من بين المقاهي الأكثر شعبية في الحي المالي في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأميركية، يوجد واحد فقط يديره روبوت. كل صباح، يلتف الزبائن في طابور حول ذراع هيدروليكي يصدر أزيزاً يستقر في كابينة زجاجية خشبية في زاوية شارع One Bush، في انتظار أن يقدم لهم مشروب الكابتشينو.
إنه مشهدٌ غريب، يقول تقرير لمجلة The Atlantic الأميركية. لدى Cafe X ثلاثة فروع في سان فرانسيسكو، وجميعها لا تتعامل بالأموال النقدية وتُدار إلكترونياً بالكامل، وتتلقَّي الطلبات عبر أحد تطبيقات الهواتف النقالة.
عندما يحل الروبوت مكان الصرافين والبائعين
يبعد المقهى خطواتٍ قليلة فحسب عن متجر Go التابع لشركة أمازون والذي لا يقبل الأموال النقدية، حيث اختفى الصرَّافون ومُعِدو المشتريات من البشر، ويُصرَف العصير والحليب عن طريق تمرير الهاتف المحمول على جهاز استشعار.
ويتجوَّل الموظفون البشريون في الردهة لمساعدة المُتسوِّقين، ومعظمهم من الزبائن الجدد الذين يصعب عليهم التعامل مع النظام الذي يعتمد بأكمله على التعاملات غير النقدية. ولدى أمازون بالفعل موظفون بشريون يُعدِّون المواد الغذائية ويُخزِّنون السلع.
إن استخدام أجهزة استشعار بدلاً من إجراءات الدفع التقليدية، وأجهزة الآيباد الدوارة بدلاً من آلات تسجيل النقود (التسوق بدون احتكاك هو المصطلح المتداول هنا)، يخلق تجربة تسوُّق جديدة، وهي تجربة تأمل شركة أمازون أن تساعدها في جمع بيانات المُتسوِّقين لزيادة أرباحها.
إذ يدفع المُتسوِّقون عبر الحساب المصرفي المرتبط بملفهم الشخصي في موقع أمازون، وتُسجَّل كلُّ عملية شراء وتخضع للتحليل لفهم سلوكياتهم وتفضيلاتهم. ويعمل نظام الكاميرا المُتطوِّر -باستخدام نفس التقنية التي تُزوَّد بها السيارات ذاتية القيادة- على مراقبة تحرُّكات المُتسوِّقين داخل المتجر.
ويُسجَّل كلُّ شيءٍ حتى ما لا يشترونه: على سبيل المثال، من الممكن إرسال كوبونات خصم للزبائن الذين يلتقطون علبةً من الحليب ثم يضعونها جانباً لشراء أخرى من علامة تجارية أخرى أقل تكلفة.
لكن الأمر لا يحظى بقبول الجميع
وتشمل الحجج التي يتبناها معارضو استخدام نظام الدفع الإلكتروني في متاجر البقالة خسارة صرَّافي الأموال ومُعدِّي المشتريات لوظائفهم، وليس هذا فحسب، فهناك أيضاً فشل الأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات، لا سيما أثناء الكوارث.
فلك أن تتخيَّل العشرات من المُتسوِّقين الذين يركضون للوصول لأجهزة الاستشعار في لحظات الرعب التي تسبق الأعاصير أو العواصف الشتوية (قالت شركة أمازون إن متاجرها "Go" يمكنها التعامل مع تدفُّق المُتسوِّقين، في ما يتعلَّق بقواعد السلامة من الحرائق).
وأثار تقريرٌ صدر من المملكة المتحدة في ديسمبر/كانون الأول قضية المراقبة والإساءة كذلك. إذ يمكن للأزواج الذين لديهم حسابات مصرفية مشتركة تتبُّع مشتريات بعضهم البعض بسهولة في الاقتصاد غير النقدي، مما قد يسهل على الاستغلاليين من الأزواج والزوجات مضايقة الطرف الآخر.
مع ذلك، لا يزال التعامل غير النقدي قائماً
إذ افتُتِح فرعٌ ثانٍ لمتجر Go التابعة لأمازون هذا الأسبوع في الحي المالي، على بعد بضعة مجمعات سكنية غرباً من الفرع الأول. وتُفكِّر شركتا التجزئة وول مارت وتيسكو في إقامة متاجر غير نقدية مماثلة.
وأوقف كلٌّ من مطعم الكاجوال السريع الشهير Sweetgreen ومتجر التجزئة Bonobos للملابس الرجالية، وصالون Drybar لتصفيف الشعر، التعامل بالأوراق النقدية، ونصحوا موظفيهم بطرد الزبائن ببساطة إذا لم يستطيعوا الدفع إلكترونياً.
ومنحت شركة فيزا لتوها خمسين شركة صغيرة، معظمها تقريباً مطاعم كاجوال سريعة، 10 آلاف دولار لكل منها لفوزها بـ"تحدي التعامل غير النقدي" الذي أطلقته.
