البطل القومي الأمريكي الذي فرح بهجمات سبتمبر وهاجم إسرائيل.. أسطورة الشطرنج بوبي فيشر

هذا البطل "القومي" الذي هزم السوفييت في اللعبة التي سيطروا على بطولتها طيلة ربع قرن، تحوّل في النهاية لمناهض لسياسات بلاده.

عربي بوست
تم النشر: 2020/11/27 الساعة 15:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/27 الساعة 15:43 بتوقيت غرينتش
بوبي فيشر عام 1960 في منافسة مع لاعب سوفياتي / ويكيميديا

إذا شاهدتم مسلسل The Queen's Gambit على شبكة نتفلكس، فستحبون للغاية القراءة عن بوبي فيشر، وإذا لم تشاهدوا المسلسل وكنتم شغوفين بلعبة الشطرنج فستحبون القراءة أيضاً، بل وإذا لم تكونوا مهتمين كذلك بالشطرنج فإنّ قصّة هذا الشاب أو الطفل المعجزة مثيرة للغاية وملهمة أيضاً.

وإذا عدنا للقصة الحقيقية وراء مسلسل The Queen's Gambit، فهي عبارة عن محاكاة نسويّة لقصّة حياة عبقري الشطرنج بوبي فيشر.

الفتى ذو الـ13 عاماً يدخل عالم صراع الأذكياء

في عام 1956 دارت مباراة أطلق عليها "لعبة القرن"، ولكن، لم تكن مباراة كرة قدم ولا كانت مباراة تنس أو مصارعة، ولا أي من الرياضات الأخرى التي عادةً تجذب ملايين المشاهدات والرعاة بملايين الدولارات، بل كان كما وصفته صحيفة Telegraph البريطانية "صراع الأذكياء" بين أستاذ الشطرنج دونالد بايرن البالغ من العمر 29 عاماً والمبتدئ بوبي فيشر البالغ من العمر 13 عاماً.

فاز بايرن في بطولة أمريكا المفتوحة للشطرنج عام 1953، لذا كان من المتوقع أن يؤدي أداءً جيداً في بطولة الشطرنج التي أقيمت في نيويورك عام 1956، فقد كان فيشر مجرد فتى أظهر الكثير من البشائر في اللعبة.

لكن في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1956، أظهر الفتى المراهق بوبي فيشر ما هو أكثر من "مجرد بشائر" فقد فاز بوبي فيشر.

وقد كان فوزه على بطل الشطرنج الأكبر منه بمثابة بداية لمسيرة رائعة وكبيرة، ولكنّها مثيرة كذلك ومليئة بالغموض.

الشطرنج
بوبي فيشر واقفاً يشاهد إحدى المباريات عام 1960 وعمره 17 عاماً / ويكيميديا

وقد جذبت غرابة أطوار بوبي فيشر انتباه المزيد من الجمهور إلى اللعبة، كما كان لشروطه التعجيزية أحياناً على الاتحاد الدولي للشطرنج دورها في إثارة الانتباه تجاه البطل الأهم في العالم.

وفي النهاية، أمضى فيشر سنواته الأخيرة في المنفى بعيداً عن الولايات المتحدة وعن اللعبة التي بات مهووساً بها، بل إنّه عارض سياسات بلاده وهاجمها كثيراً وصدرت بحقه مذكرات اعتقال وأحكام بالتغريم والحبس!

بوبي فيشر.. "ابن أمه" المشكوك في نسبه لأبيه

وُلِدَ روبرت جيمس فيشر في مارس/آذار 1943 في شيكاغو. كانت والدته ريجينا ويندر عبقرية، سويسرية المولد، تخرّجت في كلية الطب وكانت من أصل يهودي بولندي.

في وقت ولادة بوبي كانت والدته متزوجة من عالم الفيزياء الحيوية الألماني المولد هانس جيرهارد فيشر، الذي أُدرج في شهادة الميلاد بصفته والده. لكنّ سجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي المحفوظة عن والدته، عندما كان مشتبهاً في كونها شيوعية، حددت لاحقاً الفيزيائي المجري بول نيميني باعتباره الأب البيولوجي لفيشر.

