الاستِشراق ليس خطاباً استعمارياً

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/23 الساعة 15:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/23 الساعة 15:13 بتوقيت غرينتش
لم يكن الاستشراقُ يوماً ما خطاباً استعمارياً، وبالتالي يجبُ تطليق هذه الفكرة والتخلي عنها

الاستشراق هو خِطابٌ أكاديمي ظهر في الغرب الحديث من أجل دراسة الإسلام بشكلٍ عام، وله شهادة ميلاد مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً بغزو نابليون بونابرت لمصر بين سنتي 1798 و1801م، ولكي يتمَّ هذا الغزو على نحوٍ جيّد أرسل نابليون بعثات أكاديمية مُتخصِّصة من أجل دراسة الإسلام وفهمه، والدّافع وراء إرسال تلك البعثات هو أنَّهم كانوا في أمسِّ الحاجة للغات الإسلام (العربية، الفارسية).

لم يكن الاستشراقُ يوماً ما خطاباً استعمارياً، وبالتالي يجبُ تطليق هذه الفكرة والتخلي عنها. فإدوارد سعيد شنَّ هجوماً على الاستشراق، وواصل غاراته المُجحفة تجاهه، وكتبَ عنه ليُقدِّم لنا صورةً حالكة عن الاستشراق، عِلماً أنَّ تخصص إدوارد سعيد هو الأدب المُقارَن، والأدبُ لا يُمكنهُ أنْ يُعطيك صورةً واضحة عن الاستشراق، لأنَّ هذا الأخير مجالهُ هو التاريخ، الفلسفة، علم الكلام، الفقه… إنَّ الاستشراق هو خطابٌ أكاديميٌّ نقديٌّ للإسلام وليس خطاباً استعمارياً، لأننا لو اعتبرناه خطاباً استعمارياً فهذا حيف وإنكارٌ لخدمةٍ جليلة قدَّمها للفكر العربي.

منذ بداية الاستشراق زعَمَ المُستشرِقون أنَّ القرآن هو الرَّكيزة الأساسيّة للثقافة الإسلامية، وكل من لا يقرأ القرآن لا يحقُّ له الحديث عن الإسلام بأيِّ شكلٍ من الأشكال. أراد المُستشرقون الرّجوع إلى القرآن والسَّبر في أغواره، ومعرفة كيفية ظُهوره من خلال المنهج "الفيلولوجي" الذي استخدمهُ لورينزو فالا، هذا الأخير اخترع منهج الحفر اللُّغوي، حيث يضعُ لكلِّ كلمة أو مفهوم شهادةَ ميلاد. التاريخ صار إبداعاً من طرف الإسلامويين، ومُورِس من طرفهم، وانصبَّ اهتمامُهم عليه، وانتصر الزمانُ على الشعارات الدينية كما يقول مُعاوية بن أبي سُفيان: "نحنُ الزمان من رفعناهُ ارتفع، ومن وضعناهُ اتَّضع". إنَّ القرآن والتاريخ يُعتبران مجالين من مجالات الاستشراق.

لولا تلك الصدمة مع الغرب لما اكتشفنا أنفسنا كيتامى في التاريخ،. جرَّاء قوّة هذه الصدمة استيقظنا لأنّها جاءت في سياق تاريخي معيّن، كان العالم العربي حينها يعيشُ تحت وطأة الانكماش والانحطاط الفكري وتشرذم الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ومُراقبة أطوار الاحتلال في صمتٍ وذُهول. ما خلَّفتهُ هذه الصدمة أنّها جعلتنا نُحسُّ بأننا كائنات لا تعرفُ التقدّم، ونعيشُ في دوامة التأخر التاريخي، وتركت فينا جرحاً غائراً لا يندمل، وبالتالي يجبُ علينا الخروج من هذا المَأزق. التراث هو كل الإبداعات الفكريّة التي تُشكِّلُ الذّاكرة والهويّة العربية، وبدأ الوعي بالتراث بشكلٍ فعلي منذ الصدمة الأولى مع الغرب، الذي لم نكتشفهُ في لقاءٍ حميميِّ، ولم يأتنا بالورود، بل اكتشفناهُ في الحروب والهزائم العسكرية، كمعركة إيسلي سنة 1844م.

