ربما لم ينَل هذا السلطان الشاب شهرة جدّه عثمان الأوّل الذي سُمِّي على اسمه، لكنّه حكم الدولة العثمانية في بدايات ضعفها، وحاول أن يقوّيها بما استطاع ولكنّ الجيش كان له بالمرصاد، محارباً ميوله لتطوير الدولة ولإنهاء حالة الفساد والترهُّل التي تعاني منها، فكانت نهايته نهايةً مختلفة عمّن سبقه وعمّن لحقه من السلاطين. هذه قصّة السلطان الشاب عثمان الثاني.
تَرِكة سليمان القانوني الثقيلة
اتّسعت الدولة العثمانية إلى أوسع نطاقٍ ممكن في عهد السلطان الأشهر في تاريخها: سليمان القانوني. كان القانوني سلطاناً استثنائياً، فقد كان يخرج على دائماً رأس الجيش في الحروب، على عادة السلاطين من قبله، لكنّ هذه العادة انتهت بوفاته عام 1566، فأصبح السلاطين من بعده يرسلون الجيوش دون قيادتها، وفي هذا الموقف رمزيّة لمدى قوّة أو ضعف السلطان.
تولَّى عرش الدولة العثمانية خمسة سلاطين من بعد سليمان القانوني، في الفترة من 1566 وحتّى عام 1618، كانت تتراوح سلطنتهم بين القوّة والضعف، حتّى توفي السلطان الخامس أحمد الأوّل، وهنا بدأ صراعُ وتنافس على عرش السلطنة الممتدة من شمال إفريقيا وحتّى أسوار فيينا.
كان عثمان الثاني هو أكبر أولاد السلطان السابق، لكنّ زوجة السلطان الأخرى أرادت أن تبعده عن العرش، كما أنّ جدّة عثمان نفسه أرادت لابنها مصطفى الأول (أخو السلطان الراحل) أن يجلس على العرش. فقد كان مصطفى ضعيف الشخصية ومن خلاله تستطيع أمّه أن تزيد نفوذها في الدولة.
وهكذا، بالتعاون مع الجنود الانكشارية استطاعا تولية مصطفى الأول خلفاً لأخيه، متجاوزين بذلك أكبر أبناء السلطان: عثمان الثاني.
ولكنّ مصطفى الأول كان ضعيفاً كما ذكرنا، فلم تستقم أمور الدولة، وهكذا عُزل بعد ثلاثة أشهر من حكمه، واضطر الانكشاريون أن يعيِّنوا عثمان الثاني سلطاناً. كان عثمان حينها في الرابعة عشر فقط من العمر، ولكنّه -ومستشاريه – لم ينسوا أعداءهم الذين تجاوزوا عثمان وهو الأحقّ بالسلطنة، ووضعوها في يد عمّه الضعيف ليستفيدوا هم لأهدافهم الشخصية.
كان الانكشاريون هم العمود الفقري الحقيقي لجيش الدولة العثمانية. كانوا يؤخذون من أهلهم المسيحيين صغاراً، ويربون على الإسلام والولاء للسلطان، وهكذا أصبح هذا الجيش الأقوى في أوروبا، والذي كانت سمعته كفيلة بإرسال نُذُر الرعب في الدول المحيطة والمنافِسَة للعثمانيين.
وعلى مرّ التاريخ، خرج من هذا الجيش العديد من الوزراء والقادة، ليس فقط للجيش وإنّما للدولة العثمانية كلها، فقد عُيِّن الكثيرون منهم في منصب الصدر الأعظم، وهذا المنصب عملياً صاحب الكلمة العليا في كافة أنحاء الإمبراطورية، بعد كلمة السلطان.
عثمان الثاني.. محاولة تحديث الدولة قبل فوات الأوان
كانت أسباب انهيار الدولة العثمانية عديدة، وكان أبرزها هو ترهُّل الدولة نفسها وضعفها من داخلها وتفككها، وكان أحد أسباب ذلك هو مقاومة الجنود الانكشارية لأّية محاولات للتحديث، لانّ أي محاولة تحديث تنتقص من سلطاتهم في الدولة، وهكذا كانت المعادلة: جيش أصبح ضعيفاً ومتداعياً مقارنةً بالجيوش الأخرى، ولكنّه أيضاً يرفض أي محاولة لتحديثه أو لتغييره.
