في قرية البهنسا بمحافظة المنيا بصعيد مصر التي تحتوي على آثار من كل العصور، بدأ اثنان من علماء الآثار الشباب، هما برنارد باين غرينفيل، وآرثر سورغيد هانت عام 1896، في التنقيب بمقلَب نفايات قديم بحثاً عن برديات المدن القديمة في كومة من النفايات في المدينة التي كانت قديماً عاصمة الإقليم التاسع عشر من أقاليم الصعيد المصري، حسب تقرير موقع The Daily Beast الأميركي.
وفي أثناء التنقيب عن الآثار في قمامة قرية البهنسا التي كانت تُدعى يوماً "أوكسيرينخوس"، عَثَرا على واحدٍ من أهم الاكتشافات وأكثرها إثارة للدَّهشة في التاريخ الأثري؛ وهي آلاف من أجزاء النصوص المسيحية القديمة، بما في ذلك أجزاء من العهد الجديد، وكتابات مُبكِّرة مسيحية أُخرى.
أقوال غير معروفة للسيد المسيح في برديات البهنسا
وفي الواقع، في أوّل مجلّد من "برديات أوكسيرينخوس -Oxyrhynchus Papyri الصادر في عام (1898)، كشف هانت وغرينفيل عن أول جزء من مجموعة لم تكن معروفة لأقوال المسيح، وهو ما يُعرف الآن باسم "إنجيل توما"، وخلال القرن الماضي، كان العلماء يتفحَّصون ببطء تلك المخطوطات.
وفي يوم الخميس، 24 مايو/أيّار 2018، أعلنت جمعية الاستكشافات المصرية، وهي منظّمة غير ربحية تعمل كشريك راعي لمنظّمة أوكسيرينخوس التي تتخذ من أوكسفورد مقرّاً لها، عن اكتشاف جديد؛ وهو برديات يرجع تاريخها إلى أواخر القرن الثاني الميلادي أو مطلع القرن الثالث من إنجيل مرقس، والتي نشرت للتو في مجلّد برديات أوكسيرينخوس رقم 83، والصادر في عام 2018. من تحرير الأكاديميين المميزين في أوكسفورد، دانييلا كولومو وديرك أوبينك.
وفيما يجب أن يكون مثالاً نموذجياً لعبارة "قمامة رجل هي كنز لرجل آخر"، عُثِر في هذه الكومة من النفايات القديمة على أحد أقدم الأجزاء من أقدم إنجيل (حيث يعتقد العلماء أن أنجيل مرقس هو أقدم إنجيل في تاريخ المسيحية). وهذا يجعله اكتشافاً جوهرياً وهاماً بالنسبة لأولئك المهتمين بتاريخ المسيحية، ودليلاً على تأريخ أناجيل الكتاب المقدّس، وتاريخ إعدادها.
وإنجيل مرقس هو الإنجيل الثاني في تسلسل الاناجيل الاربعة من العهد الجديد، ويركز على الأسبوع الأخير من حياة المسيح.
غموض وسرية حول أصل هذا الإنجيل
يأتي ذلك وسط غموض كبير يحيط بأصل هذا الإنجيل، وتأريخه، وصِلته المحتملة بعائلة غرين، مالكة شركة هوبي لوبي- Hobby Lobby، ومؤسسة متحف الكتاب المقدّس.
وعلى الرغم من أن نَشره قد أُعلِن للتو، لم تكن هذه هي المرّة الأولى التي سمع فيها العلماء عن وجود تلك النسخة القديمة من إنجيل مرقس؛ فقد انتشرت شائعات بشأن هذا منذ فبراير/شباط 2012، عندما أعلن الناقد الإنجيلي دان والاس، في مناظرة مع الباحث الشهير المحايد دينيا بارت إيرمان، عن أنه رأى "جزءاً من إنجيل مرقس يرجع تاريخه للقرن الأول الميلادي"، وأشار والاس إلى أن مصدره هو "برديات عالية المستوى"، وبالنظر إلى أن جميع برديات العهد الجديد تقريباً يرجع تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي أو ما بعده، فإن ذلك يُعتبر اكتشافاً هائلاً.
