“لا تحاول”.. ماذا يخبرنا كافكا وبوكوفسكي عن الحياة؟

عدد القراءات
5,435
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/29 الساعة 14:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/29 الساعة 14:50 بتوقيت غرينتش
"لا تحاول".. ماذا يخبرنا كافكا وبوكوفسكي عن الحياة؟

كتب بوكوفسكي على شاهد قبره رسالة أخيرة لعالمنا التقليدي الذي لم تطأه قدمه يوماً، تاركاً السخافة والقبح خلفه، منطلقاً لرحلة الوحدة الأبدية، لن يقاطع عزلته متطفل، لن يزود بالجنون لخلق بُعد آخر يريحه، كما أن الأعمال الشاقة ستتوقف، ولن يشتاق للعزلة في كنف غرفته مجدداً. ونحن من نمضي في الطريق خلف أثره نتحسس مرثيته، بعد أن كافح بالكتابة لانتزاع حق الحياة، يترك على ضريحه صورة لملاكم يعكس صراعاً دام بطول سنوات تنفسه.

 وإلى جانب اسمه وتاريخ الميلاد والوفاة كتب: "لا تحاول".

تبدو تلك رسالة قاتمة إلى حد ما، خصوصاً عندما تخرج من فم كاتب اعتكف على ما يحب، وتمسك بحلم نبت معه طفلاً، ولم يكترث له العالم إلا على مشارف عقده السادس. 

تنقّل بين المساكن الرخيصة، وجد ضالته في الأحياء الفقيرة، تلك السنوات فُرضت ولم يسكنها بإرادة حرة، ما اختاره هو الاستمرار فيما يحب.

 تتراكم تجارب الفشل كعاصفة رملية صغيرة تغير اتجاهها باستمرار، تغير اتجاهك فتطاردك العاصفة، تعدل اتجاهك مرة أخرى ومجدداً تتبع العاصفة مسارك، تغيره وتتبعك مراراً وتكراراً، كرقصة مشؤومة مع الموت عند فجر كل ليلة.

على سرير الموت أوصى كافكا صديقه ماكسي برود بحرق كل أوراقه بعد وفاته، لم يلامس أبداً نجاح أعماله، وعلى الأغلب رحل معتقداً أن كلها سيئة. في العقد الثالث من القرن العشرين أصبح فرانز كافكا واحداً من أبرز الشخصيات الأدبية والفلسفية.

 وبعبارة أخرى، أحد أعظم المفكرين في القرن، عاشت أعماله المؤثرة مدفونة بدُرج ما، لم يدرك ولم يبالِ أحد بها، وأغلق عينيه للمرة الأخيرة قبل أن يخلع عنها نظرة والده، وظل يرى نفسه ابناً ضعيفاً ومخيباً للأمل. 

 لماذا تتجمع أصوات تجارب الفشل وتدفعنا لتغيير المسار؟ ببساطة لأن العاصفة ليست شيئاً بعيداً عنا، العاصفة نابعة منا. لسنوات أكثر من أن تعد أغلق بوكوفسكي وكافكا باب غرفتهما وحيدين مع وساوس تطالبهما بالتوقف عن الكتابة؛ لأنهما لم يخلقا لها على ما يبدو. عالقين في سنوات الكدح بين ذوي الياقات الزرقاء، أفراد من جيش المغلوبين على أمرهم. 

كم بوكوفسكي بيننا؟ 

كم من كافكا وبوكوفسكي يسير الآن بيننا، يتجاهل رغبته، أو مفصول لسبب ما عن حقيقته. كم كافكا لن يتسنى له رؤية تعبير العالم بعد سماع صوته. طوال حياته لم يرفع بوكوفسكي صوته لإسكات العاصفة، ولم يغير نغماته للهروب من المعاناة في أي وقت. لا لأنه لم يحاول، بل لأنه لم يحاول أن يصبح غير الذي أراد، حاول أن يصبح كاتباً لكنه لم يختر الكتابة بإرادته، نوعاً ما هي اختارته، وهو ارتضى الاختيار عن طيب خاطر.

اللون المفضل بالنسبة لكل منا، الدوافع وراء الاختيار مبهمة، حتى إذ استطعنا شرح السبب نفشل في توضيح الرغبة وراء تفضيله بالذات دون باقي الألوان الكثيرة. في حين يبدو أن الإنسان يقترب من قمة العالم، وأخيراً سينمو البشر في عالم مريح، يأتي السؤال الأهم في تلك المرحلة من عمر البشرية، يتحدث عن كيفية البحث عن الدافع الحقيقي في عالم يبدو كل شيء فيه كُشف، أو اقترب فتح ستاره.

نصطدم بضرورة البحث عن معنى للحياة، منذ الصغر ترى العالم على أنه مجموعة من الفرص يجب استغلالها؛ لأن العالم أحجية قابلة للحل في نهاية المطاف، هكذا تسمع وعلى العكس ترى. 

بعيداً عن الكليشيهات المعتادة لمثل السعادة والنجاح التقليدية. في الواقع لا توجد وصفة طبية تلائم الجميع، ولا روشتة، أو دليل لغش الإجابة، لا يقين بجمال المشهد الختامي، ولا وعود بنهاية الألم والقلق والفوضى.

يرى كارل ماركس أن العمل يشكل جوهر الجنس البشري، يسمح بالعيش والإبداع والازدهار. وقد يكون العمل مصدر سعادة للإنسان، فنحن نرى أنفسنا فيما نقدم، تلك فرصة لإبراز أفضل ما فينا، وبالتأكيد ساعات العمل الطويلة، الكئيبة، المملة لن تعكس ما تريد. 

بوكوفسكي: "أنا واحد من خيارين، أن أبقى في مكتب البريد وأصاب بالجنون… أو البقاء هنا والكتابة وتجويع نفسي… لقد قررت الجوع". ربما رأى ذلك أهون من الشعور بالاغتراب.

غالباً ما ينتج العمل الإبداعي عندما نطلق العنان لأنفسنا، لتعبّرعن ذاتها كما هي، من دون تجميلها وصبغها بدوافع خارجية.

اكتب ما تريد 

"اكتب ما تريد كيفما تريد، أينما تريد، للسبب الذي تريد، في الوقت الذي تريد، لمن تريد. قد ينجح الأمر وقد لا ينجح، ليس هناك صواب وخطأ"

  •  لين مالوني، كاتب اسكتلندي

لا يتحقق النجاح بالحصول على المهنة المضمونة، وزوجة، وسيارة، وراتب كل آخر شهر، من المنطقي أن تكون تلك الأشياء عادية، حقوق طبيعية ولا تندرج تحت بند الأحلام المرغوبة. العبث ما يدفعنا نحو تلك الحافة، حينما تدفعك أصوات المجتمع والأهل لهوة الحياة الروتينية والغرق في البيروقراطية مثل كافكا، أو الانفصال عن الذات.

لن تسير الأمور في الاتجاه المراد، ولا يجب أن يُسدل الستار بعد نهاية سعيدة، لكن في أي لحظة نتساءل عن اللون المفضل، الغاية من الحياة، بعد مواقف الفشل والرفض المربكة. حين تغلق الأبواب وتحاول تغيير لونك لتناسب المجتمع، هنا فقط يقول بوكوفسكي: "لا تحاول".

 إذ شعرت بأن المعاناة والتضحية في سبيل ما تحب أهون من تخيل الحياة من دونه سيقول بوكوفسكي حينها "إن كنت ستحاول فاذهب حتى النهاية، وإلا فلا تبدأ".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة