قصص القهوة في بعض محطات التاريخ كانت مثيرة للجدل. فمثلاً أصدر السلطان مراد الرابع فرماناً بإعدام شاربي القهوة في الإمبراطورية العثمانية. وأرسل الملك تشارلز الثاني جواسيس للتسلل إلى مقاهي لندن، إذ كان يعتبرها المصدر الأصلي "للأخبار الكاذبة"؛ و لكن هكذا دعمت القهوة الثورات والأفكار الثورية.
خلال عصر التنوير في أوروبا، تحدث فولتير وروسو وإسحاق نيوتن عن القهوة من منظور فلسفي. وكانت المقاهي الباريسية مأوى للثوار وشهدت تخطيطهم لاقتحام سجن الباستيل وما بعدها من أحداث، وكتب فيها مفكرون مثل سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر آخر أعمالهم.
وبحسب موقع History الأمريكي فإن التاريخ مليء بالأفكار التي ظهرت عند تناول أكواب القهوة. وفي ما يلي نسرد لكم "القوة الثورية" التي تتمتع بها المقاهي.
افتتاح أول مقهى في الإمبراطورية العثمانية
بدأ ظهور المقاهي في الإمبراطورية العثمانية الإسلامية وأصبحت مكاناً للتجمعات ومشاركة الأفكار. ولأن أسعار القهوة معقولة وفي متناول الجميع تقريباً، إذ بإمكان أي شخص أن يحضر ويطلب كوباً من القهوة، فقد عملت المقاهي على طمس قرون من الفوارق الاجتماعية. لكن لم يسعد الجميع بهذا التغيير.
في عام 1633، أصدر السلطان مراد الرابع مرسوماً يمنع استهلاك القهوة، والتبغ. ونتيجة لهذا قُتل شقيق مراد الرابع وعمه على أيدي الإنكشارية، وهم قوات المشاة العثمانية التي كانت تنتشر جلستهم على المقاهي.
وبذل السلطان جهداً متفانياً في مطاردة شاربي القهوة، لدرجة أنه كان يتخفى في زي واحد من العامة ويتجول في أرجاء إسطنبول، ويقطع رأس شاربي القهوة بنفسه.
وحظر السلاطين العثمانيون المقاهي في القرن الثامن عشر أيضاً لمنع تجمع المتمردين على السلطنة. ولكن بحلول ذلك الوقت، كانت المقاهي منتشرة بالفعل في أنحاء أوروبا وتبث الرعب في قلوب الملوك كأماكن للتجمعات بين العامة.
دعمت القهوة الثورات والأفكار الثورية: المقاهي الإنجليزية والملك تشارلز الثاني
افتتح باسكوا غوزيه أول مقهى في لندن عام 1652، وهو ما أدى إلى ثورة في المجتمع اللندني. يقول مركمان إليس، مؤلف كتاب "The Coffee House: A Cultural History":
"كانت الثقافة البريطانية هرمية بهيكلة شديدة النظام. كانت فكرة الذهاب إلى المقهى والجلوس بجوار شخص ما واعتباركما متساويين شديدة الغرابة". كانت السمة المميزة للمقهى الإنجليزي هي الطاولات المشتركة المغطاة بالصحف والكتيبات يجتمع عليها الضيوف لتناول القهوة ومناقشة الأخبار، بل وكتابتها في بعض الأحيان. ويوضح إليس: "كانت المقاهي هي محرك صناعة الأخبار في لندن خلال القرن الثامن عشر".
كان والد الملك تشارلز الثاني، الملك تشارلز الأول، قد قُطع رأسه خلال الحرب الأهلية الإنجليزية، لذا كان كثير الارتياب من تجمعّات رعاياه التي يناقشون فيها شؤون السياسة.
وفي 12 يونيو/حزيران 1672، أصدر تشارلز الثاني مرسوماً بـ"وضع قيود على نشر الأخبار المزيفة، والأحاديث الجاهلة بشأن شؤون الدولة والحكومة"، والذي ينص جزء منه على: "منح الرجال أنفسهم حرية الرقابة والتشهير بممارسات الدولة، ليس فقط في المقاهي، بل في الأماكن والتجمعات الأخرى، العامة والخاصة، ويتحدثون بنوايا الشر في أمور لا يفقهون فيها".
لمكافحة هذا "الشر"، زرع وزير الخارجية جوزيف ويليامسون شبكة من الجواسيس في مقاهي لندن. وفي ديسمبر/كانون الأول 1675، أمر تشارلز الثاني بإغلاق كل المقاهي في لندن. ولكن لم يدم الحظر سوى 11 يوماً، ثم قال الشعب كلمته: "سوف تظل المقاهي مفتوحة".
المقاهي أصبحت تُعرف بـ"جامعات الفقراء"
فشل الحظر الذي فرضه تشارلز الثاني كان مكسباً تاريخياً، إذ أدى نوع النقاشات المفتوحة التي كان يخشاها تشارلز الثاني إلى انفجار أفكار جديدة خلال عصر التنوير. في أوكسفورد، بدأ السكان المحليون يطلقون على المقاهي "جامعات الفقراء" لأنه مقابل كوب من القهوة، يمكنك حضور مناقشات فكرية، وجدالات نقدية وعقلية.
