قليل هم الأشخاص الذين يصنعون مواقف بطولية رغم معرفتهم أنّها ربما تودي بحياتهم، أو أن تضعهم في الخطر بشكل دائم، وهذا ما فعله بالضبط الكاتب الإيطالي روبرتو سافيانو، الذي نشر كتاباً سمَّاه "كامورا"، فضح به منظمة المافيا الإيطالية.
الكاتب الإيطالي روبرتو سافيانو تحت حماية الشرطة بسبب كتاب "Gomorrah"
وفق All That's Interesting، فإن روبرتو سافيانو وضع حياته في خطر، بعد أن نشر فضحه للمافيا في نابولي مع صدور كتابه "Gomorrah" لعام 2006، وهو تحت حماية الشرطة منذ ذلك الحين.
الصحافة من أخطر المهن وأقلها تقديراً
يُعد روبرتو سافيانو مثالاً حياً على أن الصحافة من أخطر المهن وأقلها تقديراً.
بدأت شهرة هذا الصحفي في عام 2006، وهو في السادسة والعشرين فقط، بعد نشر كتابه "Gomorrah"، ذلك الكتاب الذي عرض الجرائم المشينة لمافيا كامورا في نابولي بإيطاليا.
حين أصبح كتابه الأكثر مبيعاً استشاط زعماء الجريمة بنابولي غضباً، وهدَّدوا حياة سافيانو، فأصبح الأخير تحت حماية الشرطة.
أصبح روبرتو سافيانو أكثر رجل مطلوب على الإطلاق، فكان مُضطهداً ومُهدَّداً ليس فقط من المافيا الإيطالية، بل أيضاً من كبار السياسيين، وبرغم كل ما يهدد سلامته مازال يتحدَّث، ويقف في وجه تلك الجرائم المُنَظَّمة وغيرها من آفات العصر الحديث.
نشأ في بيئة عصابات تتاجر بالمخدرات في نابولي
وُلِدَ روبرتو سافيانو في عام 1979، ونشأ في نابولي جنوب إيطاليا في بيئة يُسيطر عليها عنف العصابات، وخصوصاً منظمة تابعة للمافيا تُدعى كامورا.
وكانت عائلة كازاليزي هي مَن تحكم منطقة كاسال دي برينسيب، وهي المنطقة التي نشأ فيها سافيانو، حيث أُلقيت النفايات السامة وانتشرت تجارة المخدرات وتهريب الأسلحة والبشر.
رأى سافيانو أول جثة لشخص مقتول عندما كان في الثالثة عشرة من عمره وهو في طريقه إلى المدرسة، وبعد فترة ليست بطويلة، قام والده الطبيب بتعليمه كيفية استخدام البندقية.
وذات مرة ضرب رجال العصابة والد سافيانو، لأنه عالج أحد ضحايا المافيا وهو يحتضر.
قسّ محبوب كان نقطة التحول في حياة سافيانو
العلامة والأثر الأكبر الذي أحدثته الكامورا بداخل سافيانو الصغير كان جريمة القتل الشنيعة التي ارتكبوها بقتل جوزيبي ديانا، القسيس المحلي المحبوب بالرصاص في العام 1994.
وقتلت الكامورا القس ديانا بسبب انتقاده لجرائمهم العديدة في خطاباته بالكنيسة، كما وصفهم بأنهم شكل من أشكال الإرهاب.
بينما كانت النقطة الأسوأ هي التشهير به في الصحافة، مُدعين أنه قُتِل لأنه كان زير نساء.
كانت تلك هي النقطة المحورية الفاصلة في حياة سافيانو، إذ قال في لقائه مع مجلة GQ متذكراً: "لقد غيَّر ذلك حياتي للأبد".
عمل مصوراً في حفلاتهم إلى أن اكتشف أن كامورا أكبر مما يتصوَّر
بعد تخرجه في الجامعة، بدأ سافيانو عمله مصوراً فوتوغرافياً يلتقط صوراً في حفلات زفاف الكامورا، وسرعان ما وجد نفسه يقترب من حياة المافيا، وبدأ للتسلل داخل منظماتهم.
صُدِم سافيانو حين اكتشف أن الكامورا لا تعمل في نابولي فحسب، بل حصلوا على الملايين من خلال التهريب وتجارة المخدرات وغيرها من الأعمال غير المشروعة.
وبالفعل، امتدت أذرع إمبراطورية الجريمة الفتاكة لتصل لكل ركن في العالم.
كتب روبرتو سافيانو في المجلات والجرائد عن اكتشافاته وتعاملاته مع أعضاء عصابة الكامورا، وقد تحدَّى نفوذ زعمائها شديدي الخطورة باستمرار، حتى إنه تبوَّل في مسبح أحد رجال العصابة وكتب عن ذلك.
وفي النهاية، في عام 2006، تطوَّرت مقالات سافيانو إلى كتاب "Gomorrah" الذي يضم تحقيقات مفصلة عن الأسرار القذرة لعصابة الكامورا.
Gomorrah أدخل سافيانو في قائمتين: الأكثر مبيعاً، واغتيالات المافيا
وضع كتاب Gomorrah الصحفي روبرتو سافيانو على القمة، إذ دخل الكتاب في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً.