التقت ريجينا وهانس جيرهارد في موسكو وتزوَّجا عام 1938، لكنَّه كان زواجاً فاشلاً. ومن ثم هربت إلى الولايات المتحدة عام 1942، حيث كانت على علاقة غرامية مع نيميني. وقد طلقها هانز عام 1945 وربت بوبي وأخته الأكبر جوان بمفردها، بمساعدةٍ مالية أحياناً من حبيبيها نيميني.

عندما كان بوبي فيشر في الخامسة من عمره، انتقلت العائلة إلى بروكلين. وفي السادسة، اشترى فيشر وأخته مجموعة شطرنج رخيصة وتعلَّما اللعب معاً. وسرعان ما أصبح جيداً جداً فيها، بل ومهووساً أيضاً بها.

أدّى هوس بوبي فيشر بالشطرنج إلى خوف والدته التي كانت تتمنى أن يركز على الواجبات المدرسية أكثر من الشطرنج، بل وأخذته إلى طبيب نفسي ليرى إن كان ابنها يعاني من مشكلةٍ نفسية، ولكنّ الطبيب كان من محبي الشطرنج وطمأنها بأنّ ابنها طبيعي.

وفي عام 1951، عندما كان سنّة ثماني سنوات، جرب فيشر لأول مرة اللعب ضد أستاذ الشطرنج ماكس بافي الذي كان يلعب مباريات ودية ضد خصومه في بروكلين.

خاض فيشر مباراة لخمس عشرة دقيقة لكنَّه خسر. لكن رئيس نادي بروكلين للشطرنج شاهد موهبة بوبي فيشر وراقبه. وهكذا، قدم فيشر لاحقاً إلى ويليام لومباردي، الذي كان يكبره بست سنوات وفاز ببطولة ولاية نيويورك عام 1954.

وبدأ لومباردي تدريب فيشر، وبحلول عام 1956 كان فيشر قد بدأ يجري مبارياته الودية المتزامنة. وهي مباريات يلعب فيها لاعب واحد أمام مجموعة لاعبين.

وفي يوليو/تموز من هذا العام فاز ببطولة الشطرنج الأمريكية للناشئين، فحصل على دعوة للعب في بطولة كأس ليسينغ جاي روزنوالد في نيويورك. وهكذا كانت مواجهته التي ذكرناها في أول التقرير، ضد دونالد بايرن بطل الولايات المتحدة لعام 1953، وهو رجلُ يكبره بنحو 13 عاماً.

توقَّع المنظمون مباراة ممتعة، لكن ما حصلوا عليه كان شيئاً مُذهلاً. 

كان فيشر يرتدي قميصاً مخططاً، ويقضُم أظافره كثيراً، فقد بدا طفلاً عادياً للغاية ولكنه لعب بجرأة وإبداع ناقضاً تماماً صغر سنه.

بوبي فيشر
طابع بريد في تشاد يحمل صورة بوبي فيشر / shutterstock

أثناء المباراة، ضحى بوبي فيشر بالعديد من القطع على رقعة الشطرنج، بما فيها قطعة الوزير وهي إحدى أهمّ القطع، لجذب بايرن إلى موقفٍ ميؤوسٍ منه وإرغامه في النهاية على مواجهة حركة "كش ملك".

وطوال تلك المباراة الملحميّة، كانت تُسمع من الجمهور عبارات مثل "عبقري" و"مستحيل". وعندما سأل أحد المراسلين فيشر كيف أدار مثل تلك الحركة الفذّة وشبه المستحيلة؟ أجابه الطفل ببساطة: "كنت أفعل فقط الحركات التي ظننت أنها الأفضل. لقد كنت فقط محظوظاً".

فاز بتلك البطولة لعام 1956 الأستاذ سامويل ريشفسكي، بولنديّ المولد. ومع ذلك، عندما تُذكر تلك السنة نادراً ما يُذكر ذلك. فقد كان الفائز الحقيقي في هذه البطولة هو بوبي فيشر. ومن هذه المباراة انطلقت مسيرته المهنية في الشطرنج. بحلول عام 1958، وفي عمر الـ15، شُهد له بأنه "أستاذ كبير"، وهو لقب يمنحه الاتحاد العالمي للشطرنج للاعبين الأفضل في العالم. وهكذا نال فيشر هذا اللقب وهو اللاعب الأصغر في التاريخ.

