يمكن أن تصبح مشهوراً على يوتيوب خلال فترة وجيزة، عندها ستحقق حلم الشهرة والمال وتصبح من نجوم المجتمع، لكنك ستفقد كثيراً من سيطرتك على نفسك وستبدو أقرب إلى عبدٍ لهذا السيد الجديد.
فقد بات العديد من نجوم يوتيوب يشعرون بالتوتر والوحدة والإجهاد، بحسب تقريرٍ لصحيفة The Guardian البريطانية.
كثيرٌ منهم يعاني جراء دخوله هذا العالم. لكن ما الذي أوصلهم إلى هذه المرحلة؟ ولماذا لا يستطيعون الخروج منه؟ وهل هناك شيء يمنعهم؟.
فزت باليانصيب، ويا ليتني لم أفز!
عندما بدأ المدوّن مات ليس يعمل كمنتج في يوتيوب، شعر بالسعادة كأنه فاز باليانصيب.
فقد كان قبل ذلك كاتباً ومخرجاً ومقدماً شاباً وطموحاً، لديه القدرة على إنتاج أفلام بميزانية منخفضة، وذات تأثير كبير على المشاهدين في كافة أنحاء العالم، بشكل لم يكن من الممكن تحقيقه قبل سنوات قليلة، عندما كانت وسائل الإعلام تقليدية ويتم التحكم فيها بشكل مركزي.
في شباط/فبراير 2013، نجح مات ليس في تقديم أول فيديو حقق انتشاراً واسعاً، وقد تمثل حينها في نسخة تحاكي إعلان شركة سوني عن لعبة الفيديو Play Station 4، مع إضافة بعض التعليقات والانتقادات المرحة. وخلال أيام قليلة تمت مشاهدة الفيديو مليون مرة.
واليوم يقول ليس إنه فوجئ بحجم الانتشار في ذلك الوقت، حيث إنه بالمعايير السائدة حينها لم يكن يتوقع له هذا النجاح. ولكن رغم ذلك، فإن هذا المقطع كان من أكثر الفيديوهات مشاهدة على يوتيوب خلال ذلك الشهر.
لكن جرعة الثقة التي اكتسبها الشاب من خلال نجاح الفيديو لا يمكن مقارنتها بالتأثير الذي خلفه هذا المقطع على مسيرته المهنية، إذ إن خوارزميات العرض في منصة يوتيوب عندما تلاحظ هذا النوع من النجاح تقوم بتوجيه المشاهدين نحو بقية المقاطع التي قام نفس الشخص بتحميلها، وهو ما يؤمّن للقناة المزيد من المشتركين، إلى جانب المداخيل الإضافية بفضل المقاطع والنوافذ الدعائية التي تظهر عند مشاهدة الفيديو.
وهكذا بين ليلة وضحاها، حقق ليس مؤشرات تدل على أنه سيحقق مسيرة ناجحة في النشر على يوتيوب.
تلاشى الحماس وحلّ محله توتر وعمل بلا توقف!
فحتى في تلك الفترة من سنة 2013 كان ليس يدرك أن هذا النجاح مرتبط بالحظ والعديد من العوامل المتغيرة من يوم إلى آخر.
ويقول، "لم يكن كافياً أن تقوم بابتكار أشياء رائعة. فالمشاهدون ينتظرون منك نشر المقاطع بشكل منتظم ومتناسق، ودون هذا الأداء فإنه من السهل جداً أن يلفك النسيان وتفقد مكانتك لدى تلك الخوارزميات التي منحتك في البداية أجنحة للطيران".
وبنهاية ذلك العام تمكن من زيادة عدد المشتركين في قناته من ألف إلى 90 ألفاً، وتمكّن من شد انتباه واحد من أشهر الفكاهيين ومقدمي البرامج في بريطانيا، وهو شارلي بروكر، الذي دعا هذا الوجه الصاعد للتعاون معه في كتابة نصوص للقناة الرابعة البريطانية.
أصبح شاحباً وعصبياً، وانعكس ذلك على شعبيته على يوتيوب
ولشهر كامل كان ليس يعمل لمدة 20 ساعة في اليوم، حيث كان يقسّم وقته بين العمل في كتابة النصوص التلفزيونية، وإنتاج مقاطع الفيديو لقناته؛ لأنه كان يعلم أن التغيب ليوم واحد عنها سيجعله يتقهقر لمراتب متأخرة في ترتيب المقاطع الرائجة على يوتيوب.