وبطبيعة الحال، أراد علماء آخرون الاطّلاع على النص، إلا أن والاس لم يكن قادراً على التعليق أكثر من هذا، وصرَّح بعد وقت قصير من المناظرة أنه وقَّع على اتفاقية لعدم الكشف عن الأمر.
وعلى مدى السنوات التالية، كان علماء إنجيليون آخرون يذكرون ذلك النص من حين لآخر، ودائماً يأتي ذلك مع الإشارة إلى أن تاريخه يرجع للقرن الأوّل الميلادي، ومع تحذير شبه دائم من أنهم غير قادرين على مناقشة ما هو أبعد من ذلك.
بردية مسيحية في قناع جنائزي قديم
وفي مرحلة ما، اقترح الباحث كريغ إيفانز، مرَّة أخرى في سياق مؤتمر إنجيلي، أن البردية التي تم استخراجها هي من مادّة الكارتوناج وكانت في قناع جنائزي مصري قديم، في القرية التي عثر فيها أيضاً على الكثير من البرديات التي ترجع إلى العصر اليوناني الروماني.
لكن في نهاية المطاف، تراجع إيفانز تلك المزاعم، واعتقد الكثير من العلماء، في المجتمع الإنجيلي والمجتمع الأوسع، أن إعادة تأريخ إنجيل مرقس إلى القرن الأوّل كان خطأً، وأنه –ربما- غير موجود على الإطلاق.
وأثار ظهور جزء قديم جداً من إنجيل مرقس في مجلّد أوكسيرينخوس الذي نُشِر مؤخراً الدهشة والتعجب الشديد، ولم يمض وقت طويل حتّى أكّد دان والاس في مدوّنته أن هذه هي المخطوطة التي كان يشير إليها في عام 2012. وأشارت جمعية الاستكشافات المصرية أن الجزء الجديد هو نفس المخطوط الذي تمت مناقشته على المدوّنات في السنوات القليلة الماضية.
كيف إذاً أصبح إنجيل مرقس الذي يرجع تاريخه إلى القرن الأوّل هو إنجيل مرقس الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثاني أو الثالث الميلادي؟
اعترف والاس أن التأريخ الأقدم الذي أُعلِنَ عنه في مناظرة مع إيرمان كان خطأً واعتذر عن المعلومات المضللة. وأضاف لاحقاً أن سبب اعتقاده هو أن مالكي المخطوط طلبوا منه أن يقول إن تاريخه يرجع إلى وقت مبكّر حتّى تنتشر أخبار الاكتشاف الجديد انتشاراً هائلاً، وأشار والاس أيضاً إلى أنهم دفعوا بالتأريخ المبكر على الرغم من حقيقة أن عالم البرديات الذي أرجع تاريخ المخطوطة في بادئ الأمر إلى القرن الأول قد أعاد النظر في رأيه بشكل كبير.
وهذا قد يكون مهمّاً على صعيدين، فمن جهة، هو يساعد على نشر الزعم الإنجيلي بشأن الانتشار الواسع لنص الكتاب المقدّس من يسوع وحتّى الوقت الحالي، دون أي تغيير (وهو زعم أشار إليه والاس في مناقشته مع إيرمان). ومن جهة أخرى، يساعد في رفع قيمة المخطوط نفسه لصالح من يعتقد والاس أنهم يملكونه، ويبدو أنه من المنطقي أن نستنتج أن مالكيه المفترضين هم عائلة غرين.
وهناك عدد من الأسباب لاستنتاج ذلك، أولاً أن الكثير ممن أشاروا إلى البرديات، بما فيهم والاس وإيفانز، كانوا على صلة بطريقة ما بمجموعة غرين، وهي المجموعة الخاصة التي تملكها عائلة غرين التي تملك سلسلة متاجر هوبي لوبي الأميركية الشهيرة. ثانياً، إذا كانت عائلة غرين تمتلك البرديات، فمن المنطقي ألا أحد سيتمكن من ذكرها.
