إنّها صفحة من صفحات التاريخ الأسطورية، فهذا القائد الشاب ظلّ متمسكاً بثورة المسلمين في الأندلس رغم الأحوال الصعبة في الجبال، والخسارات المتلاحقة أمام الجيوش الإسبانية الضخمة، وكانت نهايته كبدايته: ثابتاً على موقفه. إنّه مولاي محمد بن عبو، صاحب الاسم الإسباني "دييغو لوبيز" فما هي قصّة هذا الرجل الذي يعدّ علامة في تاريخ المسلمين في إسبانيا بعد سقوط الأندلس.
البداية.. ثورة البشرات في الأندلس
بعد سقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس، عام 1492 بدأت الحكومة الإسبانية بقيادة فرديناند وإيزابيلا سياسات عنيفة تجاه المسلمين، فرغم أنّ اتفاقية تسليم غرناطة احتوت على شروط مخففة للمسلمين، إلا أنّ الملك والملكة الإسبانيين قررا التعامل مع المسلمين المدنيين باعتبارهم مارقين، وتنصلا من شروط اتفاقية التسليم.
كان فرديناند وإيزابيلا قد سيطرا على بقية الأندلس في السنوات السابقة على سيطرتهما على غرناطة، وبإحكامهما السيطرة على غرناطة لم يعد هناك "عدوٌ مسلم" يواجههما بأي شكل، وهكذا بدآ في فرض سياساتهما تجاه المسلمين العاديين في كل ربوع الأندلس.
فُرِضَ على المسلمين أن يحولوا دينهم من الإسلام إلى المسيحية غصباً، ومع تقدّم السنين صارت أوضاعهم أكثر سوءاً. لكنّ حفيد فرديناند الملك شارلكان، كانت سياسته تجاه المسلمين الأندلسيين متأرجحة بين الشدة واللين، وهكذا سجّلت سنين حكمه سياسات أقل عداوةً وضراوة من جده فرديناند، لكنّ هذه السنوات التي أتيح فيها للمسلمين الاحتفاظ بلغتهم العربية ولباسهم العربي قد ولّت بتولي ابنه فيليب الثاني الحكم عام 1555.
كان فيليب متعصباً دينياً كما يخبرنا دكتور محمد عبدالله عنان في موسوعة تاريخ الأندلس، وهكذا بدأ إجراءاتٍ أكثر شراسة وعداوة من والده شارلكان. فأصدر مرسوماً عام 1567 مُنع فيه الموريسكيون (وهو مصطلح يطلق على مسلمي الأندلس) مُنِعُوا من لباسهم العربي، ومُنِعُوا من استخدام لغتهم العربية، وأجبروا على التسمِّي بأسماء مسيحية، ودُمِّرَت كل الكتب والوثائق العربية.
وبالطبع كانت قد طُبِّقت عليهم بعد سقوط غرناطة سياساتٍ عدوانية، فبعد تنصيرهم بالقوّة أنشأت الدولة رقابة عليهم للتأكد من كونهم لا يُخفون إيمانهم بالإسلام تحت رداء المسيحية الذي ارتدوه غصباً، فحُظر على الموريسكيين أن يغلقوا أبواب بيوتهم في رمضان ليتأكدوا من أنّهم لا يصومون صيام الإسلام، وغيرها من القرارات التعسفية الشديدة الأخرى. وهكذا كان السياق مهيأً لحدوث ثورةٍ ربما هي إحدى أكبر الثورات في التاريخ: ثورة البشرات.
ثورة البشرات في الأندلس
أثار المرسوم الذي أصدره فيليب الثاني حفيظة الموريسكيين، وهكذا بدأ رجلٌ يدعى فرج بن فرج وهو سليل أسرة بني سراج التي خدمت سابقاً في البلاط الغرناطي المسلم، بدأ التحريض على الثورة على الوضع المتعسّف ضدهم.
أرسل فرج بن فرج العديد من الخطابات إلى مختلف أنحاء الأندلس يدعو فيها الموريسكيين إلى الثورة. بدأت الأحداث في ديسمبر/ كانون الثاني عام 1568، حين انقضّ بعض الموريسكيين على موكبٍ من القُضَاة المسيحيين، فقتلوهم وقتلوا الجنود الذين يحرسونهم. كانت هذه إشارة البدء فانطلق فرج بن فرج على رأس مئتي موريسكيّ وحاول السيطرة على أهم أحياء غرناطة، لكنّه لم يستطع ذلك، فانطلق إلى خارج غرناطة وهناك جاءته الجموع المتطوعة لإذكاء فتيل الثورة.
كان على الموريسكيين أن يختاروا أميراً، وهكذا وقع اختيارهم على شابٍ من سلالة بني أمية يدعى "فرناندو دي كوردوبا وڤالور"، وترك هذا الشاب الاسم الإسباني وتسمّى "محمد بن أمية". وهكذا أصبح للثورة قائدٌ عسكري وملكٌ أمويّ.
بالطبع لم تقف إسبانيا مكتوفة الأيدي، كانت هذه أكبر ثورة يقوم بها الموريسكيون، فقد انحصرت ثوراتهم السابقة في هبّاتٍ بسيطة هنا وهناك غير ذات تاثير، أمّا الآن فقد تجمّع جيشٌ موريسكيّ عدده 10 آلاف مقاتل، ما بين متطوعين ومرتزقة أتراك ومغاربة.
