تيمورلنك، قائد مغولي مُسلم يؤدي الفرائض ويحضر بعض الدروس الدينية، ويُقرِّب من مجلسه رجال الدين، لكنه يحكم وفقاً لقانونٍ وثني.
سعى لاستعادة الإمبراطورية المغوليّة بعد انحدارها، وتوسَّع في الفتوحات وخوض الحروب لأجل هذا، وقد استطاع إخضاع العديد من الدول الإسلاميّة، كما تسبب في انهيار الدولة العُثمانية.
"اعلم أنت أيّها الكلب العقور، المُدعي تيمور، أن الأتراك لم يتعوّدوا أن يضنوا بالملجأ على أصدقائهم، ولا أن يهربوا من مواجهة الأعداء في معركة، ولا أن يلجأوا إلى الحيل والأكاذيب والمُخادعات.. وإن لم تأتِ فنسائي طالقات بالثلاث، فلعنة الله عليك وعلى من اتبعك إلى يوم القيامة".
كان هذا هو رد السلطان العثماني بايزيد الأول الملقّب بـ "الصاعقة" على رسالة أرسلها له القائد المغولي تيمورلنك، يُحذره خلالها من تقديم أي عون لأمير القره قوينلو (في الأناضول) وأمير بغداد، اللذين لجآ للدولة العُثمانية للحصول على الدعم والحماية.
وقد قال عنهما تيمورلنك في رسالة أرسلها إلى بايزيد: "إنهما هربا من سيوفنا وسُلطتنا، فإياكم أن تؤوهما، بل أخرجوهما، وخذوهما واحصروهما واقتلوهما حيث وجدتموهما، وإياكم ومُخالفة أمرنا فتحلّ عليكم دائرة قهرنا، فقد سمعتم قضايا مُخالفينا وأضرابها".
السلطان العُثماني
الرسالتان السابقتان لرُجلين تنافسا وقضى أحدهما على الآخر، أما الأول فهو السلطان بايزيد الأول الذي خلف والده السلطان مُراد الأول في قيادة الدولة العُثمانية، والذي كان له سياساته التوسعية فقد قضى بايزيد على زُعماء الصرب وأنهي خطرهم الذين كان قد حاربهم والده حتى قتلوه في إحدى المعارك.
ثم توجَّه إلى الأناضول واستولى على فيلادلفيا آخر مدينة بيزنطية فيها، وقد استعدى بايزيد أبناء جلدته من أمراء الأناضول الترك حين توجه للتوسع على حسابهم في الشرق، ولم يكتفِ بالفتوحات في أوروبا فقط.
القائد المُسلم الذي حكم بشريعة وثنية
أما الرجل الثاني فهو تيمورلنك، القائد المغولي، والذي وُلد عام 1336م، يمتّ بصلة قرابة إلى ذُرية جنكيز خان، من ناحية الأم، لكنه لم يحمل لقب خان لعدم انتسابه إلى عائلة جنكيز خان من ناحية الأب.
لكنه حمل لقب الأمير وكوركان، الذي يعني بلغة المغول الحسن الصهر، ويُقال إن تيمور كان لصاً للغنم، وفي واحدة من سرقاته انتبه الراعي، فأصابه بسهمٍ في كتفه، ثم بآخر فأصاب فخذه ما سبب له جرحاً غائراً كان السبب في عرجه بعد ذلك، وهو ما جعل أعداءه يُنادونه بتيمورلنك، أي تيمور الأعرج.
تيمورلنك هو مؤسس مملكة المغول الثانية، بعد 120 عاماً على انحدار المغول واستمرار التشتت والصراع الذي نهش إمبراطوريتهم، فبعد تفكك الإمبراطورية المغولية التي أسسها جنكيز خان، ودخول القبيلة الذهبية، وهم مغول الشمال أبناء جوجي بن جنكيز خان، وطوائف أخرى من طوائف المغول الإسلام، عادت النزعة القومية للظهور والدعوة لعودة الإمبراطورية المغولية.