وكما ذُكِرَ في كتاب Bible Nation، تعد اتفاقية عدم الإفصاح ممارسة أساسية لدى العاملين في شركة هوبي لوبي، لا سيّما العلماء الذين يدرسون تحف مجموعة غرين. وأخيراً، عندما سُئِل ستيف غرين في عام 2015 عن إنجيل مرقس الذي يرجع تاريخه إلى القرن الأوّل، قال "في مرحلة ما، كان ذلك هو الشيء الذي أريد تعقّبه". ويبدو أن كل ذلك يشير إلى أن عائلة غرين قد حازت المخطوطة، كما يعتقد والاس.
ومع ذلك لم تظهر تلك المخطوطة أبداً على الملأ، لا في متحف الكتاب المقدّس ولا في أي معرض متنقل برعاية عائلة غرين. والدليل الوحيد المتبقّي على مكانها هو مقابلة في المؤتمر الوطني للدفاع عن المسيحية، كانت قد صوِّرت عبر هاتف محمول ونُشرت على موقع يوتيوب. وفيها قال سكوت كارول، المدير السابق لمجموعة غرين، للمدافع عن المسيحية، جوش ماكدويل، إنه شاهد المخطوط في مكتب عالم البرديات الأميركي في أوكسفورد، ديرك أوبينك.
لكن أوبينك وهو عالم برديات وكلاسيكيات ذو مكانة عالية، رفض مناقشة مسألة "إنجيل مرقس العائد إلى القرن الأول الميلادي" وكذلك مجموعة غرين. وعند النظر في عام 2015 يتبيَّن أنه قال إنه "غير مشارك في دراسة مجموعة غرين"، وهو نفس العام الذي صرَّح فيه ستيف غاردن إن أوبينك في تلك اللحظة بالذات يزور أديرة في جورجيا (البلد وليست الولاية)، حيث كان يبحث عن مخطوطات لصالح مجموعة غرين.
كل هذا ربما يعمل على إثارة الغموض بدلاً من الإيضاح، حول أصول وحالة برديات إنجيل مرقس. فلفترة طويلة، كان والاس يعتقد أن عائلة غرين تمتلك تلك البرديات، وأنها قد شوهِدت على طاولة بمكتب أوبينك، والآن يقال لنا إنها كانت مخفيّة بأمان -حيث لم يتم التعرّف عليها لفترة طويلة- في مجموعة أوكسيرينخوس بجامعة أوكسفورد منذ بداية القرن العشرين.
فهل عُرِضت مخطوطة إنجيل مرقس للبيع في أي وقت؟
الإجابة هي أنها إذا كانت مملوكة لمجموعة أوكسيرينخوس، فلا ينبغي عرضها للبيع، فهي رغم كل شيء قطعة أثرية لا تقدّر بثمن ومقتنيات ثقافية قيّمة.
ومع ذلك ظلّت تصريحات سكوت كارول، ودان والاس تؤكّد أنها عُرضت للبيع، حتّى ولو لم تكتمل عملية البيع. وعلى الرغم من أن كارول ينفي الضغط على والاس بشأن تاريخ المخطوطة، إلا أنه يقر بأنه كان الممثل المتصرّف لصالح مجموعة غرين. فمن كان يجبر والاس وإيفانز وآخرين على التوقيع على اتفاقية عدم إفشاء السر إذا لم تفعل عائلة غرين؟
وإذا لم تكن عائلة غرين وممثلوها على الأقل مهتمين بالحصول على تلك القطعة، فلماذا يعرفون –أو يهتمون– كثيراً بشأنها؟
كارول –الذي ترك العمل لدى عائلة غرين ومتحف الكتاب المقدّس في عام 2012- قال إنه حتّى هذا الأسبوع، كان يعتقد أن عائلة غرين قد اشترت المخطوط. والأكثر لفتاً للأنظار، بحسب كارول، أنه قد عُرض عليه شراء البردية من قِبل الكثيرين إلا ديرك أوبينك نفسه.