سجّل الكاتب صموئيل بيبس في يومياته بعض المحادثات المثيرة التي استمع إليها في المقاهي التي كان يرتادها. معظم المقاهي كانت تخدم فئة معينة من الزبائن؛ كان مقهى "Grecian" القريب من شارع فليت مكان اجتماع حزب الأحرار البريطاني فضلاً عن أعضاء الجمعية الملكية مثل إسحاق نيوتن، الذي شرّح دولفين ذات مرة على إحدى طاولات المقهى.
بينما كان يعقد الشعراء جون درايدن وألكسندر بوب والكاتب جوناثان سويفت مجالسهم في مقهى "Will's".
وفي مقهى "Jonathan's" الواقع في ممر البورصة، كان سماسرة البورصة يحتشدون لتداول الأسهم بعد انتهاء ساعات التداول الرسمية، وكانت هذه هي بداية بورصة لندن للأوراق المالية. وكان مقهى "Lloyd's" مكان اجتماع البحارة والتجار، والذي احتضن بين جدرانه نشأة هيئة لويدز أوف لندن للتأمين. وبدأ تأثير المقاهي ينتشر عندما عاد المسافرون إلى بلدانهم، وأدمنوا شرب القهوة وشغف النقاشات.
فريدرش العظيم يعلن الحرب على القهوة
كان فريدرش العظيم، ملك بروسيا الألماني، من أشد المعارضين للقهوة، حتى أنه حاول تجريم شرب القهوة لصالح البيرة وهي مشروب كحولي شائع في ألمانيا بقوة في 13 سبتمبر/أيلول، 1777. وخشية أن يكلفه استيراد القهوة خسارة أعمال مملكته (وأعماله الخاصة)، ألزم كل باعة القهوة بالتسجيل لدى المملكة، ورفض منح التراخيص للجميع باستثناء مجموعة من أصدقاء البلاط الملكي ووظف جنوداً سابقين ليكونوا "شمامين"، يتجولون في الشوارع لرصد أي روائح لتحميص القهوة. وسجّل آرائه القوية عن القهوة في خطاب عام 1799 ذكر فيه:
"من المخزي أن نرى هذا الاستهلاك الكبير للقهوة من الناس، إذا أصبح وجود القهوة محدوداً، سوف يعتاد الناس شرب البيرة مجدداً. نشأ جلالته وهو يتناول حساء البيرة، لذا بإمكان الناس أيضاً أن ينشئوا على حساء البيرة. وهو أصح بكثير من القهوة".
ورُفع الحظر عن القهوة بعد وفاته، وتواصلت النقاشات الصحية في جنبات المقاهي.
القهوة والثورة الأمريكية
كانت القهوة تعتبر مشروباً وطنياً في المستعمرات بعد حادثة حفلة شاي بوسطن، عندما أصبح شرب الشاي بعيداً عن الموضة. وفي ذلك الوقت، كانت الحانات الأمريكية تقدم القهوة إلى جانب المشروبات الكحولية، وأُطلق دانيال وبستر على حانة "غرين دراغون" في بوسطن "المقر الرئيسي للثورة" لأنها استضافت العديد من اجتماعات جماعة "أبناء الحرية" قبل وخلال حرب الاستقلال.
وفي نيويورك، اشتهر مقهى "Merchant's" بالتجمعات الوطنية التي تسعى للتحرر من جورج الثالث، ملك بريطانيا. وفي ثمانينات القرن الثامن عشر، أصبحت الموقع الذي نظم فيه التجار عملية إنشاء بنك نيويورك وإعادة تنظيم غرفة نيويورك التجارية.
وعبر المحيط، كتب بنجامين فرانكلين من مقهى "Smyrna" في لندن "رسالة مفتوحة إلى اللورد نورث" التي سخر فيها من سلطة الملك على المستعمرات.
مقاهي باريس: مصدر "التحريض"
كانت المقاهي الفرنسية، إلى جانب تأثيراتها في المساواة الاجتماعية، موقعاً مثالياً لتحريض وتنظيم الجمهوريين خلال الثورة الفرنسية. حتى كتب أحد الملكيين في ذلك العصر:
"من أين يأتي كل هذا التحريض المحموم؟ من حشد من صغار الموظفين والمحامين، من كتّاب غير معروفين، من أصحاب المؤلفات التافهة، الذين يثيرون الشغب في النوادي والمقاهي. هذه هي البؤر التي تغذّي عقول الجماهير بالأكاذيب".
استضاف مقهى "de Foy" في باريس دعوات الاقتحام المسلح لسجن الباستيل. وخلال عصر التنوير، كان مقهى "Procope" هو مكان اجتماع رجال مثقفين أمثال روسو، وديدرو وفولتير لصقل فلسفاتهم وفنونهم. وبعد الثورة، أصبحت ثقافة المقاهي الباريسية جاذبة للكتّاب والمفكرين من جديد لتبادل أفكارهم وتطوير أعمالهم التالية.
وكان المغتربون، مثل إرنست هيمنغوي، وجيرترود شتاين، وفرنسيس سكوت فيتسجيرالد وتوماس ستيرنز إليوت يلتقون في مقهى "La Rotonde". وعمل الشاعر والناقد الفرنسي أبولينير على مراجعاته الفنية "أمسيات باريس"، من مقهى "De Flore"، جالساً بجوار الكاتب الروائي أندريه برتون. وفي منتصف القرن العشرين، ناقشت سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر أفكارهما وأنشئا فلسفتهما على طاولات المقهى نفسه.
من الإمبراطورية العثمانية إلى إنجلترا، ومن الولايات المتحدة إلى فرنسا، شهدت المقاهي اجتماع العقول التي ألهمت موجات جديدة من الأفكار.