كان أبو عبدالله محمد بن جابر بن سنان الحراني البتاني، المولود في حرَّان في بلاد الشام عام 858م، أحد أهم العلماء المسلمين في الفلك والرياضيات في عصره، وقد امتدّت شهرته وتأثيره -بعد وفاته- إلى الغرب، حتّى إنّ الفاتيكان يحتفظ بمخطوطة كتابه حتى الآن.
وقد انتشرت أعمال البتاني وأصبحت مشهورة بين علماء الفلك الأوروبيين في القرون اللاحقة، وعُرف بأسماء لاتينية عديدة منها: الباتينيوس، الباتيجنيوس، أو البيجني، إذ تبيَّن أن تقديراته لطول السنة، وغيرها من الأسس التي وضعها في علم الفلك كانت دقيقةً بشكلٍ أذهل العلماء اللاحقين له، خاصة أنه كان في عصرٍ لا يعرف التلسكوبات أو غيرها من المعدات الفلكية الحديثة.
يذكر قاموس السيرة العلمية -الذي نشرته جامعة برينستون الأمريكية عام 1970- أن البتاني هو "أحد مشاهير وروّاد الهندسة وعلم الفلك النظري والعملي وعلم التنجيم. فقد كانت ملاحظات البتّاني على القمر والشمس ووصفه لهما وحركتهما أكثر دقة مما ورد في كتاب بطليموس الشهير المجسطي".
يضيف القاموس: "لا أحد معروف في التاريخ الإسلامي بلغ مثل هذا الكمال في مراقبة النجوم والتدقيق في حركاتها مثل البتاني".
إسهاماته في علم الفلك
ولد البتاني عام 850 في قرية بتّان -منها لقبه- في مدينة حرّان الشامية (في تركيا الآن)، وقد كانت جذور عائلته من طائفة الصابئة، لكنّها أسلمت.
عمل البتاني على مؤلفات بطليموس وصحح بعض أخطائه المتعلّقة بطول السنة التي ذكرها بطليموس، إذ إنه وضع قيماً جديدة للسنة الشمسية، وهي (365 يوماً، و5 ساعات، و46 دقيقة، و24 ثانية) أي أقصر من طول السنة الصحيح بـدقيقتين و22 ثانية فقط، إذ إنّ طول السنة الصحيح (365 يوماً، 5 ساعات، 48 دقيقة، و46 ثانية) بينما قدّرها بطليموس كالتالي (365 يوماً و5 ساعات و55 دقيقة و12 ثانية)، أي أطول من طول السنة الصحيح بمقدار 6 دقائق و26 ثانية.
كما أن من أهم اكتشافاته في علم الفلك ملاحظاته عن خسوف الشمس والقمر. يقول المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نالينو إن البتاني لديه العديد من الملاحظات البارزة لخسوف القمر وكسوف الشمس، إذ إن البتاني لاحظ بدقة أن المسافة بين الشمس والأرض تختلف ولا تظل ثابتة، وكان أحد الاستنتاجات الصحيحة التي استخلصها من هذه الملاحظة أن "الكسوف الحلقي" يحدث للشمس، حيث يتداخل القمر تماماً بين الأرض والشمس، لكنّه يترك حلقةً مضيئة حول حافّته، ويحدث هذا عندما تكون الشمس على أكبر مسافة لها من الأرض.
ملاحظة أخرى مهمة ودقيقة توصّل إليها البتاني بخصوص الأرض والشمس، والمعروفة باسم "ميل سير الشمس"، ولكي نتعرف على أهمية ما قام به البتاني علينا أن ندرك أولاً ما هو ميل سير الشمس.
مسار الشمس هو المسار الذي تتحرّك فيه الشمس عبر السماء، حيث تبدو الشمس كأنها تدور في سماء الأرض، مع أن ما يحدث في الواقع هو أن الأرض تدور حول الشمس.
وتتحرّك الشمس في حركةٍ دائرية، والكواكب الواقعة ضمن هذه الدائرة (مسار الشمس) تُسمَّى الأبراج السماوية، وتسمَّى المنطقة التي تغطّيها هذه الأبراج بـ"دائرة البروج". وقد كان الفلكيون القدماء وفي العصر الإسلامي يستخدمون نقطة تقاطع مسار الشمس وخطّ الاستواء السماوي نقطةً ابتدائية لحساب المواقع في السماء.
يقطع مسار الشمس (في وسط دائرة البروج) ما يسمى بـ"مستوى الاستواء السماوي"، بزاوية ميل تسمى "ميل دائرة البروج أو ميل سير الشمس"، وتقدر بحوالي (23 درجة و27 دقيقة و8.26 ثانية). أما ما اكتشفه البتاني فكان أن مستوى الاستواء السماوي لا يتطابق مع خط الاستواء الأرضي، ونتج عن ذلك حساب البتاني للزاوية بين هذين المستويين، والتي قدرها بـ(23 درجة و35 دقيقة) والتي تقترب بشكل ملحوظ من الرقم الفعلي الحالي!
كذلك اكتشف البتاني ما يسمى بـ"الاعتدال الشمسي"، وهو الوقت من السنة الذي يمر خط الاستواء السماوي مع خط استواء الأرض عبر منتصف قرص الشمس، حيث يتعامد فيه مركز قرص الشمس المرئي مع خط الاستواء الأرضي.
