من إيطاليا يدعوهم للمفاوضات، حيث لم تتقدَّم قواتهم – التي وصل عددها لـ 80 ألفاً – بعد كل هذه السنوات، إلا في المناطق الساحلية وتحت حماية الأسطول الإيطالي كما صرح الجنرال غراتسياني نائب الملك الإيطالي وقائد القوات الإيطالية في إفريقيا.
من أجل ذلك؛ قبلت الحكومة الإيطالية في الدخول في المفاوضات مرة أخرى لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه بقواتها التي لم تحرز تقدماً يُذكر منذ دخولها الأراضي الليبية.
وفي نهاية المفاوضات اتفق الطرفان على الصلح – والذي أُطلق عليه صلح بنيادم – في مقابل منح الشــعب الطرابلسي دستوراً يخوِّله مباشرة حقوقه المدنية والسياسية، ويعطيه الحق في القيام بجميع واجباته الكبرى، وفي مايو 1919 وُضع الدستور وعُيِّن بموجبه أعضــاء مجلس حكومــة القطر الطرابلسي، والذي لم يكن فيه الباروني الذي اعتذر عن الدخول في المجلس، والذي قال إنه يريد الاحتفاظ بعثمانيته وبوظيفته في مجلس المبعوثان العثماني.
إلا أن ملك إيطاليا فكتور إيمانويل الثالث – وطبقاً لما أورده أبو القاسم الباروني؛ الذي عايش سليمان الباروني وتأثر به وسجل محطات حياة سليمان الباروني في كتاب "حياة سليمان باشا الباروني" – أبطل دستور الجمهورية وذلك في 1 يونيو 1919، وهو ما أنهى على حلم الجمهورية التي لم تبق سوى أقل من سنة.
عصر الاستعمار الذي لم يناسب الباروني، فرحل عنه
مـا لبــث الباروني أن غادر طرابلس إلى الأستانة فــي نوفمبــر/تشرين الثاني 1919، حتى صادف قدومه الانقلاب الذي قام به مصطفى كمال أتاتورك، فخابت آماله، وعاد أدراجه إلى طرابلس بعــد أن لبث في تركيا 3 أشهر. عاش سليمان بعد عودته إلى طرابلس منعزلاً بعيداً عن السياسة وأضوائها، إلا أن السلطات الإيطالية أمرته بمغادرة البلاد.
سافر الباروني إلى الأستانة ثم إلى أنقرة لكنّ وجه البلاد كان قد تغير، فلم يستطع الإقامة فيها، فحاول السفر للشام ومصر وتونس لكن كل من السلطات البريطانية والفرنسية حالوا بينه وبين تحقيق ذلك.
فحمل جواز سفر باسم مستعار وذهب إلى باريس، واكتشفت السلطات الفرنسية هناك حقيقة شخصيته فمنعته من مغادرة فرنسا، فانتحل اسماً على جواز سفره ولم يجد بُداً إلا أن يذهب إلى تونس، حيث يوجد أصدقاؤه، فنزل بفندق حيث التقى بمعارفه، فاكتشفت القوات الفرنسية الأمر وحاصرت الفندق ورحلوه في أول باخرة ذاهبة إلى فرنسا.
مع رجوع الباروني لفرنسا ثانية أخذ يحاول الدخول لأي بلادٍ عربية، لكن سلطات الاحتلال في كل دولة كانت ترفض طلبه، فما كان منه إلا أن طلب من الشريف حسين تسهيل إقامة شعيرة الحج له، على الرغم من نقده له بسبب تعاونه مع الإنجليز.
وافق الشريف حسين على طلب سليمان الباروني وأحسن استقباله، لكنّ الباروني ظلّ متمسكاً بموقفه ولم يبايعه، وما إن انتهى من أداء الحج حتى طلب من الحكومة العربية التوسُّط لدى السلطات الإنجليزية ليزور مسقط، فما أن وصل إلى الميناء حتى استقبله الوزراء وكبار رجال الدولة وأعلنه الحاكم مفوضاً عنه لتنظيم المملكة في الأمور العسكرية والمالية والسياسية الداخلية والخارجية، إلا أن الباروني كان قد أصيب بمرض الملاريا.
وبالرغم من اشتداد المرض عليه؛ لم يهدأ الباروني وظل مهتماً بقضية فلسطين محاولاً التصدي للمشروع الصهيوني بكتاباته وخطاباته لعصبة الأمم، ومع اشتداد المرض عليه، سافر الباروني إلى الهند بقصد العلاج، وما إن وصل في 23 مايو 1940 حتى سقط مغشياً عليه حتى حُمل للمشفى، وما إن أفاق حتى كان فاقداً للنطق والحركة، ولم يمضي الكثير من الوقت حتى فاضت روحه.
بالطبع سيتبادر إلى الذهن سؤال: أين كان عمر المختار المقاوم الليبي الشهير ضد الإيطاليين؟ والإجابة أن ليبيا لم تكن قطراً واحداً بعد. إذ كان هناك طرابلس الغرب وكانت هناك مصراته التي تواجد فيها عمر المختار في نفس وقت قتال سليمان الباروني للقوات الإيطالية في طرابلس، ولا ندري ما السبب في عدم توحدهم تحت راية واحدة، لكن لربما حالت بينهم القوات الإيطالية في تنفيذ ذلك، فالاثنان بلا شك كانا من أعلام المقاومة في ليبيا أمام الاحتلال الإيطالي.