وأوبينك –بحسب ما قال كارول لصحيفة The Daily Beast– "عادة ما يبيع البرديات إلى مجموعة غرين"، وقال إنه شاهد المخطوطة لأوّل مرّة في زيارة لمكتب أوبينك في عام 2011. وأضاف قائلاً "أوبينك أراني بحماس شديد ما قال إنه إنجيل مرقس، الذي يرجع تاريخه لأواخر القرن الأوّل الميلادي، وكانت تلك نفس البردية التي تحدث عنها. وكانت في لفافة بيضاء من الورق، على جانب طاولة بمكتبه فوق كومة من أوراق البردي الأخرى لمجموعة غرين كان يُريني إياها. وشرح بالتفصيل ثقته في تأريخ المخطوطة.. ولم يُعط أي إجابة عن مصدرها أو مالكها. وعندما سألته عن قيمتها قال إنها لا تقدّر بثمن لأنها فريدة من نوعها".
وعندما طلبت صحيفة The Daily Beast من كاورل رسائل بريد إلكتروني تؤكّد قصّته قال إنه اضطر إلى تسليم كافّة المعلومات إلى منظمة هوبي لوبي عندما غادرها. وعندما سألت الصحيفة ديرك أوبكين عن الأمر، أشار بإيجاز إلى أن أي رواية تفيد بأنه حاول بيع جزء من إنجيل مرقس لعائلة غرين "ليست حقيقية".
وتزعم جمعية الاستكشاف المصري، من جانبها، أن المخطوطة لم تكن معروضة للبيع على الإطلاق، وأنها قد تم اكتشافها على الأرجح في عام 1903. وقد أكد عدد من علماء البرديات أن هذا الأمر صحيح. ومع ذلك، فإن إثبات الأمر صعب؛ فنظام الجرد بمجموعة أوكسيرينخوس مبهم بشكل لا يصدّق، وتحتوي القرية على آثار تعود للحقب الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية.
وللأسف وجود جزء من إنجيل مرقس على طاولة أوبينك لا يفيد بشكل خاص، فالباحث أوبينك، شأنه شأن العديد من العلماء المهمّين السابقين الذين هم على صلة بمجموعة أوكسيرينخوس، معروف بالاحتفاظ بمختارات من المخطوطات الخاصة في مكتبه.
نص مسيحي عظيم يُكتَشف في القمامة، لماذا الالتباس بشأنها؟
وبحسب ما ذكر نونغبري، هناك جوانب من المخطوطة "ترجّح بقوّة أنها نص مسيحي"، وإذا تم تأريخها لتعود إلى القرن الأول الميلادي، سيكون ذلك "مثيراً من وجهة نظر كتب التاريخ بغض النظر عن محتوياتها"، ومن الصعب تصديق أن شيئاً حسّاساً لهذه الدرجة كان متروكاً على هذا النحو، ولكنها ليست حالة غير مسبوقة.
وفي حالة أن المخطوطة كانت موجودة دائماً في أكسفورد ضمن مجموعة أوكسيرينخوس، فسيكون كارول ووالاس هما المسؤولين في الغالب عن الالتباس العام بشأن هذه البرديات، في عام 2012 واليوم أيضاً. وبالتأكيد شكك العديد من الأكاديميين في مصداقية كارول في الماضي.
ومرة أخرى، من الحتمي أن شخصاً ما قد أخبر كارول ووالاس (فضلاً عن غيرهما من الشركاء التابعين لمجموعة غرين التي عرفت بشأن بردية إنجيل مرقس) عن وجود المخطوط في المقام الأوّل، وربما أنه قام بتضليلهم بشأن تاريخها.
ويقول "إن ما نتعامل معه، هو في الواقع عبارة عن لعبة ممتدّة"، وما يظل الأكثر إثارة للغضب هو وجود هذه الاتفاقات التي لا يتم بموجبها الكشف عن حقيقة الأمور.
ولا يسع المرء إلا أن يأمل في الحصول على معلومات أكثر دقةً حول أصل مخطوطة إنجيل مرقس. على الرغم من أنه في الوقت الحالي لا يزال الإعلان عن هذا الاكتشاف محاطاً بالجدل، ولكن للمرّة الأولى تتمخَّض كومة قديمة من النفايات كريهة الرائحة عن شيء بمثل هذا القِدَم والقيمة.