استطاع محمد بن أمية تحقيق بعض الانتصارات السياسية بل والعسكرية، لكنّ نهايته كانت مأساوية أيضاً، إذ قتله الجنود الأتراك في جيشه. وتحوم حول مقتله العديد من القصص أغلبها من مصادر إسبانية، فتقول بعد المصادر إنّ محمد بن أمية أعجب بإحدى النساء وهي ابنة عم ضابطٍ كبيرٍ في جيشه، فاتخذها عشيقة، فغضب الضابط الذي رأى أنّه يجب أن تكون زوجة لا عشيقة.
وهكذا زوّر هذا القائد رسالةً بختم الأمير موجهةً إلى القائد العام لجيوشه "ابن عبو" يأمره فيها بالتخلص من الجنود الأتراك، وهنا عاد هؤلاء الجنود بعدما وقعت الرسالة في أيديهم وقتلوا الأمير.
وبغض النظر عن مدى صحة هذه الرواية من عدمها، إلا أنّ الحقيقة أنّ الأمير الشاب قد قتل في محلّ إقامته. وهنا بويع ابن عمّه وقائد جيوشه العام ابن عبّو ملكاً للموريسكيين تحت اسم "مولاي عبدالله محمد بن عبو".
مولاي محمد بن عبو.. تغلّبت عليه الخيانة فقط!
كان مولاي محمد بن عبو ذكياً ذا فطنة، وهكذا كانت أولى خطواته أن سار بجيشه إلى منطقة "أرجبة" والتي تعتبر مفتاح غرناطة، واستطاع السيطرة عليها، وهنا ذاعت شهرته أكثر فتوافد عليه المتطوعون من جميع أنحاء الأندلس.
لكنّ تلك الثورة كانت تواجه دولة من أقوى دول أوروبا في ذلك الوقت، فقد استدعى فيليب الثاني أخاه العسكري المحنّك دون خوان ليقود المعارك ضد الموريسكيين. وهكذا ضرب دون خوان بقوّة في أولى المعارك، حيث حاصر بلدة "جليرا" التي سيطر عليها الموريسكيون، وقصفها بالمدافع أثناء حصارٍ طويل، وفي النهاية سقطت في يده.
بدأ دون خوان عمليات الحرق والنهب لكلّ القرى والأماكن التي يسيطر عليها بعنفٍ ممنهج لإرسال رسالة للحاضنة الشعبية للثورة، فلن يفرِّق الجيش الإسباني بين النساء والأطفال والعزَّل، وسيقتل وينهب الجميع.
بدأت انتصارات دون خوان تأخذ وضعها داخل الدائرة المقربة من مولاي محمد بن عبو، فالقائد الإسباني أحرز عدة انتصارات على الثورة، وأرسل لأحد قادتها الذين هزمهم، ويدعى الحبقي، اقتراحاً بالمفاوضات على أن تنتهي الثورة.
رضخ القائد لدون خوان وأعلن خضوعه له في خيمته، وطلب العفو لمواطنيه الموريسكيين فناله، لكنّ هذا الاتفاق لم يعجب مولاي محمد بن عبو بالطبع، فاستدرج الحبقي لمعسكره في الجبال وأعدمه. وهكذا بدأت الجموع تنفضّ من حول مولاي محمد بن عبو بسبب قطع الجيوش الإسبانية خطوط الإمداد عن الثوار، وإحرازها انتصارات متتالية عليهم.
قسّم الإسبان جيوشهم إلى ثلاثة جيوش، وساروا إلى ثلاث مناطق هي آخر ما تبقّى من معاقل الثوار الموريسكيين، واستطاعوا إخماد الثورة، ما عدا القضاء على قائدها المختبئ في الجبال مع مجموعة صغيرة جداً من المقربين منه.
وهنا ضرب الإسبان ضربتهم القاضية. فقد أفشى بعض الأسرى الموريسكيين عن مكان مخبئه، وهنا أرسل الإسبان وفداً للتفاوض مع الملك الموريسكيّ، وأثناء التفاوض استطاعوا إقناع أحد ضباطه خلسةً بعفوٍ عامٍ وإفراجٍ عن زوجته وابنته الأسيرتين إن هو سلّمهم مولاي محمد بن عبو حياً أو ميتاً.
وفي إحدى الليالي هاجمه الضابط وبعض الجند، قاومهم محمد بن عبو حتّى قتلوه، وألقوا جثته من فوق الصخور للإسبان، الذين أخذوا جثته كما هي وأركبوها بغلةً في موقفٍ مهيب وحاكموا الجثة الميتة وأصدروا حكماً بالإعدام عليها بقطع الرأس، وهكذا قطعت رأس الأمير الثائر ووضعوها في قفصٍ من حديد وعلقوها في أحد ميادين مدينة غرناطة، كما سحلوا جثّته في الشوارع وقطعوها أربعة أجزاء في وحشيةٍ لا تقلّ عن وحشية إنسان الغاب، وهكذا انتهت قصّة مولاي محمد بن عبو وثورة البشرات عام 1571.