خلال أيام قليلة باع أكثر من 10 ملايين نسخة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 2.25 مليون نسخة في إيطاليا وحدها، لكنه وضعه كذلك على قائمة اغتيالات المافيا.
تركوا صورة لي مع والدتي وكتبوا.. محكوم عليه
كتب سافيانو في صحيفة The Guardian البريطانية في عام 2015: "لم يمض وقت طويل على صدور الكتاب في عام 2006 حتى ترك أحدهم ورقة صغيرة في صندوق البريد الخاص بوالدتي فيها صورة لي، مع مسدس مصوَّب لرأسي وكلمة (محكوم عليه)".
لا يزال محمياً من الشرطة منذ 2006
في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2006، بعد أن ذكر أسماء أعضاء الكامورا في حفل بمدينته، قابل سافيانو شرطيين في محطة قطار وأدخلاه في سيارة مدرعة.
قال سافيانو: "سألتهما كم سيستمر ذلك؟ وأجابا أسبوعين". وهو تحت حماية الشرطة منذ ذلك الوقت.
في عام 2008، قال الصحفي في حديثه مع صحيفة The Guardian: "لو كنت قد بعت 10 آلاف نسخة من كتابي ما كانوا ليهتموا، لكنهم ليسوا مثل إيران أو أفغانستان.
لا تحاول الكامورا منعك من الكتابة أو التحدث، لكنهم قلقون بشأن الأعداد الكبيرة ممن يسمعونك أو يقرأون لك".
حياة روبرتو سافيانو وهو على قائمة الاغتيالات
اضطر سافيانو أن يترك بيته وعائلته وأصدقاءه، واضطر كلٌّ من والدته ووالده وأخيه أن يزيفوا هويات جديدة وينتقلوا لمسكن جديد.
في مقال كتبه لصحيفة The Guardian في عام 2015، قال سافيانو: "على مدار الأعوام الثمانية الماضية، سافرت في كل مكان مع سبعة حراس شخصيين مدرَّبين في سيارتين مضادتين للرصاص، أنا أعيش في ثكنات الشرطة أو في غرف فندقية سرية، ونادراً ما أقضي أكثر من بضع ليالٍ في نفس المكان. القيام بأي شيء بشكل تلقائي لمجرد أنني أشعر بذلك، سيكون أمراً معقداً بشكل سخيف".
في عام 2011، بعد خمسة أعوام من التنقُّل مع الشرطة الإيطالية، انتقل سافيانو للحياة في مدينة نيويورك، حيث تمنَّى أن يعيش حياة ولو حتى قريبة من الحياة الطبيعية.
أعدَّت السلطات الإيطالية خارطة خاصة له، تحدِّد المتاجر والمطاعم التي يمتلكها إيطاليون مهاجرون قد يكونون على صلة بالعصابة.
في الواقع، كانت حياته لا تزال تحت تهديد كبير، لدرجة أنه حتى عندما كان يدرس في جامعة نيويورك (على بعد 4400 ميل من نابولي)، طلب من زملائه الحفاظ على وجوده هناك سرياً تماماً.
في الوقت نفسه، شهد سافيانو صعود شهرته، لاسيّما بتحويل كتابه في عام 2008 إلى فيلم فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان كان.
في عام 2014، نتج عن الفيلم برنامجٌ تلفزيوني لا يزال يُعرض في إيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
حياة خاصة ومعارك عامة
يرى روبرتو سافيانو ظهوره الكبير كثروة وليس دَيْناً، وهو يقول إن جمهوره يحميه "أكثر حتى من مرافقيه المسلحين".
وقال سافيانو: "إن لدي جمهوراً يكفل حريتي، رغم كل القيود"، وتابع: "وعلى كل حال، حياتي مميزة، شهرتي الكبيرة تعرِّضني لانتقادات (شريرة)، لكنها تحميني أيضاً".
نظراً لعدم قدرتها على القضاء عليه مباشرةً، كثَّفت الكامورا جهودَها لتشويه سمعة سافيانو ككاتب، وذلك كما قال سافيانو في حديثه مع برنامج "Frontline" على قناة PBS: "في المرحلة الثانية (من الانتقام) يشوهونك.. يقولون ببساطة إنني شخص مزيف، كاذب، أسرق أعمال الآخرين".
في الواقع، اتُّهم سافيانو بسرقة أجزاء من كتابهِ "ZeroZeroZero" المنشور في عام 2013 كدراسةٍ لتجارة الكوكايين العالمية.
سافيانو ضد نائب رئيس الوزراء الصريح
في الوقت نفسه، قام مسؤولو الحكومة الإيطالية أيضاً بمحاولات لتشويه سمعة سافيانو، كان أبرزها قيام نائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني برفع دعوى ضد سافيانو بتهمة التشهير في عام 2018.
بعد مرور عام، أعلن سافيانو أن القضية ستذهب للمحكمة، وقد يواجه عقوبة تصل إلى السجن لمدة ستة أعوام.
على الرغم من كل هذه التطورات السلبية يُخطط سافيانو لمواصلة الكتابة والمطالبة بحرية الصحافة، وحرية الهجرة، وغيرها من الحقوق.
ولكن هل سينجو الصحفي المحاصر ويرى الحرية الحقيقية مرة أخرى؟ بالنسبة لروبرتو سافيانو، سنعرف مع الوقت.