جان دارك، الملقبة أيضاً بعذراء أورليان، بطلة قومية فرنسية وقدّيسة في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، بفضل جهودها الحربية استطاعت حسم نتيجة حرب المئة عام لصالح الفرنسيين، إذ حشدت أعداداً هائلة من الناس حولها بعد ادعائها أن وحياً إلهياً كان يوجهها.
فما قصة تلك الفتاة التي حرص الإنجليز على حرق جثتها مرتين، ورُمي رفاتها في نهر السين، بعد محاكمتها بتهمة الهرطقة عندما كانت تبلغ من العمر 19 عاماً فقط؟
جان دارك.. بطلة حرب المئة عام
اندلعت حرب المئة عام في عام 1337، نتيجة لمطالبة الإنجليز بحقهم في العرش الفرنسي. وفيما عدا فترات بسيطة من السلام النسبي بين البلدين، اعتمدت إنجلترا سياسة الأرض المحروقة، لتدمير فرنسا سياسياً واقتصادياً.
فقد شهدت الأراضي الفرنسية عديداً من المعارك التي حوَّلتها إلى رماد ودخان، وكان النصر قاب قوسين أو أدنى للإنجليز، فلم يكن الفرنسيون قادرين على تحقيق أي انتصار حقيقي إلى أن ظهرت القديسة المعجزة جان دارك.
شارل المجنون عاجز عن تولي الحكم
شهد البلاط الفرنسي صراعاً داخلياً دامياً، كان أحد الأسباب التي مهدت للإنجليز احتلال الأراضي الفرنسية.
فقد كان ملك فرنسا شارل السادس يعاني نوبات جنون منعته من مزاولة الحكم، وفسحت المجال أمام الطامحين إلى العرش للتصارع والحصول على عرش المملكة.
فقد تصاعدت الصراعات بين شقيق الملك الصغير وابن عمه إلى أن انتهت باغتيال شقيق شارل السادس عام 1407م.
هذه القلاقل الداخلية مهدت الطريق أمام هنري الخامس، ملك إنجلترا، لغزوها والسيطرة على أغلب المدن الواقعة شمال فرنسا.
شارل السابع يعتلي العرش
وفاة شقيق الملك جعلت من ابنه شارل السابع، البالغ من العمر 14 عاماً، ولياً للعهد، إلا أن والدته ملكة فرنسا وقَّعت معاهدة تروا في عام 1420، والتي منحت فيها حق خلافة فرنسا للملك الإنجليزي هنري الخامس.
لكن وفاة كل من شارل السادس ملك فرنسا وهنري الخامس ملك إنجلترا خلال شهرين متتالين في عام 1422 زادت الأمر تعقيداً، إذ تسلَّم خلافة المملكتين الإنجليزية والفرنسية الملك هنري السادس، الذي كان لا يزال طفلاً رضيعاً آنذاك.
أعادت هذه التطورات البلدين إلى حالة النزاع العسكري، فتوغل الإنجليز في الجزء الشمالي والجنوب الغربي من فرنسا إلى أن وصلوا إلى مدينة أورليان وحاصروها، وبحسب المؤرخين كان مصير فرنسا بالكامل آنذاك يتوقف على مدى تماسك هذه المدينة، التي لم يكن من المتوقع أن تصمد طويلاً في وجه الإنجليز لولا ظهور القديسة جان دارك.
أوامر إلهية لدعم شارل السابع
انقسمت الأراضي الفرنسية إلى ثلاثة أجزاء، فمنها ما هو واقع تحت الاحتلال العسكري الإنجليزي وبعضها يدين بالولاء للإنجليز، في حين لا يزال الجزء الثالث يدين بالولاء للتاج الفرنسي.
في ظل تلك الانقسامات كان شارل السابع يحتاج معجزة حقيقية ليتوَّج ملكاً ثانيةً على الأراضي الفرنسية، وكانت جان دارك هي تلك المعجزة.
جان دارك فتاة بسيطة، يعمل والداها بالزراعة، وتعيش في قرية صغيرة تُدعى دومريميه.
في أواخر حرب المئة عام، وتحديداً عام 1424 وعندما كانت تبلغ من العمر 12 عاماً فقط، قالت جان إنها رأت في منامها أنها كانت وحيدةً في أحد الحقول مع رئيس الملائكة ميخائيل، وكاترينا الإسكندرانية، والقديسة مارغريت، وقد طلب هؤلاء جميعاً منها إجلاء الإنجليز من البلاد وإعادة ولي العهد إلى مدينة ريمس، من أجل تتويجه ملكاً.
وقالت إنها بكت حين غادروا في حلمها، لأنهم كانوا غايةً في الجمال.
وعندما بلغت جان السادسة عشرة من عمرها، طلبت من أحد أقربائها اصطحابها إلى قرية فوكوليغ المجاورة، لتطلب من قائد الحامية الكونت روبر دو بودريكور الإذن لها بالذهاب إلى البلاط الملكي في شينو الواقعة غرب البلاد.