إنَّ التراث هو نقطةُ تقاطعٍ بين الأعمال الفكريّة العربية وأعمال المُستشرقين. المُستشرِقُ لا يدرُسُ التراث بعيونٍ موضوعية، لأنّه تابعٌ لإدارةٍ معينة هدفها التجبّر والتغطرس، ويدرسهُ دراسةً برّانية ويتعاملُ مع التراث بعيونٍ وجدانيّة بارِدة، ثم إنَّ المستشرق لا يحملُ على عاتقه هموم وأسئلة الحاضر، ويتعامل معه تعاملاً أكاديمياً، وهذا سيُؤدّي حتماً إلى برودة منهجه. المُستشرق ينظرُ إلى التراث باعتباره تراثاً هامشياً، وهذا ما جعل محمّد أركون يُبدي امتعاضه وأسفه، ليوجِّه نقداً للاستشراق.

محمّد أركون (1928-2010) هو باحثٌ مخضرم اهتمَّ بمشروع ضخم اسمه "الإسلاميات التطبيقية"، هذا المشروع ليس مذهباً، بل هو مبحثٌ نظري كان يُطلقُ في وقتٍ سابق على بُحوث المُستشرقين. يُعدُّ أركون سليل المدرسة الفرنسية، لذلك لا يُمكنُ اعتبارهُ عدوّاً لدوداً للاستشراق، لأنّه يرفضُ رفضاً قاطِعاً الفكر العدمي الذي تبنَّاه إدوارد سعيد بالكتابة عن الاستشراق وتقديم صورة شيطانية عنه، باعتباره منخرطاً في أيديولوجية الكفاح ضدّ الغرب، وما ينمّ عن ذلك هو تلك الأفكار التي روَّجها إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق". الإسلاميات التطبيقية التي جاء بها أركون لا تتخذُ موقفاً أُصولياً، لأنّها تشتغلُ على نفس الموضوع الذي يشتغلُ عليه المستشرِقون والأصوليون (الأصوليون يعتبرون أنفسهم هم الوحيدين القادرين على دراسة التراث) ألا وهو التراث. بما أنّ موضوع الإسلاميات التطبيقية هو التراث، هذا ما سيدفعُها إلى الدخول في سجال مع المُستشرقين.

من الأسباب التي فوَّتت على الفكر الإسلامي المُعاصر الاستفادة من الاستشراق تأليف إدوارد سعيد لكتابه المعنون بـ "الاستشراق"، هذا الكِتاب يضمُّ بين دفتيه أفكاراً ومنطلقات خاطئة، تمّ الوثوق بها من طرف بعض المفكرين المنتمين لأيديولوجية المقاومة ضدَّ الترسانة الغربية. أليس هذا وجهاً من وجوه إنكار الجميل؟ لأنَّ إدوارد سعيد روَّج لصورةٍ حالكة عن الاستشراق، باعتباره خطاباً استعمارياً. إلى جانب كتاب إدوارد سعيد، نجدُ المُناخ الفكري الذي ساد مرحلة الردّ على البنيوية في أوروبا، وما رافق ذلك من بروزٍ لمفهوم الذَّات واستهجانٍ للبُعد اللغوي الذي تمّ توظيفهُ لإثبات فكرة موت الإنسان. هناك غموضٌ كبير يكتنفُ الاستشراق، وهذا يعيه أركون جيداً، لأنَّ جلّ المُفكّرين ربطوا هذا الخطاب بالاستعمار، وهذا ما جعلنا غير قادرين على استيعابه واستثمار مُكتسباته.

حاول أركون تجنُّب الحمولة السلبية، إنْ لم نقُل القدحية، التي بات مفهوم الاستشراق يتَّسمُ بها في مُخيلة الوعي العربي الإسلامي المُعاصر، وذلك بأن أعمل عبارة "الإسلامولوجيا"، ذات البُعد المعرفي والعلمي، في إشارةٍ منه إلى أنَّ ما يهمُّه في الاستشراق هو جانبهُ المعرفي. نبيل فازيو، الإسلاميات التطبيقية وهاجس التنوير، مدخل إلى مشروع محمد أركون، منتدى المعارف، الطبعة الأولى، بيروت، 2017.

الخروج من مأزق الانغلاق الدوغمائي الذي أعدم العقل وأطَّرهُ في دهاليز النِّسيان بفعل سطوة سدنة المعبد الممثلين في كبار الأئمة الذين أقاموا صرح العقل الفقهي محل العقل الفلسفي، ورسّخوا التوظيف الراديكالي للدين المبني على القراءة السطحية للنّص القرآني. هنا تساءل أركون عن كيفية استعادة النّص الديني من قبضة الفقهاء الذين صاغوا له قراءة أرثوذوكسية مُتصدية وممانعة لكل نبشٍ في أعماقه، خصوصاً إذا تعلَّق الأمر بإدخال آلات جد مُتطورة للتنقيب في أغواره، ألا وهي مكتسبات العلوم الغربية الحديثة. وما يُميزُ أركون هو ثناؤه على النظريات الاستشراقية التي أسهمت في زرع بذورٍ نحو فهم مغاير للدين الإسلامي ولتراثويته، التي ما انفكَّ أركون لا يدعو إلى إقامة سياجات القطيعة معها، كما دعا إلى ذلك العروي في مشروعه الخاص بنقد الأيديولوجيا العربية. بل هدف إلى بلورة رؤيةٍ جديدة لهذا التراث، تنزعُ عنه ومنه كلّ أَسْطَرَة وخرافة، لتجعلهُ يتصالح مع التاريخ ومع الحداثة.

