اقتحام المسجد الحرام، وقتل الحجيج ورمي جثثهم في بئر زمم واقتلاع الحجر الأسود من مكانه ليبقى بعيداً عن مكة قرابة 22 عاماً، كل ذلك حدث في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله بن المعتضد من قبل فئة ادعوا التشيع وأطلقوا على أنفسم اسم "القرامطة".
فمن هم القرامطة، وكيف تمكنوا من بسط نفوذهم في العراق وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية وصولاً إلى مكة؟
القرامطة.. ملة كفرٍ، ظاهرها التشيع
بعد وفاة الإمام جعفر الصادق، الإمام السادس للشيعة، حدث انشقاق في الصف الشيعي، فمنهم من اعتبر إسماعيل بن جعفر هو الإمام السابع وعُرفوا فيما بعد بالإسماعيلية.
ومنهم من اعتبر موسى بن جعفر الإمام السابع، وهم يمثلون الأغلبية الساحقة للشيعة اليوم، ويسمون "الإثني عشرية".
بايع الإسماعيليون محمد بن إسماعيل إماماً لهم، ونتيجة لملاحقة الدولة العباسية له اضطر إلى الخروج من الحجاز واختفى، لتبدأ حملة سرية وواسعة لنشر العقيدة الإسماعيلية.
ومع ذلك بقيت الدعوة تجري باسم محمد بن إسماعيل الغائب، الذي قيل إنه هو "المهدي المنتظر".
وكانت الدعوة الإسماعيلية في العراق يقودها حمدان قرمط، الذي تمكن من تحقيق نجاح كبير واجتذاب الكثيرين إلى الدعوة الإسماعيلية في العراق، والتي توسعت فيما بعد لتشمل اليمن والمغرب ووسط وشمال فارس.
وفي عام 899م، أعلن عبيدالله المهدي -الخليفة الفاطمي فيما بعد- أنه إمام وأنه من سلالة محمد بن إسماعيل، وأمر جميع الدعاة في مختلف الأمصار بإعلان أنه الإمام الحادي عشر للمسلمين ونشر الدعوة باسمه بدلاً من مهدية محمد بن إسماعيل.
إلا أن الإسماعيلية في العراق والبحرين وخراسان رفضوا الاعتراف بإمامة عبيدالله، وكان على رأسهم حمدان قرمط الذي كانت مدينة واسط العراقية مركزاً لدعوته.
وواصلوا تمسُّكهم بإيمانهم الأصلي بشأن مهدية محمد بن إسماعيل، ليقيموا سنة 899م دولة في البحرين ويعلنوا قطع علاقتهم بعبيدالله، وعرفوا فيما بعد بالقرامطة، الذين وصفهم عديد من المؤرخين بأنهم ملة كفرٍ، ظاهرها التشيع.
فقد راحوا يبتدعون شرائع خاصة بهم مثل أن الخمر حلال وأن لا صوم في السَّنة سوى يوم النيروز ويوم المهرجان، وأن الحج والقِبلة إلى بيت المقدس، وأن لا غسل من جنابة.
"دار الهجرة".. معقل القرامطة الأول
بدأ القرامطة بالتنظيم والبروز كحركة مستقلة عندما قرر حمدان القرمطي بناء مركز لدعوته قرب مدينة الكوفة، المعقل الأهم والأكبر للحركات الشيعية منذ أيام الدولة الأموية حتى ذلك الحين، وسمّاه "دار الهجرة".
واعتمدت الحركة القرمطية المنظَّمة على عنصر المال في تقوية مركزها، حيث فرض حمدان القرمطي على أتباعه ضرائب ثابتة، استطاع من خلالها تجنيد وجلب مزيد من الأتباع والمؤمنين بأفكاره.
وقد استغل القرامطة ثورة الزنج التي قامت في سواد العراق واستمرت 15 عاماً متصلة، فوسّعوا فيها دائرة دعوتهم، واستقطبوا الآلاف إلى أفكارهم.
ولم يلقِ الخليفة العباسي في بغداد بالاً للتحذيرات من خطورة هذه الدعوة، التي كانت تتخذ منحى أشد تطرفاً وتُحدث ديناً غير الإسلام.
فقد كان الخليفة العباسي، المعتمد على الله بن المتوكل، منغمساً في اللهو والملذات، ومن حوله حاشيته يخططون ويتآمرون للاستيلاء على السُّلطة.
"الله يكره العرب".. هكذا وسع القرامطة نفوذهم العسكري
في حين كان حمدان القرمطي هو الرأس المدبر في دار الهجرة، كان زكرويه هو المسؤول عن نشر الدعوة القرمطية غرب العراق، وأبو سعيد الجنابي هو المسؤول عن منطقة فارس الجنوبية.
ولما نجح الجنابي في نشر الدعوة بفارس، لاعباً على وتر القومية وناشراً بين الناس أن الله يكره العرب لأنهم قتلوا الحسين، استدعاه قرمط إلى العراق للبدء بعمليات التوسع الحقيقية.
