في منتصف عام 1497؛ قاد البرتغالي فاسكو دي جاما فريقاً مكوناً من أربع سفن و170 فرداً، وذلك لاستكشاف طريق إبحار إلى الشرق وتحديداً إلى الهند باعتبارها موطن التوابل، تلك البضاعة المطلوبة بشدة في أوروبا. وقد أدّت رحلته تلك إلى اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي يمكن لنا أن نقول دون مبالغة إنّه غيّر العالم.
فمن خلال هذا الطريق تأثّرت أكبر قوّة إسلامية في ذلك الوقت، دولة المماليك في مصر والشام، والتي تأثرت خزانتها بقوة بسبب سلوك السفن الأوروبية هذا الطريق بديلاً عن طريق البحر الأحمر، كما أنّ الدول الأوروبية ذات الأساطيل البحرية بدأت عمليات استعمارها للشرق من خلال هذا الطريق.
ولكن لأنّ دي جاما كان عديم الخبرة على حد وصف موقع Biography، فبعد عدّة أشهر من الإبحار، دار الأسطول حول رأس الرجاء الصالح وبدأ يشقّ طريقه صعوداً على الساحل الشرقي لإفريقيا باتجاه مياه المحيط الهندي.
كما عانى العديد من أفراد طاقمه من مرض الأسقربوط، وهو مرضٌ ينتج عن نقص في فيتامين ج يسبب الإرهاق الشديد، ويتبع ذلك نزيف في عدة أنحاء في الجسم وفقدان جزئي للحركة مع ظهور الجروح المفتوحة المتقيحة والحمَّى وأخيراً الموت إثر النزيف.
كما أن السفن قد بدأت في التهالك ما أجبر الأسطول بالرسوّ في ميناء موزمبيق، والتي كان ينتشر فيها التجار المسلمين خاصة من عُمَان، للراحة وإصلاح السفن لمدة شهر تقريباً.
واصل الأسطول بعد ذلك الإبحار نحو المحيط الهندي، ووصل إلى ميناء كاليكوت في الهند في منتصف عام 1498، والتي كان فاسكو دي جاما يعتقد أن سكانها يدينون بالمسيحية إلا أن أهل كاليكوت كانوا في الواقع من الهندوس وهو ما أدى إلى ارتباك الطاقم.
لكنّ الحاكم الهندوسي المحلي رحَّب بالأسطول وانتهى الأمر بالطاقم بالبقاء في كاليكوت مدة ثلاثة أشهر، لكن بعد أن مات الكثير من الطاقم والذي لم ينج منه إلا 54 فرداً فقط من أصل 170، ومع ذلك لم يكن الوصول لكاليكوت إنجاز فاسكو دي جاما وحده، بل دله عليه أحد كبار علماء الملاحة المسلمين في ذلك الوقت.
ابن ماجد وتوجيه أسطول فاسكو دي جاما
عندما كان دي جاما في موزمبيق لاحظ وجود بعض السفن العربية في شمال موزمبيق، واكتشف أن الملّاحين في هذه السفن لديهم بوصلات متطورة عن التي يمتلكها ومخططات وخرائط بحرية ستفيده في رحلته.
وفي ذلك التوقيت التقى دي جاما بأحمد بن ماجد، وطبقاً لما أورده المؤرخ الهندي المسلم قطب الدين النهروالي في كتابه البرق اليماني في الفتح العثماني، فقد طلب دي جاما من ابن ماجد أن يرشده إلى الطريق البحري إلى الهند فوضع له دليلاً لكيفية الوصول للهند، وهو ما قاد دي جاما لاحقاً لعبور بحر العرب ثمّ إلى كاليكوت الهندية.
وطبقاً للمؤرخ البرتغالي جواو دي باروس، فلقد تأثر دي جاما بمعرفة ابن ماجد الواسعة بالملاحة، كما يذكر باروس اسمه باسم Malemo، وهي مأخوذة من كلمة "المعلم"، لذا فقد اشتهر ابن ماجد عند البرتغاليين والأوربيين باسم المُعلِّم.
يقول باروس إن دي جاما أظهر لابن ماجد بعض الأسطرلابات الخشبية والمعدنية التي كان يمتلكها، إلا أن ابن ماجد عرَّف دي جاما على بعض الأدوات البحرية الأخرى، مثل "الإبرة المغناطيسية" وهو الأسطرلاب البحري أو البوصلة التي كانت بحوزته والتي كانت تتفوّق على الأسطرلابات الأخرى الموجودة مع فاسكو دي جاما، وهو ما أدهش دي جاما وجعله يعتمد على ابن ماجد في رحلته.
ومن الجدير بالذكر، أن قصة مساعدة ابن ماجد وتوجيهه لأسطول فاسكو دي جاما إلى الهند سُجِّلت في العديد من المصادر والكتب العثمانيّة والبرتغالية والعربية، إلا أن كتاب النهروالي (البرق اليماني في الفتح العثماني) كان من أول المصادر التي كتبت عن تلك القصة إذ كُتبت بعد وفاة ابن ماجد بحوالي خمسين عاماً فقط.