ترجمة كتابه إلى اللاتينية والإسبانية
قضى البتاني الكثير من وقته في تجميع البيانات وتسجيل ملاحظاته الفلكية التي جمعها في كتابه الرئيسي المعروف باسم (الزيج الصابئ). يتكوّن هذا الكتاب من 57 فصلاً، بالإضافة إلى مقدمة حثّ فيها البتاني الأجيال القادمة على تحسين النتائج التي توصل إليها ودوّنها في كتابه.
وصف الجزء الأول من الكتاب الكرة السماوية وقسّمها بطريقتين، إلى درجات وعلامات، والتي عرض فيها الأسس الرياضية لعمله، ثم تناول مسائل فلكية محددة. كما قام البتاني بتضمين فهرس للنجوم في عام 880م، إذ قام بتسمية 489 نجماً، وأنشأ واحدة من أكثر سجلات النجوم قيمةً في عصر ما قبل التلسكوبات.
وفي منتصف الكتاب، شرح البتاني نظريته عن حركة الشمس والقمر والكواكب الخمسة المعروفة (عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل)، وأعطى توجيهات لكيفية استخدام الجداول في الكتاب. واختتم البتاني الكتاب بعدة فصول حول بناء الأدوات الفلكية، بما في ذلك الساعة الشمسية.
وقد تُرجم كتابه هذا إلى اللاتينية باسم "De motu stellarum" بواسطة أفلاطون تيبورتينوس المعروف بأفلاطون التيفولي، وهو عالم فلك ورياضيات ومُترجم إيطالي عاش في القرن الثاني عشر وعُرف بترجمته للكتب من العبرية والعربية إلى اللغة اللاتينية، واشتُهِرَ بنقله آلة الأسطرلاب إلى أوروبا.
ظهرت ترجمة أفلاطون التيفولي لكتاب الزيج في عام 1116، بينما ظهرت نسخة مطبوعة لترجمته في عام 1537 ثم مرة أخرى في عام 1645.
وقد أوصى الملك ألفونسو العاشر ملك قشتالة وليون بترجمة الكتاب للإسبانية في القرن الثالث عشر، وذلك رغم عداوته السياسية مع المسلمين. وهكذا أصبح الكتاب معروفاً لعلماء الفلك والرياضيات في جميع أنحاء وسط وشمال أوروبا، كما توجد مخطوطة كتاب البتاني الأصلية في مكتبة الفاتيكان!
إسهاماته في علم حساب المثلثات
استخدم البتاني ما نسميه الآن علم حساب المثلثات -دراسة النسب المتعلقة بأضلاع وزوايا المثلثات القائمة- في حساباته. إذ تعود جذور علم حساب المثلثات إلى الهند القديمة، حيث انتشر من هناك ووصل إلى العالم العربي، فاستفاد البتاني من مفاهيم مثل "الجيب"، ما أدّى إلى تحسين الأساليب التي استخدمها كبار علماء الفلك من قبله.
لم يكتفِ البتاني بذلك؛ بل قدّم عدداً من الدّوالّ المثلثية المهمة. فهو من ابتكر "جيب التمام، والظل" وهي مفاهيم مثلثية أساسية في علم حساب المثلثات. علاوة على ذلك فقد كتب جداول دقيقة لجيوب الزوايا.
وجيب التمام هو أحد الدوالّ المثلثية الرئيسية، وهي النسبة بين الضلع المحاذي لزاوية والوتر في مثلث ذي زاوية قائمة، حيث يكون الوتر هو الضلع المقابل للزاوية القائمة، وللدوال المثلثية أهمية كبرى عندما يُراد دراسة مثلث أو عرض أو ظواهر دورية، إذ تُستخدم تلك الدوال كإحداثيات على دائرة مثلثية لحساب النسب المرجو الوصول إليها.
وفاته وأثره على العلماء من بعده
في عام 929م، رافق البتاني مجموعةً من سكان بلدته متوجهين إلى بغداد للاحتجاج على غلاء الأسعار في ذلك الوقت. وعندما انتهى عالم الفلك ذو الـ79 عاماً، من واجبه، وبعد قبول مطالبهم، وافته المنية أثناء رحلة عودته إلى مدينته، بالقرب من مدينة سامرّاء العراقية الحالية.
كانت حياة البتاني زاخرة بالاكتشافات والإسهامات العلمية المهمة، التي فتحت طريقاً للعلماء من بعده، إذ إنّ الاكتشافات التي قدمها البتاني أصبحت مهمة لعلماء الفلك الأوروبيين في عصر النهضة، الذين وضعوا الأسس للفهم الحديث لعلم الفلك.
إذ ذكر كبار علماء الفلك في عصر النهضة الأوروبي مثل نيكولاس كوبرنيكوس، ويوهانس كيبلر، وتيكو براهي، صراحةً تأثير البتاني واكتشافاته على علم الفلك واعتمادهم عليها، بل كانت ملاحظات البتاني لحركة الشمس أكثر دقة من تلك التي قام بها كوبرنيكوس نفسه!
وحتى وقتٍ متأخر في القرن الثامن عشر، كان علماء الفلك لا يزالون يستشهدون بملاحظاته عن الكسوف. ولكن مثل الكثير من علماء المسلمين الذين أسهموا إسهامات كبرى، فإن اسم البتاني غير معروف كثيراً حتى بين القراء ذوي الخلفيات العلمية.