المغول الذين ينتسب إليهم تيمورلنك هُم قبائل بدوية، كانت تُعرف بأنها قبائل وحشية لا تعرف معنى للحضارة أو المدنية، وكانت تتحكم فيهم نزعتهم القومية وديانتهم الوثنية حتى وإن انتموا إلى الإسلام ظاهراً، وهذا ما أعاد مملكة المغول الثانية التي تأسست على يد تيمورلنك.
رغم كون تيمورلنك مُسلماً يؤدِّي الفرائض ويستمع إلى دروس الدين، إلا أنه لم يكن يُطبق تعاليم وأحكام الإسلام في دولته، وإنما طبق قانون "الياسق" الذي وضعه جنكيز خان، وهو شريعة وثنية.
وقد كان المغول يدينون بديانة وثنية تُعرف باسم "الشامانية" وكان تيمور يدّعي أنه شيعي تارة وسُني تارة أخرى، حسبما اقتضت مصالحه في السلطة والحُكم.
فقد كان استخدام تيمورلنك للإسلام سياسياً فقد جعله أداة تُساعده على إحكام سلطانه وسيطرته، كان يُقرب رجال الدين خاصةً المُنتمين إلى الطريقتين النقشبندية والصفوية، والمُنحدرين من سُلالة الرسول ليُزيّن بهم مجالسه وحملاته.
وكان بمُساعدتهم يصوغ تصرفاته في البلدان التي يفتحها وينسبها إلى أصل شرعي، فكان يُروج إلى أنه جاء لإنقاذ الإسلام والمُسلمين من حكّامهم الخارجين عن الدين.
توسعات تيمورلنك وفتوحاته
بدأ تيمور مسيرته مُلتحقاً بخدمة حاكم سمرقند وهو أحد خانات المغول، وتدرج في المراتب السياسية والعسكرية حتى تمكّن من إخضاع سمرقند لنفوذه وحكمه.
استطاع تيمور تأسيس دولة واسعة الأرجاء تمتد من سمرقند إلى بلاد الأفغان والهند وإيران، حتى أرمينيا وكردستان.
واتخذ من سمرقند التي ازدهرت في عهده عاصمة له، واستولى على بغداد وبلاد ما وراء النهر، ثم تحرّك للاستيلاء على خوارزم وشنّ أربع حملات لهذا الغرض.
وبعد أن أكمل احتلال إيران اجتاح أرمينية الغربية، وأجبر ملك جورجيا المسيحي على الخضوع لسيادته، وقام بجولة من الحروب في بلاد فارس.
وقد جاورت دولة لنك الدولة العثمانية التي كان يحكمها في ذلك الوقت السلطان بايزيد، كان تيمورلنك قد قرر أن يُخضع كافة الحكام على امتداد حدود دولته ليدينوا بالولاء له.
في الوقت الذي كان لبايزيد دولته القويّة أيضاً، والتي تستطيع هي الأخرى أن تُجمّع الجيوش وتفتح البلاد، لذلك كانت المُنافسة على أشدّها بين الطرفين.
معركة أنقرة الحاسمة
ظاهريّاً كان هُناك اتفاق مذهبي بين تيمورلنك والإمبراطورية العثمانية، فالأساس العقائدي له يرتكز على المذهب الشافعي الوسطي، وينفتح على التشيّع من خلال موالاة الإمام علي وآل البيت، والتعلق بأهداب التصوف.
إلا أن حقيقة الأمر لم تكن كذلك فالهدف الذي يُحرك تيمورلنك هو تكوين إمبراطورية مغولية واسعة ومُمتدة وسيقوم لأجل ذلك بمُحاربة واحتلال أي دولةٍ كانت، ولم تكن الإمبراطورية العثمانية في عهد بايزيد الأول ضعيفة لتخضع.
استمرت الرسائل بين الطرفين، من أجل تسليم بايزيد الأول أمير بغداد وأمير القره قوينلو لتيمور.
ردّ تيمورلنك على رسالة بايزيد العنيفة قائلاً: "إذا أنت لم تتبع نصائحنا فستكون من النادمين، فكّر إذاً وافعل ما تراه مُناسباً".
ليرد بايزيد قائلاً: "كُنّا منذ زمن نتوق إلى خوض الحرب ضدك، فتحققت رغبتنا الآن ولله الحمد، وإذا لم تأتِ في طلبنا، فسنُطاردك حتى السلطانية، وسوف نرى عندئذ من هو الذي سيغتبط بالنصر ومن سيغتم بالهزيمة".