وقد ظهر فيما بعد ذكر الحادث من قبل أحد أعضاء طاقم فاسكو دي جاما في مذكراته بعنوان Roteiro da viagem de Vasco de Gama وترجمتها "خارطة طريق رحلة فاسكو دي جاما"، والتي نُشرت في لشبونة عام 1861. وكذلك كتب أحد المؤرخين الروس، ويدعى T. A. Shumovsky، أن ابن ماجد كان "المعلم" الذي قاد فاسكو دي جاما إلى الهند.
أسد البحر وشاعر القبلتين
وُلد أحمد بن ماجد النجدي عام 1432 في جلفار بإمارة رأس الخيمة الإماراتية حالياً والتي كانت تابعة لعُمان في ذلك الوقت. وينتمي ابن ماجد -الذي كان يعرف بشهاب الدين، وأسد البحر- لعائلةٍ اشتهرت في ميدان الملاحة إذ كان والده وجده ملّاحين، لذا كان ابن ماجد مولعاً بفنّ الملاحة.
ويذكر الدكتور علي بن عبدالله الدفاع في كتابه رواد علم الجغرافية في الحضارة العربية والإسلامية أن ابن ماجد قاد المركب وهو في العاشرة من عمره، وهو ما جعله بدوره ضليعاً في معرفة علم الملاحة ومطالع النجوم وهو ابن 17 عاماً.
دوَّن ابن ماجد العديد من المؤلفات والتي وضع فيها معارفه في مجال الملاحة والجغرافيا البحرية خاصة، وأشهرها كتابه (الفوائد في أصول علم البحر والقواعد) والذي تحدث فيه عن الرياح الموسمية، كما تحدث عن الطرق البحرية، والموانئ والجزر، وبالأخص عن البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي ومياه آسيا الجنوبية وهو ما كان سبباً في الأثر الكبير لنجاح ابن ماجد في الملاحة العالمية، حيث إن الطرق التجارية العالمية المنتعشة آنذاك كانت تمر بهذه المناطق وبالأخص الخليج العربي.
جعل هذا الكثير من علماء الجغرافيا في العالم -كما يقول الدكتور الدفاع- يعتبرون ابن ماجد مؤسس علم الجغرافيا البحرية، وأول المكتشفين للطرق البحرية التي تربط الساحل الشرقي للقارة الإفريقية بالهند وإندونيسيا، وبجانب نبوغه في علم الملاحة كان ابن ماجد شاعراً إذ جاءت معظم مؤلفاته منظومة شعراً، وقد كان يطلق على نفسه "شاعر القبلتين".
اختراع الأساليب والأدوات الملاحية
قسّم ابن ماجد كتابه الأشهر "الفوائد" إلى 12 قسماً والتي تناولت الملاحة والفلك والجغرافيا البحرية من جوانبها النظرية والعملية، فكتب عن نشأة الملاحة، والمشكلات التي تواجه الملّاحين في البحر، وابتكر نظام رصد النجم القطبي والنجوم الدالة عليه والتي تُستخدم إلى الآن في الأنظمة الملاحية.
كما أفاض في الحديث عن الطرق البحرية كما ذكرنا، ووصف البوصلة والتي كانت تُسمى في ذلك الوقت بـ"الأبرة الممغنطة".
وتحدّث ابن ماجد كذلك عن مواضيع مثل: علامات الاقتراب من السواحل واليابسة، وقيادة وتوجيه السفن، بجانب وصفه لسواحل الجزيرة العربية وساحل شرق إفريقيا ومسالك البحر الأحمر وصولاً إلى إندونيسيا ووصفه لجزيرة سومطرة وجاوة (بإندونيسيا الحالية).
وفي كتابه (حاوية الاختصار في علم البحار) وصف ابن ماجد طرقاً بحرية طويلة وقصيرة حيث يذكر المسافة والرحلة بدءاً من ميناء الانطلاق وميناء الرسوّ، وهو ما دلّ على اطّلاع ابن ماجد الواسع على عدة علوم مثل الجغرافيا وليس الملاحة فقط.
كما اخترع ابن ماجد طبقاً لما ذكره الدكتور محمد فارس في كتابه موسوعة علماء العرب والمسلمين عدداً من الأساليب الملاحية والتي كان أهمها تقسيمه لخطّ الاستواء وخط الزوال -وهو الخط الرأسي المتعامد على خط الاستواء- إلى 224 إصبعاً -والإصبع هو ما يعادل 97 ميلاً بحرياً تقريباً- بدلاً من 360 إصبعاً الذي عمل به بطليموس.
توفي أحمد بن ماجد عام 1501، تاركاً وراءه العديد من الإنجازات والمخترعات في علم الجغرافيا البحرية والملاحة وقيادة السفن، لكن الأهم أنه فتح -دون تخطيطٍ منه- للبرتغاليين الفرصة لتقدّم صناعاتهم البحرية والتي كانت لا شك سبباً في نشوء عصرٍ جديد أدى لظهور أوروبا الحديثة بأساطيلها البحرية الاستعمارية في الهند وشرق آسيا.