وبنهاية ذلك الشهر، أصيب الرجل بالهزال وشحوب الوجه والإجهاد.
كما لاحظ على نفسه أنه أصبح أكثر تسرعاً وعصبية، لكن المفارقة هي أن هذا الأسلوب الغاضب الذي ظهر به على قناته على يوتيوب جعل المقاطع التي ينشرها أكثر شعبية وانتشاراً.
لأن يوتيوب يريدك.. الوصول إلى نقطة الانهيار!
ويعلق ليس على هذه الظاهرة بالقول، "إن المحتوى الذي يؤدي للإثارة والانقسام هو الملك على مواقع التواصل الاجتماعي اليوم، ويوتيوب يركز دائماً على دعم كل محتوى يجعل الناس يلتفون حوله.
"إنه أمر خطير جداً، فالنقطة التي تشعر فيها بالانهيار وتفقد السيطرة، هي بالضبط اللحظة التي تحوز فيها على اهتمام خوارزميات ترتيب المقاطع".
وبدأ المدون البريطاني يشعر بتأثير هذا النشاط على صحته، "إن دماغ الإنسان ليس مصمماً للتفاعل مع مئات الأشخاص كل يوم. وعندما يكون لديك الآلاف من المتابعين الذين يقدمون لك آراءهم وتقييماتهم لعملك، فإنك تشعر كما لو أن هناك جزءاً في دماغك سينفجر. نحن لسنا مخلوقين للتعامل مع هذا القدر من التعاطف والتفاعل الوجداني".
لكنه أصيب بهذا المرض
وبسبب هذه الضغوط أصيب بمشاكل في الغدة الدرقية، وبدأ يمر بفترات متتالية من الاكتئاب، "هكذا فإن هذا النشاط الذي بدأ كأكثر الأمور التي يمكن تخيلها متعة، تحول فجأة إلى شيء سوداوي يصيبني بالكآبة والوحدة".
ولسنوات، كان مشاهير يوتيوب يشعرون بأنهم معشوقون من قبل متابعيهم على هذه المنصة، عندما يرسمون لأنفسهم صوراً مبهجة ومستحبة.
لكن ما الذي يحدث عندما يسقط القناع؟ خلال هذا العام ظهرت سلسلة من مقاطع الفيديو التي نشرها مشاهير مدوّنون ناجحون، يتحدثون فيها عن إصابتهم بالإجهاد والإرهاق المزمن والاكتئاب.
تشعر بالتعاسة بعد أن حققت أقصى أمنياتها
إيلي ميلس، وهي مدونة كندية من أصول فلبينية عمرها 20 عاماً، كانت قد نشرت مقطع فيديو في أيار/مايو 2018 بعنوان "أصبتُ بإجهاد العمل وأنا في سن 19".
تقول ميلس، "لقد كنت أعتقد أن هذا العمل هو أقصى أمنياتي. لكن لماذا أشعر الآن بالتعاسة؟ هذا غير مفهوم بالنسبة لي. هل تعرفون ما أعنيه؟ لقد كان هذا الأمر بمثابة حلم بالنسبة لي، لكنني الآن لست سعيدة بالمرة".
وقد حازت ميلس على اهتمام واسع النطاق، حيث حصدت 3.6 مليون مشاهدة، إثر نشرها لمقطع فيديو صادم، لا تتجاوز مدته 5 دقائق، ظهر في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، وكشفت فيه عن مثليتها الجنسية أمام أصدقائها وعائلتها ومتابعيها الذين كان كثير منهم يسألها في التعليقات عن ميولها الجنسية.
وبعد هذا الانتشار، ظهرت إيلي على غلاف مجلة Diva، وفازت بجائزة شورتي عن هذا التصرف الجريء الذي أقدمت عليه.