فأرسل الجنابي لنشر الدعوة في منطقة البحرين (شرق الجزيرة العربية كلها من جنوب البصرة حتى عُمان)، فتزوج الأخير ابنة رجل مرموق له مكانة اجتماعية عالية بتلك المنطقة، فساعده ذلك على بسط سيطرته على المنطقة في زمن قياسي.
وبعد أن اشتد ساعِده سيطر على القطيف، وبدأ منذ تلك اللحظة يستخدم القوة المسلحة في إجبار القرى على الانضمام إلى دعوته.
آنذاك أدرك العباسيون ضرورة ردع القرمطيين بالقوة، فأرسل الخليفة المعتضد بالله جيشاً لمواجهتهم، لكن قوات العباسيين بقيادة عباس بن عمرو الغنوي انهزمت بصورة مفجعة.
حيث قُتل جُلّ من اشترك في هذه الحملة، حتى إن قائدها الغنوي وقع في الأَسر.
بعد ذلك توالت المواجهات بين القوات العباسية والقرامطة، إلا أن العباسيين هُزموا في أكثر من موقعة، ولم يتمكنوا من كسر شوكة القرامطة.
أبو طاهر الجنابي وذروة نفوذ القرامطة
تولى أبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي الإمامة بعد وفاة أبيه، وفي عهده تعاظم نفوذ القرامطة وبدؤوا بالتمادي والاعتداء على قوافل الحجاج والمعتمرين.
حيث خرج ألف راجل وثمانمئة فارس قرمطي من البحرين، متعرضين لأكبر قافلة للمعتمرين حينها، كانت تضم آلافاً من الرجال والنساء والبضائع.
وقد ذبح القرامطة آنذاك نحو 2200 رجل و500 امرأة، وأخذوا الآخرين أسرى، فضلاً عن الغنائم التي غنموها في ظل وقوف الدولة العباسية عاجزة عن مواجهتهم أو إيقافهم.
أرسل أبو طاهر الجنابي القرمطي رسالة إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله، يشترط عليه أن تتنازل الخلافة العباسية للقرامطة عن البصرة والأهواز في مقابل كف أيديهم عن الرعايا المسلمين السُّنة، وعن طرقهم ودمائهم وأموالهم.
إلا أن الخليفة لم يردَّ على رسالة القرمطي، الذي أخذ نفوذه بالازدياد.
القرامطة والحجر الأسود
استمر هجوم القرامطة على أطراف مكة، والحجاج القادمين من العراق والشام وغيرها، وهو الأمر الذي أثّر بالسلب في أعداد الحجاج، التي راحت تقل عاماً بعد آخر.
وفي العام 317هـ، أفتى كثير من العلماء ببطلان الحج؛ حمايةً للأنفس والأعراض، حتى جاءت الطامة الكبرى في العام نفسه، فقرر أبو طاهر القرمطي عدم الاكتفاء بقطع طريق الحجاج، إنما مهاجمة مكة ذاتها.
وعندما خرج والي مكة، ابن محلب، مع عدد من أعيانها للقاء القرمطي وجيشه، والطلب منهم الابتعاد عن المدينة المقدسة، عاجلهم جنود القرمطي بالسيف فقتلهم جميعاً.
ثم اتجه القرمطي إلى المسجد الحرام فدخله بعساكره، وراحوا يقتلون الناس داخل الحرم وفي طرقات وشوارع مكة المشرفة حتى امتلأ البلد الحرام بالجثث.
ولم يكتفِ القرمطي بهذا، بل نزع عن الكعبة ستارها وقلع بابها وأخذه، واقتلع الحجر الأسود وأخذه معه أيضاً.
نهاية القرامطة
ظل الحجر الأسود في حوزة القرامطة نحو عشرين سنة، بلغوا فيها أوج قوتهم، فقد ضموا إليهم بلاد عُمان وهاجموا الكوفة والبصرة مراراً.
ولم يقوَ العباسيون على فعل شيء أمام جرائم القرمطيين، وقرروا عقد الصلح معهم مقابل دفع فدية سنوية هائلة تُقدَّر بـ 120 ألف دينار ذهبي.
وفي العام 337هـ وبعد وساطة شاقة، ودفع أموال هائلة، تسلَّم العباسيون الحجر الأسود وأرجعوه إلى مكانه مرة أخرى.
في نهاية المطاف سقط القرامطة؛ من جراء انكماشهم الداخلي بعد إسناد إمارة البحرين إلى شاب رأى الجنابي أنه المهدي المنتظر.
فقام ذاك المهدي المزعوم بإعدام عديد من أعيان الدولة، التي شارفت الانهيار ودخلت في حرب مع الفاطميين، دفعت بعديد من القرامطة إلى الارتحال إلى إيران.
وفي عام 1073، استطاع العوينيون وبعض القبائل العربية الموالية للعباسيين والسلاجقة هزيمة القرامطة ودحرهم عن إقليم الأحساء والبحرين، بعد ما يقرب من قرنين، استباح فيهما القرامطة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.