كان ردُّ الكونت على طلبها رداً ساخراً، لكنه لم يردعها عن الهدف الذي جاءت من أجله.
إلا أن جان استطاعت الوصول إلى غايتها والحصول على تأييد اثنين من أصحاب المكانة والنفوذ، وشاركت في أحد الاجتماعات العسكرية، حيث تنبأت للقادة بحدوث انسحاب عسكري بالقرب من أورليان، وهذا ما كان حقاً.
جان دارك الفارسة
منح روبِر دو بودريكور، جان دارك فرصة مرافقته إلى شينو بعد سماعه خبر تحقُّق نبوءتها بالانسحاب العسكري.
فتنكرت جان بهيئة رجل ومضت معه باتجاه الديوان الملكي، حيث أثارت هناك إعجاب شارل السابع فور وصولها.
طلبت جان دارك السماح لها بالذهاب مع القوات المرسَلة إلى مدينة أورليان على هيئة فارسة، فجُهِّزت بالخيل والسلاح، وكانت على رأس الجيش المُتوجّه إلى أورليان، أمل فرنسا الأخير.
بعد سنوات من الهزائم المذلّة المتتالية، أصاب الإحباط كلاً من القيادة العسكرية والمدنية في فرنسا وأفقدها مصداقيتها. وفي ظل مثل هذه الأوضاع كان من المبرر أن يتمسك الجميع بفتاة أميّة تدَّعي أن صوتاً من الله يرشدها إلى قيادة جيش بلادها.
قلبت جان الصراع الإنجليزي – الفرنسي الطويل إلى حرب دينية فور وصولها.
وكان مستشارو شارل قلقين من أن تكون جان زنديقة أو مشعوذة، وهو ما يعطي الفرصة للأعداء للقول إن مملكة شارل هدية له من الشيطان، ورغم تحذيراتهم كان ملك فرنسا يرى في جان فرصته الأخيرة للنجاة.
لم يكن شارل السابع مخطئاً تماماً بشأن جان دارك، فقد قادت الجيش إلى سلسلة من الانتصارات المذهلة التي غيّرت مجرى الحرب، بعد أن كان يُكبَّد بالهزائم الواحدة تلو الأخرى قبل وصولها.
أصيبت بسهم في عنقها ومع ذلك واصلت القتال
رُوي أن جان دارك كانت خبيرة في الشأن العسكري، كما تُضرب بشجاعتها وبطولاتها الأمثال.
فقد استطاعت بقيادتها للجيش الاستيلاء على عديد من الحصون التي كان الإنجليز مسيطرين عليها، حائزةً تقدماً لافتاً للأنظار.
إلا أن خلافات عسكرية دارت بينها وبين قائد الحملة العسكرية في أورليان، وهو ما حدا بالأخير إلى استبعادها من مجالس الاستشارات الحربية، وقد قرر الانتظار حتى وصول الدعم وعدم شن أي هجوم آخر على الإنجليز.
لكن جان دارك جمعت قواتها ومؤيديها، وبمعونة قائد سرية عسكرية واحد استطاعت التقدم والاستيلاء على حصن سان أوغستين رغم إصابتها بسهم في عنقها.
أدى ذلك إلى ارتفاع مكانتها عند شارل السابع، الذي أعطاها إذناً ملكياً لتنفيذ خطة طموحة، تتمثل في استعادة الجسور الواقعة على طول اللوار، تمهيداً لاستعادة مدينة ريمس الواقعة في عمق أراضي الأعداء والتي سيتوَّج فيها شارل السابع ملكاً مطلقاً على فرنسا.
خطة جان دارك الطموحة تتجاوز التوقعات
بالفعل تم بدء تنفيذ خطة جان دارك بالتقدم نحو مدينة ريميس التي كانت قبل ذلك مجرد حلم للفرنسيين. ومع تزايد بطولاتها وانتصاراتها زاد إعجاب القادة العسكريين بها، وأصبحوا جميعاً مدينين بالولاء لها ويقاتلون تحت رايتها.
توجهت جان دارك بجيشها لتحرر مدينة أوكسير ثم "تروا" التي وُقّعت فيها المعاهدة التي تنص على حرمان شارل السابع من العرش، وتابعت التقدم مُكبِّدةً الإنجليز عديداً من الخسائر ومُوقِعةً كثيراً منهم بين قتيل وأسير، إلى أن وصلت لمدينة ريميس حقاً واستطاعت فتحها في السادس عشر من يوليو/تموز من عام 1429، وتم تتويج الملك شارل فيها، في صباح اليوم التالي، ملكاً على سائر الأراضي الفرنسية.