والآن ها هي على حافة الانهيار
ولكن بعد 6 أشهر، نشرت إيلي مقطع الفيديو الذي تتحدث فيه حول تعرضها للإجهاد بسبب هذا العمل، وفسّرت فيه كيف أن طموحاتها كفتاة صغيرة تريد أن تحقق الشهرة على يوتيوب جعلتها تحصد أعداداً هائلة من المتابعين، ولكن ما حدث بعد ذلك كان مخالفاً لتوقعاتها، فقد أصبحت تشعر باستمرار بالتوتر العصبي، وساءت حالتها بسبب فترات الاكتئاب التي مرّت بها، وأصبحت على حافة الانهيار.
خلال نفس ذلك الشهر، كان روبن غوندرسون، الشهير بتسمية "إل روبيوس"، وهو إسباني يبلغ من العمر 28 سنة ويعد حالياً ثالث أكثر مدوني يوتيوب شهرة بأكثر من 30 مليون مشترك، قد تحدث حول شعوره بأنه يتجه نحو الانهيار، ولذلك اتخذ قراراً بالحصول على استراحة.
قرروا الغياب ليومين، فكانت الخسائر فادحة
ويعد هؤلاء نماذج من سلسلة طويلة من أشهر الوجوه في يوتيوب، من بينهم إيريك فيليبس، الذي يتابعه 4 ملايين مشترك، وبنجامين فستنغارد، الذي يحظى بحوالي 2.8 مليون مشترك، حيث أعلن كل هؤلاء عن تعليق كافة أنشطتهم على هذه المنصة، أو تحدثوا عن معاناتهم من الإجهاد والإحباط.
وترتبط هذه المشاكل النفسية بالطابع التنافسي والسريع لهذا العمل.
وأحد هؤلاء هو تايلور غليفنس، المعروف بتسمية "نينجا"، وهو يكسب حوالي 500 ألف دولار شهرياً، عن طريق تصوير نفسه وهو يمارس لعبة فورتنايت، وعرض نفسه بشكل مباشر عبر موقع "تويتش"، وهي منصة لعرض ألعاب الفيديو على شبكة الإنترنت بشكل مباشر، مملوكة لشركة آمازون.
وتأتي أغلب مداخيل غليفنس من التبرعات الفردية التي يقدمها له المتابعون (على أمل أن يشكرهم على ذلك بشكل مباشر على الهواء).
ولكن هذا الشاب توجّه مؤخراً إلى منصة تويتر، للتذمر من الحالة النفسية التي يعاني منها بسبب عجزه عن التوقف عن عرض نفسه بشكل مباشر على يوتيوب.
حيث قال، "تريدون أن تعلموا ما المعاناة التي يمر بها أمثالي، مقارنة ببقية المهن؟ ربما ليس من المفترض أن أتذمر في ظل المبالغ الفلكية التي أحصل عليها، ولكن خلال غيابي لأقل من 48 ساعة، خسرت أكثر من 40 ألف مشترك على منصة "تويتش". يجب عليّ أن أعود اليوم إلى العمل، وأواصل شد الانتباه".
"الآثار الجانبية" يوتيوب بدأت تنتشر.. وتزداد بازدياد الثراء
هذه الأسرار التي كشفها هذا المليونير لم تحظ بتعاطف كبير على تويتر. لكن الضغوط النفسية التي وصفها يشعر بها الجميع بمختلف درجات نجاحهم، من كبار المشاهير وملوك المحتوى الجذاب على يوتيوب، وحتى المدونين الصغار الذين لا يتجاوز عدد متابعيهم بضعة آلاف، حيث إن كلهم يشعرون برغبة ملحة في مواصلة خلق المحتوى الجديد دون توقف، وبأن يكونوا دائماً متفرغين للرد على التعليقات.
ويقول أوستن هوليغان، الذي يدير قناة "سوديكاست"، التي تحظى بحوالي 1.2 مليون مشترك "إن النشر بانتظام هو ما يجعل المتابعين أوفياء لك. وكلما حصلت على ولاء أكثر، زاد عدد المتابعين الذين يترددون على قناتك، وهذا يمنحك فرصة تحقيق الأمان المالي في هذا الفضاء المليء بالتقلبات والغرائب".
وعندما يتجاوز عدد المشتركين في قناة أحد المدونين حاجز المليون، يتم تتويج هذا الإنجاز من خلال لوحة ذهبية تمنح له.
