"لا تُصدِّق أن الإنسان ينمو، لا، إنه يولد فجأة، كلمة ما في لحظة تشق صدره على نبض جديد، مشهد واحد يطوّح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق"..
غسان كنفاني.
النكبات والمصائب رحمٌ وبيئةٌ خصبة لنشأة العظماء والشجعان، ولعل بلادنا العربية ومنذ أفول شمس الخلافة العثمانية في أوائل القرن المنصرم وتكالُب الإمبراطوريات الاستعمارية الجديدة علينا ما بين محتلٍّ وغاصب، كانت ميداناً للنكبات تلو الأخرى وللهزائم المتتالية التي أصابت تلك البلاد بالخيبات والنوائب، التي لولاها لما أفرزت بلادنا أبطالاً ومناضلين أفنوا أعمارهم في مقاومة تلك الإمبراطوريات الضخمة غير عابئين بالرصاص والبارود.
كان القلم هو السلاح القديم والمستمر الذي أرّق مضاجع الاحتلال والظالمين باختلاف اسمهم ورسمهم، لم يملك مصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهما ممن ساروا على دربهم بندقيةً لمواجهة جيش بريطانيا العظمى، وبرغم ذلك فإن أثر مدادهم في خاصرة الإنجليز كأثر ألف مدفع أو يزيد.
على درب هؤلاء سار غسان كنفاني المولود في التاسع من نيسان/أبريل عام 1936 بمدينة عكا، هو الوحيد بين أشقائه الذي ولد في عكا، فقد كان من عادة أسرته قضاء فترات الإجازة والأعياد في عكا، ويروي عن ولادته أن أمه حين جاءها المخاض لم تستطع أن تصل إلى سريرها قبل أن تضع وليدها، وكاد الوليد يختنق بسبب ذلك، كان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة الفرير، ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات، فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا، وهو الحي الملاصق لتل أبيب، وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التي بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين؛ لذلك فقد حمل الوالد زوجته وأبناءه وأتي بهم إلى عكا وعاد هو إلى يافا.
أقامت العائلة هناك من تشرين عام 47 إلى أن كانت إحدى ليالي أواخر أبريل/نيسان 1948، حين جرى الهجوم الأول على مدينة عكا، بقي المهاجرون خارج عكا على تل الفخار (تل نابليون)، وفي الصباح كانت معظم الأسر تغادر المدينة، وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عديد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان، فوصلوا إلى صيدا، وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتاً قديماً في بلدة الغازية وقرب صيدا في أقصي البلدة على سفح الجبل، استمرت العائلة في ذلك المنزل أربعين يوماً في ظروف قاسية، إذ إن والدهم لم يحمل معه إلا النذر اليسير من النقود، فقد كان أنفقها في بناء منزل في عكا وآخر في حي العجمي بيافا، وهذا البناء لم يكن قد انتهى العمل فيه حين اضطروا للرحيل من الغازية، فانتقلوا بالقطار مع آخرين إلى حلب، ثم إلى الزبداني، ثم إلى دمشق، حيث استقر بهم المقام في منزل قديم من منازل دمشق، وبدأت هناك مرحلة أخرى قاسية من مراحل حياة الأسرة.
ولا شك أن تلك النشأة كان لها الأثر البالغ في تكوين شخصية غسان من معاصرته لجرائم العصابات الصهيونية والتهجير من بلده والنزوح إلى لبنان، ومن ثم إلى سوريا، والتي بدأت تتشكل فيها نواة لكاتب فذ وأديب لامع وصحفي ناجح، فأخذ هو إلى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف، وأحياناً التحرير، واشترك في برنامج فلسطين في الإذاعة السورية، وبرنامج الطلبة، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات.
"سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد.. لأن لي فيه شجرة وغيمة وظلاً وشمساً تتوقد وغيوماً تمطر الخصب.. وجذوراً تستعصي على القلع".. غسان كنفاني.
