تسعى أبحاث التأثير الاجتماعي إلى دراسة وتقييم تأثير وجود الآخرين من عدمه على أفكار الناس وعواطفهم وسلوكياتهم، بيد أن هذا التأثير تعدى التأثيرات الاجتماعية إلى تأثير من نوع مختلف، وهو تأثير الذكاء الاصطناعي في مقابل التأثير البشري، لذا أصبح قياس الاختلاف بين هذه التأثيرات أمراً ضرورياً من أجل تحديد الأثر الناتج عن كل منهما، وكذا قياس مدى تقارب أو تنافر كل واحد منهما بالنسبة للآخر، علاوة على ضرورة قياس فرق التأثير بينهما على الفرد والجماعة.
الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري
يهدف علم الذكاء الاصطناعي، حسب "آلان بونيه"، مؤلف كتاب "الذكاء الاصطناعي: واقعه ومستقبله": "إلى فهم طبيعة الذكاء الإنساني عن طريق عمل بـرامـج لـلـحـاسـب الآلي، قادرة على محاكاة السلوك الإنساني المتسـم بالذكاء"، والمحاكاة هي المماثلة والمشابهة والتقليد، وتدخل برامج الحاسب الآلي ضمن علم أو هندسة البرمجيات التي تقوم بتكوين البرامج منذ انطلاقتها الأولى عن طريق البرمجة، وهذه البرامج تختلف باختلاف الغرض منها؛ إذ يقوم كل برنامج بتنفيذ أوامر محددة وفقاً للغرض من استخدامه.
أما الذكاء البشري: وعلى غرار الذكاء الاصطناعي فيصعب تعريفه؛ إذ إن ميلنا الثقافي إلى تقليل الأشياء إلى قياسات عددية تسهل المقارنة المباشرة؛ تخلق في الغالب إحساساً زائفاً بالموضوعية والتحديد، وأية محاولة لعد شيء ذاتي ومجرد مثل الذكاء؛ حيث يندرج بوضوح تحت هذه الفئة، لذا سأكتفي بالقول إن الذكاء البشري هو الفطنة.
ورغم ذلك، فإن طريقة اشتغال الذكاء البشري تختلف عن طريقة اشتغال الذكاء الاصطناعي، وفي هذا الصدد تشير "مارغريت إيه بودين"، أستاذةُ أبحاثِ العلوم المعرفية بجامعة ساسكس البريطانية إلى: "أن الهدف الأساسي من الذكاء الاصطناعي هو تمكين أجهزة الكمبيوتر من تنفيذ المهام التي يستطيع العقل تنفيذها".
الذكاء البشري يتميز بالتفكير والشك والنقد والإبداع وغيرها من الصفات التي يعمل علماء الذكاء الاصطناعي على محاكاتها، وعليه فإن أصل ومرجع ومنطلق الذكاء الاصطناعي هو العقل البشري، يبدو أنه مع تطور الذكاء الاصطناعي لن تكون العلاقة بين الإنسان والآلة علاقة تابع ومتبوع؛ إذ إن الفرق بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي قد يصبح غير ذي أهمية بالنسبة للشخص العادي، وفي بعض الأحيان سيكون أفضل شخص يؤدي المهمة المطلوبة هو الآلة.
تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الفرد والمجتمع
أثَّر الذكاء الاصطناعي أو الآلي على الفرد لدرجة يصعب فيها أن يمتنع عن العيش دون حاسوب أو هاتف محمول، وعند اقتناء حاسوب أو هاتف محمول يجد الفرد أنه قد صار أكثر تمسكاً به، بل مرغماً أحياناً على استعماله، فلا يمكن لطالب جامعي مثلاً أن يدرس بدون وجود هذه الأجهزة الإلكترونية، وإلا أصبح عرضة للفشل الدراسي.
قد ارتأيت ذكر الأمثلة السابقة بالتحديد بسبب استعمالها من طرف فئات عريضة من الناس، لكن بالإضافة إلى هذه الآلات نجد أن هناك آلات أخرى ساهمت في تغيير العديد من سلوكيات الأفراد وأفكارهم، ونجدها غالباً في الدول المتقدمة وذات الدخل المرتفع، من مثل الروبوتات متنوعة الوظائف، وكبسولات الموت الرحيم، وأجهزة محاكاة الشيخوخة.
تبعاً لذلك، نجد أن أبرز الصفات الظاهرة في الإنسان اليوم هي العزلة والفردانية، وذلك بسبب ملء الآلة لحيز كبير من الوقت الذي كان ملكاً للناس فقط مع أنفسهم أو فيما بينهم، وبينما يبدو اليوم إطلاق كلمة "إنساني" على أحد الأشخاص نوعا من المجاملة، فعندما تصبح الآلات الذكية جزءاَ لا يتجزأ من المجتمع، سيصبح هذا المصطلح في نهاية الأمر أشبه بوصف أحد الأشخاص بالعنصري.
يحيلنا القول الأخير إلى استشعار الأخطار الكبيرة التي تهدد المجتمع، ولعل من أهم هذه التهديدات هو أخذ وظائفنا، وذلك ما بينه جيري كابلان في كتابه "الذكاء الاصطناعي"؛ إذ أبرز أكثر الوظائف عرضة للخطر في المستقبل، وقسمها إلى 3 أنواع، سوف نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وهي المهن الأكثر عرضة للتشغيل الآلي:
- عمال الياقات الزرقاء: السائقون، المزارعون، عمال البريد، مصلحو الساعات.
- مهن الياقات البيضاء: المحررون، مصممو الأزياء، المهندسون، المحامون، علماء الرياضيات.
- عمال الياقات الوردية: الشرطة، رجال الدين، الممرضات، وكلاء العقارات.
عليه يظهر أن نمط الحياة الذي نسير صوبه هو ارتفاع في مستويات البطالة وعدم العدالة في الأجور، وهو الأمر الذي قد يؤدي مستقبلاً إلى انقسام المجتمع إلى مجموعات من "الهيبيز" المفلسين الذين يرون أن الملذات أهم ما في الحياة، ومجموعات من "المترفين" الطموحين المنشغلين بذواتهم.
التأثيرات المستقبلية للذكاء الاصطناعي
يرى بعض المستقبليين والعلماء أن أبرز تهديد للإنسان من قبل الذكاء الاصطناعي هو "التفرد"، والذي يعني أن الآلات عند مرحلة معينة في الزمن سوف تصبح ذكية على نحو كافٍ؛ لدرجة أنها ستكون قادرة على تعديل وتحسين نفسها؛ مما يؤدي إلى الذكاء الجامح.
لعل ما يؤكد هذا التهديد الوجودي هو تأسيس عدة مؤسسات للحماية من مخاطر الذكاء الاصطناعي، ومن هذه المؤسسات في المملكة المتحدة، مركز دراسات المخاطر الوجودية بجامعة "كامبريدج"، ومعهد مستقبل الإنسانية بجامعة "أكسفورد"؛ وفي الولايات المتحدة، معهد مستقبل الحياة في بوسطن ومعهد أبحاث ذكاء الآلة في بريكلي.
ولئن كان احتمال التفرد احتمالاً ضعيفاً، فإنه يظل احتمالاً ممكناً، الأمر الذي يستلزم وضع معايير مهنية وأخلاقية وهندسية لتجنب أي مخاطر مستقبلية، وفي هذا الصدد أثار "ستيفن هوكينغ" موجةً عالمية في مايو 2014 حينما قال: "إن تجاهل تهديدات الذكاء الاصطناعي قد تكون الأسوأ لنا على الإطلاق".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.