والكثير من هذه اللوحات يمكن رؤيتها على الرفوف والجدران في خلفية غرف هؤلاء المقدمين.
وبهذه الطريقة، فإن نسب المشاهدة وعدد مرات التحميل تصبح هي المعايير الأساسية لتقييم المدون.
خوارزميات يوتيوب تحولت إلى كيانات واعية بذاتها!
ويتحدث المدونون المحترفون في يوتيوب بلكنة تتراوح بين الامتنان والامتعاض، حيال قوة الخوارزميات (يشعر مهندسو هذه الخوارزميات، والمدونون على يوتيوب بأنها تطورت لدرجة أنها أصبحت تقريباً كياناً واعياً قائماً بذاته).
وقد تم إنشاء هذه الخوارزميات على يد عباقرة وادي السيليكون في الولايات المتحدة، وهم يواصلون تطويرها وتعديل خصائصها بشكل متواصل، وهي تمثل برمجية التشفير الذي يحدد مصير كل مدوني يوتيوب.
فهذه الخوارزميات تحدد ما المقاطع التي ستظهر في المقدمة، من بين شلال هائل من المحتويات التي تتدفق على هذه المنصة في كل ساعة (400 ساعة من البث يتم نشرها في كل دقيقة بحسب بيانات جوجل) لتقديم المقاطع المميزة وجعلها على ذمة مليارات من المشاهدين.
وفي كل مرة تدخل فيها إلى منصة يوتيوب، تظهر لك مقاطع فيديو مرتبة على يد هذه الخوارزميات.
والفكرة هنا هي اختيار مقطع يناسب تماماً ذوقك واهتماماتك، حتى يدفعك لمتابعته وضغط زر الاشتراك، على أمل أن يجعلك هذا تعود مجدداً لمشاهدة كل جديد في اليوم التالي.
ويشعر المشاهدون بأن يوتيوب يفهم ما يريدونه، فيما تعرف الشركات التجارية أيضاً أن الومضات الدعائية التي ستظهر على مقاطع الفيديو ستصل بالضبط إلى الفئات المستهدفة.
وعندما يصبح دخلك مرتبطاً بعدد الأشخاص الذين يشاهدون مقاطع الفيديو في قناتك كل أسبوع، فإن هذه البرمجيات يمكن أن تحدد ما الذي ستأكله، أو ما إذا كنت ستأكل أم لا.
وبعد 13 عاماً من ظهور هذه المنصة، يعتقد الكثيرون أن يوتيوب بات جزءاً أساسياً من الأزمة العقلية والنفسية التي يعاني منها المدونون.
الأزمة وصلت إلى مستوى خطير: دماء على يوتيوب!
في نيسان/أبريل من هذا العام 2018، وقعت حادثة خطيرة، عكست مدى السوء الذي آلت إليه الأمور، عندما أقدمت نسيم نجفي أغدام، البالغة من العمر 38 عاماً، على اقتحام مقر شركة يوتيوب في كاليفورنيا، وأطلقت النار على الموظفين باستخدام مسدس من عيار 9 ملليمتر، لتسقط ثلاثة جرحى، قبل أن تقدم على الانتحار.
وكانت أغدام قد نشرت مقطع فيديو قبل الهجوم، تقول فيه إنها تعتقد أن خوارزميات الشركة قامت بتجاهل مقاطعها.
كما نشرت في آذار/مارس 2018، تصريحاً قالت فيه "كل قنوات يوتيوب التي أديرها تم إقصاؤها من قبل إدارة المنصة، والآن لم تعد مقاطعي تحظى بأية مشاهدات".
وتؤدي عملية تصنيف المحتويات بحسب هذه الخوارزميات إلى شعور مدوني يوتيوب بعدم الأمان، ودفعهم لمواصلة تصوير مقاطع الفيديو وهم يعلمون دائماً أن هنالك مدونين آخرين أصغر سناً وأكثر جاذبية مستعدين لأخذ أماكنهم.
لم تعد للمدونين حياة شخصية ويحتاجون علاجاً نفسياً
وبالنسبة للمدونين الذين يستخدمون حياتهم الخاصة كمادة لتصوير مقاطع الفيديو وعرضها على المشاهدين، فإنهم يتعرَّضون لضغوط إضافية لأنهم يتسبّبون في إزالة كل الحواجز بين حياتهم المهنية وحياتهم الخاصة.