ويقول أحد الفائزين المرحين في مقطع اليوتيوب الترويجي الذي أطلقته فيزا: "نستمر في الابتعاد عن التعاملات النقدية لمواكبة اتجاه الألفية"، ويُقدّر الفائزون نظام ما بعد النقد، ويبررون ذلك بقولهم إنه يؤدي إلى معاملات أسرع وانخفاض عدد مرات الذهاب إلى المصرف.
ويختتم أحد مالكي تلك الشركات حديثه بالقول: "لا أحد يحب الأموال النقدية. ونحن لا نحب الأموال النقدية".
فهو يدرُّ أرباحاً بالمليارات على شركات بطاقات الائتمان
يدرُّ إلغاء التعامل النقدي أرباحاً بالمليارات على شركات بطاقات الائتمان. فوفقاً لصحيفة The Wall Street Journal الأميركية، فإن رسوم "السحب بالبطاقة"، وتبلغ نسبتها 1% تقريباً، التي يدفعها تجار التجزئة للمصارف عندما يدفع المُتسوِّقون ببطاقات الائتمان وبطاقات الخصم، قد أدرت أرباحاً على شركتيّ فيزا وماستركارد بحوالي 43 مليار دولار العام الماضي.
إن تحول الشركات إلى نموذج "الدفع بدون احتكاك" الذي يعتمد على بطاقات الدفع فقط، يعد مصدراً كبيراً لجني الأموال، خاصة في أماكن بيع الأغذية الكبيرة حيث يرغب الناس في الدخول والخروج بأسرع ما يمكن.
إنه تصميم سريع ومناسب، وقد لا يدرك الزبائن أن مليارات الدولارات التي تراكمها الرسوم الصغيرة غير المرئية تُحفِّز الانتقال إلى متاجر "الدفع بالبطاقة" التي تُقام في أحيائهم. ولكن في حين أن التمييز بين النقد والمال قد لا يكون ذا أهمية بالنسبة لمالكي المطاعم الجدد الذين يركزون على الألفية الجديدة، فإن بعض المشرعين يحاججون بأن التصميم غير النقدي طبقي.
وقدَّمَ، ريتشي توريس، عضو مجلس مدينة نيويورك في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مشروع قانون لحظر جميع أنواع متاجر التجزئة القائمة على التعامل غير النقدي، ومتاجر GO، والمطاعم. وقُدمت مشاريع قوانين مماثلة في مدينة فيلادلفيا وواشنطن العاصمة. وفشلت محاولة شيكاغو في فرض الحظر عليها.
وقال توريس في مقابلة مع مجلة Grubstreet الأميركية الشهر الماضي: "بطريقة ما، يعد اشتراط وجود بطاقة دفع لشراء المنتجات مشابه لاشتراط وجود بطاقة للتصويت. كلاهما له نفس التأثير: إشعار الفئات المختلفة بالعجز والإحباط".
رغم أن فئة كبيرة لا تتوفر على حسابات مصرفية
وفقاً لتقرير صدر من مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية الأميركية، لم يمتلك 17% من جميع عائلات الزنوج و14% من جميع الأسر المنحدرة من أصول إسبانية حساباً مصرفياً في عام 2017. ولدى البعض رصيد قليل؛ ويعمل البعض الآخر في وظائف لا تدفع أجورهم إلا نقداً.
ولا يملكون خيار التعامل غير النقدي. ويقول توريس إنه على غرار الطريقة التي لا يستطيع بها المُتسوِّقون في متاجر Go الوصول إلى أبعد من ردهتها بدون تطبيق وحساب في أمازون، فإن المتاجر غير النقدية، تخلق ما يشبه أماكن عامة لا تسمح لذوي الدخل المنخفض بالدخول إليها.
يوجد لدى من لا يملكون حسابات مصرفية خيارين اثنين: الانضمام إلى الاقتصاد الرقمي عن طريق المؤسسات المصرفية التقليدية أو الاختفاء من هذه المساحات الجديدة.
سيكون من المثير للاهتمام أن نرى كيف يساعد المجتمع غير النقدي أو يعوق الناس الذي يملكون موارداً أقل. فكِّر في المشروع التجريبي Greater Change الذي نفذته المملكة المتحدة في شهر أغسطس/آب الماضي، ودعمته كلية سعيد لإدارة الأعمال بجامعة أكسفورد. كان الغرض من المشروع هو السماح بالتبرعات غير النقدية للمشردين.
وأعطت المؤسسة الخيرية الأفراد الذين لا مأوى لهم، قلادة مرفق بها شفرة شريطية. ويرسل مسح ضوئي بسيط بهاتفك عبر رمز الاستجابة السريعة للشخص مبلغاً صغيراً من المال.
قد تؤدي برامج كهذه إلى ازدياد أعداد المتبرعين، ولكن قد تكون هناك وصمةٌ أيضاً مرتبطة باسترداد القلادات. وإذا كان لنا في التاريخ عبرة، فلن يُنظَر في آثار هذه التغيُّرات التكنولوجية على أضعف الناس في المجتمع حتى تصبح حقيقة.