قرر السلطان الشاب تنحية بعض القادة غير الموالين له في الدولة، وبدأ أولى معاركه ضدّ دولة بولندا التي أخلّت باتفاقٍ سابق مع الدولة العثمانية.
تجهّز الجيش، وقرّر السلطان عثمان الثاني أن يقود الجيش بنفسه، ليبثّ الحماسة في نفوس الجند، وهو بهذا يعود إلى عادة كان يفعلها السلاطين الأقوياء وآخرهم سليمان القانوني. وما إن حاصر جيش السلطان بولندا واشتدّ القتال، حتّى فشل الإنكشارية في دخول الحصن الذي كانت تتحصن فيه القوات البولندي.
وفي تلك اللحظة، طلب القادة الانكشاريون أن تتوقّف الحرب وأن يعودوا أدراجهم إلى العاصمة إسطنبول، وفي نفس الوقت طالب البولنديون بالصلح، خصوصاً أنّ قائدهم قد قُتل أثناء المعارك. حاول السلطان أن يكمل معركته ولكنّ قادة الجند رفضوا.
اضطر السلطان لقبول قرار قادة الانكشارية، لكنّه وبّخهم في المعسكر، وعاد إلى إسطنبول وكلاهما يضمر للآخر سوءاً؛ الانكشارية لأنّ السلطان يحاول أن يسيطر عليهم (وهو الطبيعيّ)، والسلطان لأنّ الانكشارية تأبى الانصياع لأوامره.
وهكذا، عادا إلى العاصمة وبينهما عداءٌ صريح. فقرر السلطان إنشاء جيشٍ آخر في السرّ، في الولايات البعيدة عن إسطنبول ليكون هو العمود الفقري للدولة بعيداً عن سيطرة وتخاذل الانكشارية. ويقال إنّ السلطان فكّر في نقل العاصمة إلى مدينة بورصة بعيداً عن إسطنبول حيث مقرّ الانكشارية، ليكون بعيداً عن مرماهم.
لكنّ الانكشارية فطنوا لخطة السلطان بشكلٍ أو بآخر، وطالبوا بقتل الصدر الأعظم ومستشار السلطان ومعلّمه، فرفض السلطان. وحاول خداعهم بأن أعلن أنّه سيخرج للحجّ، ففطن الانكشارية أنّه أثناء عودته من الحج، سيعود لإسطنبول بفرق الجيش التي كوّنها في الولايات البعيدة الأخرى، وهكذا سينهي عليهم، ولكنّهم استبقوه.
اتفق القادة الانكشارية على عزل السلطان، وفي 20 مايو/أيّار عام 1622 دخلوا على السلطان القصر وعيّنوا من جديد عمّه مصطفى الأوّل، وفي سابقةٍ من نوعها دخلوا على السلطان في مقرّ حريمه وقبضوا عليه بين نسائه.
اقتيد السلطان بالقوة إلى ثكنات الانكشارية في إسطنبول، واعتدوا عليه شتماً وضرباً في سابقةٍ أخرى من نوعها، ومن ثكناتهم نقلوه لسجن "الأبراج السبعة " أو "يدي قلّة" بالتركية. وهناك أعدموه بطريقتهم الأُثيرة: خنق السلطان بوتر القوس، وهي طريقة شائعة لدى الأتراك لقتل النبلاء والأمراء.
وهكذا قضوا على السلطان الشاب الذي كان حينها في عمر 18 عاماً، واستلزم الأمر قرنين من الزمان ليستطيع السلطان محمود الثاني القضاء على الانكشارية ويحاول تحديث الجيش، ولكنّ الأوان كان قد فات تماماً.
للقراءة أكثر عن إحدى أبرز محاولات القضاء على الانكشارية في الدولة العثمانية، يمكنك مطالعة هذه المادة.