وخلال احتفال أقيم على هامش مؤتمر لمدوّني يوتيوب مؤخراً، قال هوليغان مازحاً أثناء وقوفه مع مجموعة من زملائه "أعتقد أن كل شخص يمتهن النشر على يوتيوب يجب أن يحصل على علاج نفسي مجاني".
وقد ضحك جميع الحاضرين على هذه الكوميديا السوداء، التي عكست حالتهم المزرية.
فيما أضاف هوليغان: "بالمناسبة أنا أيضاً أتلقَّى العلاج وأتردد على عيادة طبيب نفسي".
كاثرين لو باحثة في مجتمعات الإنترنت في جامعة كاليفورنيا. وبالنسبة لها، فإنه ليس فقط الاضطرار لنشر المحتويات بشكل متناسق ومنتظم هو الذي يؤدي للشعور بالإجهاد، بل هنالك أيضاً طبيعة العمل اللازم للحفاظ على اهتمام المشاهدين، بما يتضمنه ذلك من النشاط المتواصل على الشبكات الاجتماعية، والتفاعل مع المعجبين، وبقية الأدوار المطلوبة إلى جانب الكتابة والتقديم وتحرير مقاطع الفيديو.
وتقول هذه الباحثة، "هذا النوع من العمل غالباً لا يتم التفطن إليه، إلا أنه متطلب جداً ويؤدي بشكل كبير للإصابة بالتوتر المهني. وفي العديد من الحالات، يمكن أن يسهم في الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة، خاصة عندما يتعرَّض هؤلاء المدونون إلى المضايقات والتهديدات التي تمسّ سلامتهم وحياتهم الشخصية، أو تقوض الشهرة التي حققوها في مجتمعهم".
وهذه أسباب مشكلاتهم العقلية
وقد جمعت كاثرين مؤخراً قائمة من الأسباب المهنية، التي تساهم في حدوث المشاكل العقلية والنفسية لدى صانعي مقاطع الفيديو. وتتضمن هذه القائمة حالة الاستنزاف البدني والذهني التي تنتج عن التمثيل والتظاهر بالانسجام مع المشاهدين لوقت طويل، إضافة إلى التوتر المصاحب لقراءة التعليقات، والمخاوف المالية المتعلقة بالتعامل مع الرعاة والتبرعات، والضغط الناجم عن السعي للحفاظ على السمعة والعلاقات المهنية في مجتمع يوتيوب، حيث تكون التوصيات والتنويهات هي أهم طريقة للحصول على متابعين.
أما القنوات الكبرى، التي تمتلك ميزانية تكفي لتوظيف طاقم عمل متكامل من أجل توزيع المهام والضغوط، فإن العاملين فيها هم أيضاً ليسوا بمعزل عن المخاطر الصحية. وقد التحقت بيليندا زولر بالفريق العامل في قناة إكسترا كريديت على يوتيوب في 2016.
وتنشر هذه القناة بشكل أسبوعي دروساً في تصميم ألعاب الفيديو وتاريخ العالم، بالاعتماد على رسوم متحركة جذابة. وتمتلك هذه القناة حوالي 1.6 مليون مشترك، وتعمل فيها زولر كمنسقة، مهمتها الرد على التعليقات.
وتعد مهمة التنسيق واحدة من أصعب الوظائف وأكثرها إنهاكاً في اقتصاد الإنترنت الحالي.
فرغم أن زولر لا تظهر أمام الكاميرا، فإن دورها يجعلها في خط النار، وهي أول من يتلقى الإساءات والتعليقات السلبية من أشخاص مجهولين.
وفي غضون أشهر قليلة أصيبت هذه الفتاة بالإجهاد، حيث تقول "هناك كمّ كبير من الجهد العاطفي الذي يتطلبه هذا العمل. أحاول التعاطف مع الأسباب الكامنة وراء مخاوف الناس وانتقاداتهم، حتى إذا كنت أعارض مواقفهم بشكل كامل".