كانت جان ترتأي متابعة التقدم نحو باريس إلا أن البلاط الملكي عقد هدنة مع فيليب دوق بورغندي، الذي خرق هدنته مع الفرنسيين بعد أيام، مستغلاً إياها كوسيلة للمماطلة لتعزيز قواته.
وبعد عمليات كرٍّ وفرٍّ، قرر الملك عقد هدنة مع الإنجليز فترة من الزمن، على الرغم من معارضة جان دارك لتلك الهدنة.
حوكمت بتهمة الهرطقة
انتهت الهدنة بين الإنجليز والفرنسيين سريعاً، ورحلت جان إلى كومبيين، للمساعدة في الدفاع عن المدينة في وجه الحصار الإنجليزي-البورغندي المشترك.
أدى وقوع اشتباك بين الطرفين إلى وقوعها في الأَسر، بعدما حاولت قواتها الهجوم على أحد معسكرات البورغنديين.
كان من المعتاد أن تقدم أسرة الأسير فدية مقابل تحريره، لكن جان دارك كانت ظرفاً استثنائياً، ويدين عديد من المؤرخين شارل السابع، لعدم تدخُّله.
حاولت جان الهرب عدّة مرات، قفزت في إحدى هذه المحاولات من برج يبلغ ارتفاعه 21 متراً، ليتم نقلها إلى مدينة أراس البورغندية، واشتراها الإنجليز من حلفائهم البورغنديين، لمحاكمتها بتهمة الهرطقة.
وكان من ضمن الأدلة التي قضت بهرطقة جان دارك طريقة لباسها المتشبّه بالرجال والمخالف لتعاليم الكتاب المقدس، إضافة إلى شعرها القصير، لكنَّ حجة جان كانت حماية نفسها من التحرش أو الاغتصاب في ساحات المعارك.
أُحرقت جثتها مرتين
وصف شهود عيان إعدام جان دارك حرقاً بالنار يوم 30 مايو/أيار 1431م، فأُشير إلى أنَّها رُبطت بعمودٍ طويل في السوق القديم بمدينة روان، وقبل إضرام النار فيها طلبت من كاهنين أن ينصبا صليباً مُقابلها.
كما قام جندي إنجليزي بصنع صليبٍ صغير وضعته قرب ثوبها.
وبعد موتها، أزال الجنود الإنجليز الحطب المُتفحِّم، ليكشفوا جسدها المُتفحِّم، كي لا يقول أحد العامَّة إنها هربت بمعجزة دون أن يصيبها ضرر، ثُمَّ أُحرقت الجُثَّة مرَّتين حتى استحالت رماداً، في سبيل منع الناس من الاحتفاظ بأيِّ أثرٍ من الفتاة يتخذونه للتبرُّك.
ثمَّ رمى الإنجليز الرَّماد في نهر السين من على الجسر الوحيد المُسمّى "ماتيلدا".
وأشار الجلَّاد جيفري ثريدج في وقتٍ لاحق، إلى أنَّه خاف خوفاً عظيماً من أن يلعنه الله بعد فعلته هذه.
انتهاء حرب المئة عام
استمرت حرب المئة عام، 22 عاماً بعد وفاة جان دارك، نجح خلالها شارل السابع في المحافظة على شرعية ملكه لفرنسا، على الرغم من التتويج الذي أُقيم لغريمه هنري السادس في ديسمبر/كانون الأول 1431، والذي صادف بلوغ الملك الإنجليزي سن العاشرة.
إلا أنَّ ضعف الملك الإنجليزي صغير السن أسهم في انتهاء الحرب مع فرنسا.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، أقيمت محاكمة أخرى لجان دارك بعد وفاتها بمدة طويلة، إذ إنها لم تنصف خلال محاكمتها الأولى التي كانت مكونة من رجال دين منهم خاضع للإنجليز ومنهم وافق بالمشاركة في محاكمة دارك تحت التهديد بالقتل.
شهيدة بعد فوات الأوان
أذن البابا كاليستوس الثالث بعد خمس وعشرين سنة من إعدامها بإعادة النظر في محاكمتها من قِبل لجنة مختصة، التي قضت ببراءتها من التهم التي وُجّهت إليها وأعلنتها بناءً على ذلك شهيدة.
تم تطويب جان دارك عام 1909، أعقب ذلك إعلانها قديسة عام 1920، إلى جانب القديس مارتين، ولويس التاسع، وغيرهم.
أما عن رؤاها فقد بقيت محور اهتمام حتى يومنا هذا، فبعض الأطباء قالوا أنها قد تكون مصابة بأمراض عصبية أو نفسية جعلتها تتهيأ تلك الأوامر الإلهية، لكن قلة المعلومات عن حياتها حالت دون تمكن الأطباء من البت بالموضوع.
وبكل الحالات، أصبحت جان دارك فيما بعد بطلة أسطورية تناقل عامة الناس العديد من الخرافات حولها، كما كرسها الكتاب والروائيون والسينمائيون في أعمالهم منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا.