هل يمكن أن يكون شخصٌ عربيّ قد حكم الإمبراطورية الرومانية الشاسعة الواسعة؟ نعم، فقد وُلد هذا الشخص في سوريا الحالية، وعُرف في المدونات التاريخية الرومانية باسم "فيليب العربي" أو "فيليبوس العربي". وهو أوّل "عربي" يحكم الإمبراطورية الرومانية.
الإمبراطورية الرومانية.. دولة "عالمية"
كانت الإمبراطورية الرومانية بطبيعة تشكيلها دولةً تستوعب الأعراق والأجناس الأخرى التي تحكمها في داخلها، كما لم تكن تُحكَم من خلال "سلالة حاكمة" كعادة الممالك والإمبراطوريات في ذلك الوقت، فقد كانت الإمبراطورية تعتمد بشكلٍ أكبر على قادة الجيوش، ولهذا فقد دخلت الإمبراطورية في العديد من الحروب الأهلية والصراعات بين جيوشها في الكثير من الفترات.
وبينما كانت الإمبراطورية الرومانية تقترب من ذكرى تأسيسها الألف، كانت الإمبراطورية الساسانية الفارسية تتشكّل عام 226 وتتوسّع على حساب كلّ الإمبراطوريات المحيطة بها. وعندما تولّى الحكم الملك شابور الأوّل بعد أبيه مؤسس الدولة أردشير الأوّل، كانت إمبراطوريته هي الأقوى بالمقارنة بالإمبراطورية الرومانية التي كان قادتها يتصارعون فيما بينهم.
"الفُرس" في مواجهة "الرومان" وفيليب يصعد
كانت منطقتا الشام والعراق موطن الصراع الدائم بين الإمبراطوريتين الضخمتين؛ إذ إنّ جغرافيتها في المنتصف بين الإمبراطوريتين، ومن يسيطر عليهما يسيطر على العديد من طرق التجارة بين الشرق والغرب.
فكّر الملك الساساني شابور الأوّل بعدما ثبّت أركان ملكه من الهند إلى العراق في أنّ الوقت قد حان الآن للقضاء على الإمبراطورية الرومانية، خصوصاً الشرقية منها (تركيا والشام). فقد كانت الإمبراطورية الرومانية هي الوحيدة التي في نفس قوته من ناحية، ومن ناحية فقد حاول الفرس سابقاً غزو أوروبا ونجحوا لفترةٍ محدودة ولكنّهم فشلوا في النهاية أيام الدولة الأخمينية.
للقراءة أكثر حول هذه الدولة وفترة حكمها، يمكنك قراءة هذه المادة.
وقد استطاع الإسكندر الأكبر في النهاية غزو الشرق وهزيمة الدولة الأخمينية والقضاء عليها ليصبح الوحيد الذي وحّد طرفي العالم القديم: الشرق والغرب.
وهكذا مثّل هذا الصراع الدائم ومجد الإسكندر محفزاً للملوك المتلاحقين في كلتا الإمبراطوريتين، في الشرق والغرب لغزو الإمبراطورية الاخرى. ومن خلال هذا الصراع الكبير، برز فيليب العربي. فيليبوس، الذي أصبح إمبراطور روما.
فيليب العربي.. هل خان قائده ليصبح إمبراطوراً؟
وُلد فيليب العربي، أو ماركوس يوليوس فيليبوس في سوريا، في مدينة شهبا في محافظة اللاذقية الحالية، وهي جنوب دمشق، وقد عرفت المنطقة لاحقاً باسم إلى فيليبوبولس نسبةً إليه. كان والد فيليب مواطناً رومانياً يدعى يوليوس مارينوس، وقد كان والده قائداً لقبيلة عربية في المنطقة.
المقصود بهذه القبيلة أنّها عشيرة كبيرة، وإن لم يصل المؤرخون لاسم هذه العشيرة تحديداً، ويخمّن البعض بأنّ اسمه الذي اشتهر به في مدونات التاريخ الرومانية "Philip the Arab" ليس لأنّه وُلد في منطقةٍ عربية فقط، وإنما كان هو رومانياً خالصاً. لكنّ الترجيح أنّه كان ابناً لزعيم عشيرة عربي.
وتنقطع التفاصيل عن حياة فيليب العربي قبل دخوله في الخدمة العسكرية في الجيش الروماني. وليس هناك تفاصيل عن طفولته، ولكنّ بعض المؤرخين يعتبره أوّل إمبراطور عربي أو من أصول عربية يحكم روما.
كما ذكرنا، لا تُعرَف الكثير من التفاصيل حول طفولة فيليب العربي، ويبدأ بزوغ نجمه في التاريخ عندما ينضمّ إلى الإمبراطور الروماني غورديان الثالث في حملته على "الشرق" التي واجه فيها الجيوش الساسانية.
في ظروفٍ غامضة أصبح فيليب العربي، أو فيليبوس، قائداً للحرس الإمبراطوري، وفي غمضةِ عين توفي الإمبراطور فجأةً بين جنده، وفي غمضةِ عينٍ أخرى أصبح فيليبوس إمبراطوراً!
وتشير أصابع الاتهام إلى فيليب في حادثة وفاة الإمبراطور، فالخطوات الأولى التي اتخذها الإمبراطور فيليب العربي هو سحب الجيش والعودة به إلى روما، بعد توقيع اتفاقية بشروطٍ تعتبر "مُهينة" مع الساسانيين.
اضطرّ فيليب العربي لتوقيع هذه الاتفاقية مع الساسانيين ليعود إلى روما وليستقرّ في الحكم، هذه هي الرواية الرومانية، لكنّ الرواية الفارسية تحتفل بالاتفاقية التي تخلّت روما فيها عن بعض المناطق الهامة، إضافةً إلى دفع "جزية سنوية" للساسانيين، وقد خلّد الساسانيون انتصارهم هذا في تماثيل ورسومات جدارية تبرز فيها شابور الأول وهو على فرسه بينما جنود فيليب يسجدون أمامه في وضعٍ استسلامي.
لكنّ فيليب لم يحكم حقيقة أكثر من 5 سنوات، ولم يحمه احتفاله الضخم بمرور ألف عام على الإمبراطورية الرومانية أثناء عهده من مواجهة مصير الملوك الذين سبقوه.
فقد أرسل فيليب العربي قائداً يدعى ديكوس لمواجهة بعض القلاقل، وما إن نجح في ذلك حتى عاد إلى روما متمرداً على فيليب العربي، وقتله هو ابنه فيليب الثاني عام 249 ليعلن نفسه إمبراطوراً. لكنّ ديكوس هذا سيقتل بعد سنتين هو وابنه أيضاً!
وقد حفظت المدونات التاريخية أنّ فيليب العربي كان متسامحاً مع الديانة المسيحية التي كانت مُحرَّمة في ذلك العهد، ويتكهّن البعض بأنّه كان مسيحياً خصوصاً أنّه جاء من المنطقة العربية التي تنتشر فيها المسيحية. وهو بهذا الممهّد الحقيقي لتحوُّل الإمبراطورية لاحقاً للمسيحيّة.
هل كان فيليب هو العربي الوحيد الذي يحكم الإمبراطورية الرومانية؟
بترجيح الروايات التاريخية التي تجعل فيليب العربي ابن زعيم لقبيلةٍ عربية، فيعتبر هو العربيّ الأوّل الذي حكم الإمبراطورية الرومانية، لكنّ كتابات أخرى تُرجع بعض الأباطرة اللاحقين إلى أصولٍ عربيّة. لكنّنا لا يمكننا أن نقول إنّهم كانوا "عرباً" مثل فيليب.
وقبل قصّة فيليب العربي، حكم الإمبراطورية الرومانية الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس من عام 193 وحتى عام 211 وهو من شمال إفريقيا (تحديداً ليبيا)، وقد تزوّج جوليا دومنا وهي ابنة كبير الكهنة في مدينة حمص العربية آنذاك، وقد حكمت دومنا بالتوازي مع زوجها، وحكم ابناها غيتا ثمّ كركلا بعدما قتل أخوه.
ولا يمكننا القول إنّ هؤلاء الحكام كانوا عرباً تماماً، وإنما يمكن أن نقول إنّ بعضهم كانوا من ذوي أصولٍ عربية من ناحية أمّهاتهم، كما يمكننا احتساب جوليا دومنا بالطبع، فقد كان تأثيرها في الحكم في سنين حكم زوجها أو ابنيها أو حتّى حفيدها كبيراً.