والسؤال الأخطر: لماذا تتوسع الإساءات.. هل تشجعها يوتيوب؟
وتنظر زولر إلى منصة يوتيوب على أنها الفضاء المكتبي الذي تعمل فيه، وهذه النقلة في طبيعة عملها أحدثت تأثيراً سلبياً جداً على حالتها العقلية. ومهما كانت تستمتع بالعمل في فريق قناة يوتيوب، فإن المنصة بحد ذاتها غارقة في السلبية.
ويعد الإشراف على التعليقات والرد عليها، من أجل الحفاظ على مناخ نظيف وآمن على شبكة الإنترنت، مهمة شاقة تشبه إزالة الأعشاب الضارة من الحديقة.
ففي كل مرة يتم اقتلاع تعليق مسيء تظهر 3 تعليقات أخرى في نفس المكان. وتعتقد زولر أن القائمين على منصة يوتيوب ليسوا فقط متقاعسين عن حل مشكلة السلبية، بل إنهم يشجعون فعلياً على انتشار هذه الحالة، من خلال تصميمهم للخوارزميات.
وتوضح زولر هذا الأمر بالقول: "الناس لا يناقشون المواضيع إلا عندما تكون لهم آراء حادة حولها، وغالباً ما تكون هذه الآراء معارضة لما هو منشور وتصادمية. ولذلك فإن خوارزميات يوتيوب تفضل عرض الطُّعم أو الفخ الذي يدفع المستخدم للنقر عليه من أجل الاطلاع على المحتوى المثير للجدل، وبالتالي يتم تجاهل المحتوى الإيجابي والمحايد.
التحرش والمضايقات والتهديدات تلاحق الجميع!
وبالنسبة لكاثرين لو، فإن منصات التواصل الاجتماعي التي تعتمد على مقاطع الفيديو خذلت أولئك الذين يعتمدون على هذا النشاط كمصدر للعيش، حيث تقول: "لقد فشل يوتيوب في حماية منتجي مقاطع الفيديو، من المخاطر المتعددة التي تحيط بهم بسبب هذا النشاط، مثل التعرض للملاحقة والترصد والمضايقات والتحرش والتهديدات على الإنترنت، والكشف عن معلوماتهم الشخصية.
ويعمد القائمون على المنصة إلى التملص من المسؤولية، والادعاء ألّا علاقة لهم بحالة وظروف عيش ناشري مقاطع الفيديو والمتابعين لهم".
وقد ردّت المتحدثة باسم يوتيوب على تعليقات كاثرين لو بالقول: "إن المضايقات أمر مقيت وتصرف خاطئ. ويوتيوب لديه سياسة واضحة ضد التحرش والمضايقات، مثل ما تشير إليه قواعد الاستخدام المدونة في موقعنا. نحن نقوم بمراجعة المحتويات التي يتم التبليغ عنها بشكل سريع، ونقوم بحذف المقاطع غير الملائمة، بناء على السياسات التي وضعناها".
ومن أجل تجنُّب التعرض للإجهاد والضغط العصبي، شجَّعت هذه المتحدثة مدوني يوتيوب على أخذ استراحات، والتمتع بعطلات نهاية الأسبوع والسهرات الليلية والعطلات السنوية، تماماً مثل ما يفعل العاملون في وظائف أخرى.
وختمت هذه المتحدثة بالقول: "بالطبع نحن نأمل دائماً أن يتمكن مدونو يوتيوب من مناقشة مشاكلهم وصعوباتهم مع بقية متابعيهم على هذه المنصة".
الإخصائية النفسية التي تدعو لمواجهة الظاهرة كانت تعمل في عيد زواجها!
وفي إطار نشاط "أكاديمية المنتجين" – وهي مدرسة افتراضية ضخمة تقوم بتعليم كل شيء -، بداية من كيفية تعزيز فرص الظهور في عمليات البحث على يوتيوب، إلى كيفية التعامل مع العلامات التجارية، أنتجت إدارة يوتيوب مؤخراً سلسلة من مقاطع الفيديو لتعليم المنتجين كيفية تجنب إرهاق العمل.
مقطع الفيديو الذي يتحدث عن الإجهاد، تمت مشاهدته أكثر من 32 ألف مرة.