ابتدأ غسان كنفاني حياته السياسية عام 1953م حين قابل الدكتور جورج حبش، الذي يعد مؤسساً لحركة القوميين العرب، وكانت المقابلة في دمشق، وخلال تلك الفترة على وجه التحديد بدأ غسان يمارس حياته السياسية بشكل واعٍ كعضو فعال في حركة القوميين العرب، وقد غادر سوريا إلى الكويت، لكن سرعان ما طلبت إليه القيادة الانتقال إلى لبنان عام 1960 ليعمل في صحيفة الحركة.
وفي عام 1967 بدأ عمله في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فعاش لحظات نشوئها، وعن نضاله في حركة القوميين العرب يقول غسان:
"يمكنني القول إن حركة القوميين العرب كانت تشمل بعض العناصر الشابة، وكنت من ضمنها، التي كانت تسخر من حساسية الكبار في السن تجاه الشيوعية، وبالطبع لم نكن يومها شيوعيين، ولم نكن نحبذ الشيوعية، غير أن حساسيتنا ضد الشيوعية كانت أقل نسبة من حساسية المتقدمين في السن.
وبعد مغادرته الكويت متوجهاً نحو بيروت انضم إلى أسرة تحرير مجلة "الحرية" الناطقة باسم حركة القوميين العرب، وازداد اسم غسان لمعاناً فتولى عام 1963 رئاسة تحرير جريدة "المحرر" اليومية، وكان يشرف على الملحق الأسبوعي الذي تصدره جريدة المحرر باسم "فلسطين".
وانتقل عام 1967 لرئاسة تحرير جريدة الأنوار اليومية (1967 1969) وكان له في صفحتها الأولى عمود يومي عنوانه (أنوار على الأحداث) خصصه لمعالجة القضايا القومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وفي 26 تموز/يوليو 1969 ترك غسان صحيفة الأنوار ليتولي رئاسة تحرير مجلة الهدف البيروتية، بعد أن سجل امتيازها باسمه واعتبارها المجلة المركزية للجبهة الشعبية.
وعمل غسان كنفاني على تطوير فاعلية الإعلام الفلسطيني بشكل عام وإعلام الجبهة بشكل خاص، وقد عزز موقعه السياسي بالجبهة موقعه الإعلامي حيث أصبح الناطق الرسمي باسمها ومسؤولاً عن نشاطها الإعلامي.
وكان يرى غسان:
"أن سلاحنا الوحيد الذي نستطيع به خوض المعركة، ليس هو الكلاشينكوف أو الدوشكا، فذلك سيجعل منا جيشاً عربياً خامس عشر، لا يختلف عن الجيوش
الـ14 إلا بأنه أضعف من أكثرها ضعفاً، إن سلاحنا أمام العدو الهائل والقوي والمطلق التفوق، هو الجماهير، وبالطبع فإن هذه الجماهير ليست كلمة سحرية، وقوتها ليست في تراكمها الكمي، ولكن في التنظيم، أي الحزب والحزب الجماهيري المقاتل هذا ليس جمعية خيرية، ولا نادي شعراء حماسيين، ولكنه الحزب المحكوم بفكر وبرنامج وقيادة القوي الأطول نفساً في المعركة، والأقل احتمالاً للسقوط في التعب عند الضربة الأولى أو الثانية، والمنظم تنظيماً حديدياً على ضوء ذلك البرنامج".
أما على صعيد الإعلام الخارجي فيقول غسان في موقع آخر: "إن عملنا الإعلامي في الغرب يجب أن يستند على الأصدقاء، على الحركة الثورية في البورجوازيات الغربية، ولا يمكن أن يتكون رأي عام عالمي يقف إلى جانبنا دون جهد هذه القوى اليسارية وتبنيها للقضية، وبوسع هؤلاء الأصدقاء أن يقرروا عند ذاك على ضوء الواقع الذي يعيشونه في مكان معين وزمان معين الأشكال الأفضل للمعركة الإعلامية.
وتعرض غسان نتيجة لكتابة بعض الافتتاحيات للسجن، وعرّض مجلته للمحاكمة عدة مرات، وحين سجن في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1972، بتهمة القدح والذم والإساءة إلى ملكين عربيين كتب مقالاً بعنوان "ولو قدر لي أن أعيد كتابة المقال!" قال فيه: "إنني أطرح هذه الأسئلة على نفسي فيما يتعلق بحالة تقوم فيها الدولة بحبس صحفي أو كاتب؛ لأنه قال رأيه واعتبرت الدولة ذلك الرأي يشكل مدحاً وذماً لشخص ملك ما، بينما يعتبر الكاتب أن هذه التهمة بالذات تُفقد المقال قيمته وتجعله بلا معنى، فالمقال ليس إلا نقداً لموقف سياسي، مسؤول عن ذلك الملك الذي هو بدوره نتيجة منطقية لبنية النظام الذي يجلس على قمته…"
ويقول حنا مقبل عن الموقع الصحفي الذي وصل إليه غسان: "يكفي أن يشار إلى أنه وصل إلى مرتبة من الإتقان من حيث كتابة المانشيت إلى كتابة الخبر إلى صياغة المقال السياسي إلى درجة لم يصل لها أي صحفي فلسطيني والكثير من الصحفيين العرب من الأسماء اللامعة".
"المرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل، وكذلك الرجل في عمر المرأة، وعدا ذلك ليس إلا محاولات التعويض".. غسان كنفاني.
كان لغسان وجه آخر غير وجه المناضل الذي أنهكته القضية، كان عاشقاً مرهف المشاعر والأحاسيس، رقيقة كلماته في الغزل والهوي، وكان للمرأة في حياة غسان دور كبير ومحوري، ظهرت جلية في أدبه ونضاله فكان يشجع النساء في الجبهة الشعبية، كليلى خالد، على مواصلة النضال والقتال. وكانت كتبه كأرض البرتقال الحزين، ومن قتل ليلى الحايك، مليئة بالنساء ذوات الشخصيات القوية والإرادة الصلبة، ولعل أبرزهن زوجته آن كنفاني، وحبيبته غادة السمان، وابنة أخته لميس.
كانت آن امرأة دنماركية مهتمة بالشأن الفلسطيني، وقدمت إلى بيروت للوقوف على أوضاع اللاجئين بالمخيمات، وقد قابلت غسان بعد توصية من أحد الفلسطينيين كأحد الداعمين للقضية والعارفين بها، تقول آن في أحد الحوارات الصحفية معها:
"لقد دعاني إلى العشاء بعد أسبوعين من لقائنا، وكان ذلك في مقهي الغلابيني، وقال قبل أن نغادر هذا المقهي أريدك أن تجيبي عن سؤالي: هل تتزوجينني؟
ولكني كما قلت من قبل فقير لا مال لي ولا هوية وأعمل في السياسة ولا أمان لي ومصاب بالسكري، فقلت له دعني أفكر، وقبل أن أقوم من مجلسي قلت له سأتزوجك، وتزوجنا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1961″.
أنجبت آن فايز وليلى، وتحسنت حالته الصحية بعد زواجه منها، إذ كان يعاني من عدم الانتظام في الأكل.
المرأة الثانية في حياة كنفاني هي الأديبة غادة السمان، والتي اشتهرت رسائله الرقيقة إليها، إذ كان ينشر بعضها أثناء عمله في المحرر والآخر، أخذت غادة قراراً جريئاً بنشرها في ثمانينيات القرن الماضي. تقول غادة في مقدمة الرسائل:
"نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني.. أشعر دائماً بالرغبة في إطلاقه كرصاصة على ذاكرة النسيان العربي، والأسباب كثيرة وعديدة، وأهمها بالتأكيد أن غسان كان وطنياً حقيقياً وشهيداً حقيقياً، وتكريمه هو في كل لحظة تكريم للرجال الأنقياء الذين يمشون إلى موتهم دون وجل لتحيا أوطانهم.
المرأة الثالثة هي لميس ابنة أخته، والتي كان مرتبطاً بها ارتباطاً شديداً، والتي ولدت في يناير/كانون الثاني عام 1955. فأخذ غسان يحضر للميس في كل عام مجموعةً من أعماله الأدبية والفنية ويهديها إليها، وكانت هي شغوفة بخالها محبة له، تعتز بهديته السنوية، تفاخر بها أمام رفيقاتها، ولم يتأخر غسان عن ذلك إلا في السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله.