وهكذا، ساعد صعوده الصاروخي في اشتهار لعبة الشطرنج في أمريكا، مع بث المباريات على التلفزيون.

بوبي فيشر.. بطل العالم في الشطرنج بعد سيطرة سوفييتية لربع قرن

ولكنّ كان عام 1972 هو عام بوبي فيشر بشكلٍ خاص، فقد أصبح أول أمريكي يحوز لقب بطل العالم في الشطرنج بعد أن هزم بطل العالم السوفييتي بوريس سباسكي، لكنَّه مع ذلك الفوز صار متقلباً بشكل متزايد.

بعدها بثلاث سنوات، أي عام 1975 خسر بوبي فيشر لقبه. حاول بوبي فيشر فرض شروطه على الاتحاد الدولي للشطرنج، ليقبل خوض مباراة مواجهة مع اللاعب السوفييتي أناطولي كاربوف.

كان لديه ثلاثة شروط، قبل الاتحاد الدولي للشطرنج أحدها ورفض الآخرَين، ولكنّ بوبي رفض التنازل عن أي شرط من شروطه، وبعد ضغط الاتحاد الأمريكي تناول الاتحاد الدولي للشطرنج عن شرطٍ آخر ولكنّ بوبي فيشر أصرّ على الشروط الثلاثة. ومع رفضه اللعب بدون تحقيق كامل الشروط خسر بوبي لقبه لصالح السوفييتي أناطولي كاربوف بدون مباراة.

بوبي فيشر.. غريب الأطوار الذي عارض دولته وهاجم إسرائيل

كانت مباراة بوبي فيشر عام 1972 كأنّها مباراة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. كان الاتحاد السوفييتي هو المسيطر على لقب بطل العالم في الشطرنج منذ الحرب العالمية الثانية، وعدد لاعبي الشطرنج هائل في الاتحاد السوفييتي. وهكذا كانت مباراة بوبي فيشر لها أبعاد سياسية ضخمة.

لكنّ بوبي فيشر اختفى بعد ذلك من عالم الشطرنج تماماً ولم يظهر من جديد سوى عام 1992 لفترة وجيزة فقط، لكي يهزم سباسكي مرةً أخرى في عام 1992 بيوغوسلافيا.

كانت أمريكا قد فرضت عقوبات على يوغوسلافيا بسبب حربٍ أهلية فيها، وبالطبع كانت يوغوسلافيا شيوعية في ذلك الوقت. ولم يكن ظهور بوبي فيشر، البطل القومي الأمريكي، ليلعب في يوغوسلافيا شيئاً مناسباً للولايات المتحدة.

وهكذا، هدّدته سلطات بلاده بألا يلعب في يوغوسلافيا، وفي المؤتمر الصحفي قبيل المباراة بصق بوبي فيشر على تحذير بلاده له أمام الكاميرات.

فاز بوبي فيشر، ولكنّ فوزه كلّفه كثيراً. فقد اتهمت السلطات الأمريكية فيشر بانتهاك العقوبات المفروضة على يوغوسلافيا وصدر ضده حكم بالسجن 10 سنوات وغرامة مالية، وهكذا تحوّل بوبي فيشر من بطل قومي إلى هارب يعيش في المنفى.

لم يُسمع عنه كثيراً بعد ذلك، إلا أنّه كان دائم الانتقاد لاسرائيل وأمريكا معاً، وفيعام 2004 ألقت السلطات اليابانية القبض عليه أثناء محاولته السفر للفلبين بجواز سفر منتهي، لأنّ بلاده أوقفت جواز سفره.

ظلّ فيشر محتجزاً طيلة 8 شهور، ولكنّ آيسلندا أعطته حق اللجوء السياسي وتسلّمته من اليابان، ولاحقاً منحته الجنسية الآيسلندية، وهكذا عاش بوبي فيشر حتّى وفاته عام 2008 بمرض القصور الكلوي.

وبقي فقط أن نذكر أنّه بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 ظهر بوبي فيشر على محطّة راديو في الفلبين قائلاً: هذا خبر رائع! لقد حان الوقت للقضاء على الولايات المتحدة، أنا أحيي هذا بالفعل، أمريكا وإسرائيل ذبحوا الأطفال الفلسطينيين لسنوات، والآن جاء الدور علينا.

تحميل المزيد