وقد كتبته وقدمته كاتي مورتن، البالغة من العمر 34 عاماً، وهي معالجة نفسية تعمل في لوس آنجلوس، كانت تنشر مقاطع الفيديو حول هذا الموضوع منذ 8 سنوات. وبفضل هذه الخبرة، فإنها مؤهلة بشكل جيد لتفهم حقيقة هذه المشكلة المتفاقمة، وتقدم الحلول الملائمة.
وفي العام 2010، عندما أطلقت قناتها، كانت مورتن تعمل كمعالجة نفسية تتبع طرقها وأساليبها الخاصة بها، ومثلت حينها منصة يوتيوب الطريقة المثلى للوصول لأكبر عدد من الناس، عبر إعطائهم النصائح والعلاجات التي كانت هي مؤمنة بجدواها.
وقبل 3 سنوات، مكّنها نجاحها على هذه المنصة من أن تتحول إلى مدونة بدوام كامل على يوتيوب، ولكنها رغم خبرتها وتخصصها واجهت صعوبة في إدارة الضغوط التي كانت تتعرض لها في هذا العمل.
تقول مورتن، "رغم أنني كنت أحذر الناس من هذه الآثار، فإنني لست أفضل حالاً منهم. لقد أصابني الإرهاق، والتوتر النفسي، بسبب كل ما يدور حولي. لقد خضت معاناة لأجد نفسي مضطرة لإخبار متابعي قناتي بأنني أحتاج لأخذ عطلة".
تلك العطلة التي امتدت لأسبوعين خلال فترة أعياد الميلاد، كانت أول استراحة تحصل عليها مورتن منذ شروعها في العمل بدوام كامل في العام 2015، "لم آخذ أي استراحة ولا حتى عطلة نهاية أسبوع، حتى خلال عيد زواجي خلال الصيف الماضي كنت بصدد العمل".
وفي كل مرة تنشر فيها مورتن مقطع فيديو، يتوجب عليها أن تتواجد في ركن التعليقات حتى تجيب على الأسئلة والمقترحات، قبل أن نشرع في إعداد المقطع التالي، "أواجه صعوبة في الفصل بين حياتي الخاصة وعملي، فأنا أشعر دائماً بالرغبة في التصوير وأفكر بأن الناس ينتظرونني".
طريقة الحساب أحد أسباب الضغوط عليهم.. هذا ما يتقاضونه
ومثل كل مدوّني يوتيوب، فإن مورتن تشعر بالضغوط المالية التي يسلطها عليهم نظام المكافآت، حيث إنهم يحصلون على مبلغ يتراوح بين 1.5 و3 جنيهات إسترلينية على كل 1000 مشاهدة.
لكنها تقول، "المشكلة أن هذه المكافآت على عملنا خاضعة للتغيرات في أي وقت. وعدد المشاهدات يمكن أن ينخفض بشكل حاد ومفاجئ لأي سبب، وعندما يحدث هذا فإنك تحصل على مداخيل أقل".
ولهذا فإن مورتن رغم جمعها لحوالي نصف مليون مشترك، تشعر بأنها لا يجب أن توظف أشخاصاً آخرين ليساعدوها في تقاسم الأعباء.
ولهذا السبب ترفض المعالِجة النفسية توظيف مساعدين لها
وتنصح إدارة يوتيوب جميع المنتجين الذين يواجهون صعوبات نفسية بالحصول على بعض الدعم.
ولكن مورتن ترفض هذا المقترح، وتؤكد أنه بالنسبة لأغلبية المنتجين من المستحيل تحمل نفقات توظيف أشخاص آخرين، "فلو أن لدي شخصاً يساعدني في العمل، فإن هذا الأمر سيخفف الأعباء عني، ولكنني أحتاج لمضاعفة عدد المشاهدات اليومية لقناتي قبل أن أقدم على دفع راتب لشخص آخر. إضافة إلى ذلك، من الصعب تخيّل كيف أنني سأقوم بطرد هذا الشخص لأن عدد المشاهدات انخفض؟ هذه ستكون تجربة مروعة".
يوتيوب وحده هو القادر على إنقاذ المدونين
وبالنسبة لهذه المدونة، فإن الحل لمعضلة الإجهاد والضغط النفسي يتمثل في إصلاح الخوارزميات، حيث تقول: "إن يوتيوب يكافئ المدونين الذين يحمّلون مقاطع فيديو بشكل يومي. هم مَن وضعوا هذه الخوارزميات، ولذلك يجب عليهم تغييرها.