وجَّه أركون نقداً للمستشرقين، لأنّهم اعتمدوا على منهجٍ واحد هو المنهج الفيلولوجي، ومُشكلة هذا المنهج أنَّه يعتبر اللُّغة هي المفتاح الأساسي لكلِّ شيء. هذا المنهج هو سيفٌ ذو حدَّين، يُفيدنا في معرفة أصل الكلمات والمفاهيم ويُوقِعنا في وهمٍ اسمهُ أسبقيّة الكلمات، وبالتالي فهذا المنهج، حسب أركون، مقبولٌ من حيث المبدأ ومرفوض من حيث المُمارسة والتطبيق. ما عابهُ محمّد أركون على المستشرقين هو عدم استفادتهم من ثورات العلوم الإنسانيّة التي ظهرت خلال القرن السابع عشر، وظهور علوم الإنسان التي تجاوزت العقل الوضعي الذي كان سائداً من أجل فهم الإنسان، وعاب على الاستشراق أيضاً أنّه انكبَّ على دراسة الإسلام كنصٍّ وأهمله كواقع.

ينبغي على الباحث، وفق هذا المنظور، أن يعمل على فضح طرق التوظيف الأيديولوجي للدين في الماضي كما في الحاضر، متمشقاً في ذلك سلاح النقد المعرفي، بحكم قُدرته على الكشف عن آثار الضغط التاريخي والأيديولوجي ومفعوله على مسار تطور الأديان التوحيدية في العالم المعاصر، من دون التخندق في موقع أيديولوجي ضيف، يحرمنا من استيعاب الدلالات الرمزية لتلك الأديان. نبيل فازيو، الإسلاميات التطبيقية وهاجس التنوير (مدخل إلى مشروع محمد أركون)، ص 46.

النّقد الذي وجّههُ أركون للاستشراق لم يكن طلاقاً نهائياً معه، بل كان استفادة واضحة المعالِم، وتتلمذ أركون على يدِ الاستشراق، وهناك علاقة نقديّة في نفس الوقت، أي أنَّ أركون احتضن الاستشراق ثم سعى لتجاوزه. الإسلاميات التطبيقية ليست بديلاً عن الاستشراق، وإنّما هي إصلاحٌ معرفيٌّ لهذا الخطاب. الاستشراق في نظر أركون هو خطابٌ قدَّم خدمةً جليلة للفكر العربي وللتراث الإسلامي، لا يُمكنُ إنكارها أو أنْ نتغاضى عنها، بيد أنَّ في خضمِّ هذه الخدمة ظهرت بعض الأعطاب: ظهور مفاهيم بحثية مُتطوِّرة تجاوزت المنهج الفيلولوجي، ثم ظهور نزعات مُعادية للعلموية كالنّزعة الرومانسية.

هوامش:

نبيل فازيو، الإسلاميات التطبيقية وهاجس التنوير، مدخل إلى مشروع محمد أركون، منتدى المعارف، الطبعة الأولى، بيروت، 2017.


الفجاري مختار، "نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سفيان البراق
كاتب مغربي
اسمي سفيان البراق، طالب مجاز في الفلسفة، تخصص الفلسفة في العالم المعاصر. من مواليد 18/11/1998، أنحدر من المغرب. صدرت لي مجموعتان قصصيتان، الأولى تحت عنوان حرب البقاء عن دار المناهج للنشر والتوزيع بالأردن سنة 2017، والثانية بعنوان خلف جدار الذاكرة، صدرت ضمن منشورات جامعة المبدعين المغاربة سنة 2018. توجت بالعديد من المسابقات الأدبية؛ صنف القصة القصيرة، ونشرت عدة مقالات فلسفية ومجموعة من القصص القصيرة في مجلات وجرائد عربية مرموقة. كما أواظب على النشر في منابر لها مكانة في العالم العربي، كعربي بوست.
تحميل المزيد