"احذروا الموت الطبيعي.. ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص!".. غسان كنفاني.
في صباح الثامن من تموز (يوليو) استشهد غسان على أيدي المخابرات "الإسرائيلية" عندما انفجرت قنبلة بلاستيكية ومعها خمسة كيلوغرامات من الديناميت في سيارته، أودت بحياته وحياة ابنة شقيقته "لميس" التي كانت برفقته.
وتقول زوجته ورفيقة نضاله السيدة "آني": "بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس ابنة أخته، سمعنا انفجاراً رهيباً، تحطّمت كل نوافذ البيت.. نزلت السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارته.. وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار.. ولم نجد غسان، ناديت عليه! ثم اكتشفت ساقه اليسرى.. وقفت بلا حراك…" وقد وجد المحققون إلى جانب السيارة المنسوفة ورقة تقول: "مع تحيات سفارة "إسرائيل" في كوبنهاغن!".
يقول يوسف سامي اليوسف:
"ولا بأس في التأكيد من جديد على أن "غسان" قد اغتيل لأنه كان ملتزماً بأفكار التيار الفلسطيني الأصلي، الذي يؤمن إيماناً نهائياً بأن اندثار الفيتو الصهيوني وتدميره وإزالته من الوجود هو حتمية تاريخية لا بد منها، ويتوجب على الفلسطيني أن يعمل من أجل إنجاز هذه الغاية العظمى، ولو بعد ألف سنة. وهذا يعني أن على البرامج السياسية الفلسطينية، وهي عندنا موضع ريب، أن تتبنى قضية فلسطين على نحو جذري حاسم، فإما الذكورة وإما الأنوثة في هذا الوضع التاريخي العسير. ولا وساطة بتاتاً. أما الحال الخنثى التي تعيشها القيادة الفلسطينية، ولا سيما أولئك الذين هندسوا معاهدة أوسلو الشائنة، فلن تفضي إلا إلى مزيد من إذلال الشعب الفلسطيني. ففي أوسلو وقع الفلسطينيون على صك استسلامهم، وهم صاغرون، ولكنه صك وقعه أناس الفنادق.
ولهذا، فإن فكرة التعايش مع اليهود هي فكرة خنثوية جزماً، بل إنها مغلوطة من جذورها بكل تأكيد. ففي الحق أن شايلوك يأخذ ولا يعطي، كما أنه لا يتعايش مع أحد، ولا يقبل الفلسطيني إلا ميتاً أو راكعاً وحسب.
مات غسان بعد أن ترك تراثاً زاخراً بالدراسات والمؤلفات والمراسلات التي ستظل مرجعاً مهماً لكل الباحثين في تاريخ النضال العربي والفلسطيني، بعد أن وضع ناموساً للمقاومين من بعده، في ظل استمرار المأساة واتخاذ الصراع العربي الفلسطيني بعداً جديداً لم يكن يخطر ببال غسان ورفاقه، أن تخرج قوى فاعلة من الصراع بمعاهدات وهمية، وأن تتخلى منظمات مسلحة عن سلاحها بعد أن باعت القضية في أوسلو ورام الله..
"نُعزي أهلك؟ لا..
نعزي أنفسنا؟ لا..
نذهب إلى جبل الكرمل ونعزيه..
نذهب إلى شاطئ عكا ونعزيه..
نذهب إلى فلسطين ونعزيها..
هي المفجوعةُ.. هي الثَّكلى…
نعزيها أم نهنِّئها؟ لا أدري…
فهي التي سترتب عظامكَ، هي التي ستعيد تكوينك من جديد. ونحن هنا سنموت كثيراً، كثيراً نموت، إلى أن نصبحَ فلسطينيين حقيقيين، وعرباً حقيقيين. ولكني أستأذنك الآن في البكاء قليلاً، فهل تأذن لي بالبكاء؟ هل تغفر لي؟".. محمود درويش راثياً غسان كنفاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.