إذا وضعوا معايير مختلفة فإن هذا سيساعدنا على أخذ قسط من الراحة من حين لآخر، نحن بشر ونحتاج لتخصيص وقت لأنفسنا".
أما مات ليس، فيشعر بالغضب لما يعتبره الطريقة الباهتة والشكلية التي تعتمدها يوتيوب لتقديم النصح والإرشاد.
حيث يقول، "إن تشجيع المدونين على أخذ استراحة هو أمر مثير للضحك، لأن النظام الذي فرضوه هو الذي يجعل الكم أهم من الكيف. ليس هنالك حس مسؤولية في هذه الثقافة التي صنعتها منصة يوتيوب".
وترى كاثرين لو أن القدرة على الحفاظ على التوازن بين حياة صحية وظروف عمل ملائمة من جهة، والنجاح وتحقيق الشهرة على منصة يوتيوب من جهة أخرى، هو حلم صعب المنال، "فالقائمين على هذه المنصة يجعلون العمل فيها متقلباً وغير مضمون. أما حلم الحصول على دخل ثابت ومحترم، فهو متاح فقط لنسبة ضئيلة جداً من هؤلاء المنتجين. كما أن محاولة خفض أعباء العمل وإيجاد توازن بين العمل والحياة الخاصة يضاعف من مخاطر تراجع المداخيل المالية".
هذه الفئة من المدونين الناجحين ستعاني قريباً!
هذه المتطلبات الشاقة التي تفرضها إدارة يوتيوب على المنتجين تناسب فقط الشبان، وهم يمثلون الشريحة الديمغرافية الأكبر على هذه المنصة. (كانوا في سنوات المراهقة يحلمون بأن يصبحوا نجوم موسيقى البوب، ثم لاحقاً تغير حلمهم نحو تحقيق الشهرة في يوتيوب).
وكثيرون من هؤلاء الشباب يتمكنون من مواصلة نشر مقاطع الفيديو بنسق مرتفع، ولكن هذا الأمر لا يستمر لأكثر من بضع سنوات.
حيث يقول ليس، "في هذه السن يمكنك القيام بهذا الأمر، فأنت تمتلك الطاقة والتركيز لمواصلة العمل لساعات طويلة، كما أنك لا تتحمل الكثير من المسؤوليات الحياتية التي قد تشتت انتباهك، وربما يكون العامل الأهم لنجاح الشباب هو أنهم في هذه المرحلة يمتلكون دائرة علاقات اجتماعية قوية، ولكن بعد التقدم في السن وتحقيق النجاح يصبح الحفاظ على هذه الصداقات أصعب. ولكن كل قصص نجاح هؤلاء الشباب في سن مبكرة، وصعودهم نحو النجومية والشهرة، أثبتت دائماً أنها تدفع بهم في مراحل حياتهم اللاحقة نحو المعاناة".
لهذا السبب، الصعود السريع ليس أمراً جيداً!
"في الماضي كانت الرحلة نحو تحقيق الشهرة تتطلب وقتاً أطول، يتم خلاله تعلم كيفية تحمل الضغوط وتطوير الشخصية، إلى جانب تكوين فريق من المستشارين والأصدقاء الموثوقين"، حسبما يقول كريس أوسوليفان، من مؤسسة الصحة العقلية، وهي منظمة خيرية بريطانية.
ولكن اليوم، يمكنك أن تتحول إلى نجم على شبكة الإنترنت بفضل مقطع فيديو واحد يحقق الانتشار، مهما كان عمرك أو مكانك. ولكن دون الدعم والمشورة، فإن هذا النجم معرض للاحتراق بسبب الشهرة المفاجئة".
ومع مرور الوقت وتزايد تعقيد الحياة، فإن الشعور بالعزلة والتوتر والإجهاد يتعمق لدى هؤلاء المشاهير.
يختم ليس، "لقد أمضيت فترة العشرينيات من عمري أعمل من دون انقطاع، وكنت أشعر بأنني شخص خارق وقادر على تجاوز كل شيء، ولكن بكل صراحة تغيّر شعوري بعد ذلك".