وبدأ الاصطدام بشكل مُباشر بين القوتين الكبيرتين
في عام 1402 جمع بايزيد الأول جيشاً لمُقابلة تيمورلنك، ويُجمع المؤرخون على أن قوات تيمور كانت تفوقه عدداً بكثير.
دخل تيمور إلى الأناضول انطلاقاً من جورجيا التي حشد جيشه فيها، كانت خطة تيمورلنك هي التوغُّل في أملاك العُثمانيين، لتحقيق الإرباك للسلطان العُثماني، فسار بقواته على طول وادي نهر هاليس، جاعلاً النهر بينه وبين العُثمانيين.
اتفق تيمورلنك مع قيادات جيشه على التوغُّل في البلاد العُثمانية وتخريبها ونهبها، مما سيدفع الجيش العثماني إلى تتبعهم، وهذا سيُنهك الجيش، وأثناء مسير جيش تيمورلنك كان يتلِف المزروعات، حتى وصل إلى أنقرة.
أقام تيمورلنك سداً على نهر يخترق المدينة مُحولاً مجراه، لكي لا يبقى ماءٌ صالح يستعمله جيش بايزيد لدى وصوله إلا أحد الينابيع والذي أمر بتلويث مياهه أيضاً.
انتهت المعركة بين بايزيد وتيمورلنك، والتي عُرفت باسم "معركة أنقرة" بهزيمة ساحقة لبايزيد، وتحوّل من منافس إلى أسير بين يدي عدوّه.
اختلف المؤرخون حول نهاية بايزيد، فبعضهم ذهب إلى انتحاره في أسره، والبعض الآخر يرى أن تيمورلنك قد قتله، لكن الثابت هو أن حياته قد انتهت خلال فترة الأسر.
الدولة العثمانية بلا سلطان
عاد تيمورلنك بعد ذلك إلى الشرق مُصمماً على مُهاجمة الصين، وترك الدولة العُثمانية تتخبَّط في حربٍ أهلية بين أبناء بايزيد (سليمان وعيسى ومحمد وموسى)، استمرت هذه الحرب نحو عشر سنوات، وابتدأت عملياً في أواخر عام 1402، بعد أن استولى سليمان على الخزانة والإدارة العُليا.
أطلق المؤرخون الأتراك على هذه المرحلة اسم "الفترة"، والتي أصبحت الدولة العُثمانية خلالها بلا قائد ولا سلطان، ويتحارب الإخوة والأعمام على العرش، إلى أن تمكن محمد الأول من التخلص من إخوته، فاستطاع أن ينتصر على أخيه عيسى بعد معارك بينهما انتهت بقتل عيسى.
ثم استعان بأخيه موسى للتخلص من أخيهما سُليمان الذي تم قتله عام 1410، وقد تمكن محمد الأول من السيطرة على الدولة العُثمانية بالكامل وجمع شتاتها عام 1413. وحتى بعد سيطرته عليها ظلت المناوشات بينه وبين أعمامه لفترة طويلة.
أما تيمورلنك، الذي تتردَّد الأقاويل حول وحشيته الشديدة أثناء فتوحاته وتوسعاته، فيُقال إنه قتل مئات الآلاف ونهب المدن، وبقر جيشه البطون، فقد توفي في 18 فبراير/شباط عام 1405م وهو في طريقه لغزو الصين فقضى نحبه في مدينة أوترار.
كان حينها قد جاوز السبعين من عُمره، أما وصيته فكانت أن يستمر الجيش في طريقه لغزو إمبراطورية الصين، وأن يتولى حكم إمبراطوريته حفيده بير محمد بن جهان كير، لكن ابن عمه خليل استولى على السلطة بدلاً من بير محمد، وقد حاول بير محمد استرداد سُلطانه لكنه هُزم من جيش خليل، إلى أن توفي عام 1407.
بعد ذلك بأربعين عاماً استعاد العثمانيون الأتراك دولتهم وقوتهم التي سلبها المغول، واستطاعوا فتح القسطنطينية عام 1453م على يد محمد الفاتح.