قد نشهد وجود ثلاث شبكات إنترنت قريباً؛ فنظم الإنترنت في الصين وأوروبا وأمريكا مختلفة للغاية، فلائحة الاتحاد الأوروبي غير الجدار الناري الصيني غير قواعد الإنترنت الأمريكية، والانقسام يزداد وربما نشهد انقسام الإنترنت الموحد لشبكتين أو ثلاث.
وتؤدي العلاقة الأمريكية الفاترة مع أوروبا وتزايد العداوة مع الصين إلى تشجيع الاتجاه نحو تقسيم الإنترنت، والعكس صحيح، مما يساعد على خلق حلقة من ردود الفعل. وإذا استمرت الأمور على هذا النحو، فقد يشهد العقد المقبل تراجع الإنترنت؛ ليصبح مجرد جبهة أخرى في جبهات الحرب الباردة الجديدة.
في سبتمبر/أيلول الماضي، قال الرئيس السابق لمؤسسة جوجل ورئيس مجلس إدارة مؤسسة Alphabet إريك شميت: أنه خلال 10 – 15 عاماً سوف تنقسم شبكة الإنترنت إلى شبكتين: إحداهما خاصة بالصين، والأخرى بالولايات المتحدة، وربما هناك المزيد، حسب صحيفة The New York Times الأميركية.
ولم يكن شميت، الذي تحدَّث خلال مناسبة خاصة تستضيفها إحدى الشركات الرأسمالية الاستثمارية، يبدو مقتنعاً بصورة جدية بإمكانية أن تظل شبكة الإنترنت عالمية. فهو صادق بشأن استبعاد تلك الإمكانية. ويتمثل الخطأ في تفكير شميت، إن وُجد، في أنه يستبعد وجود شبكة إنترنت أوروبية موحَّدة تتوافق مع كافة لوائح البرامج التكنولوجية المتقدمة لبلدان الاتحاد الأوروبي. وتشير كافة الأدلة إلى مستقبل يضم ثلاث شبكات للإنترنت.
الإنترنت الموحد يعزز الديمقراطية وتدفق المعلومات الحر
وكانت الحكمة السائدة من قبل تشير إلى أن شبكة الإنترنت الموحدة وغير المحدودة تعزز الديمقراطية من خلال التدفق الحر للمعلومات. ومع ذلك، لم تعد الأمور تبدو بهذه البساطة. وتستمر الرقابة المشددة التي تفرضها الصين على الإنترنت داخل حدودها في الحد من الحديث عن الديمقراطية، ويلعب نظام الرقابة الرقمية المتطور فيها بصفة دائمة دوراً رئيسياً في انتهاكات حقوق الإنسان، مثل اضطهاد مسلمي الأويغور. وقد شهدنا أيضاً الجانب المظلم للاتصالات بين الأفراد، كما يتضح من خلال التضليل على وسائل التواصل الاجتماعي والدور الكبير الذي لعبه فيما يتعلق بالعنف في ميانمار.
أوروبا والصين وأمريكا، ثلاث شبكات مختلفة
هناك الكثير من الاختلافات بين اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي ونظام الرقابة على الوسائل التكنولوجية في الصين، والذي يطلق عليه في كثير من الأحيان "الجدار الناري العظيم". ومع ذلك، تصدر المناطق الثلاث -أوروبا وأميركا والصين- مجموعات من القواعد واللوائح والقوانين التي تتعارض مع بعضها البعض. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الموقع الفعلي للبيانات أصبح مستقلاً بحسب المنطقة، حيث تقتصر البيانات على مراكز البيانات داخل حدود البلدان ذات القوانين التي تضفي الطابع المحلي على البيانات.
وتتصدع مسارات المعلومات بسهولة أكبر عندما يعتمد الكثير منها على البنية التحتية المملوكة للقطاع الخاص. فقد تسبب خطأ في خدمات موقع الأمازون في تعطل الخدمة عبر شبكة الإنترنت عام 2017، وأدت عاصفة أصابت أحد مراكز البيانات في ولاية فرجينيا الشمالية إلى حدوث أعطال مماثلة عام 2012. وكانت هذه الأعطال غير مقصودة. وكان لدى أمناء شركات الإنترنت القدرة على القيام بأمور تتجاوز ذلك. ولا يريد أحد بالطبع تعطيل شبكة الإنترنت تماماً فلن يحقق ذلك أي مكاسب لأحد. ومع ذلك، حينما تختار شركة واحدة ذات حصة هائلة في السوق أن تلتزم بقانونٍ ما -أو بمجرد اقتراح من جانب السلطات- ينتهي الأمر بفقدان جزء كبير من الإنترنت.
تقسيم شبكة الإنترنت
تدفعنا قوة عدد من المنصات والخدمات، إضافة إلى الحالة المحزنة للتعاون الدولي في أنحاء العالم، تدفعنا بصورة أكبر نحو تقسيم شبكة الإنترنت. وفي الوقت ذاته، فإن الشركات الأميركية التي كانت تروج للقيم الديمقراطية في الخارج هي الآن أكثر تحفّظاً تجاه اتخاذ أي موقف.
ففي عام 2010 ، أوقفت مؤسسة جوجل عملياتها في الصين بعد أن اتضح أن الحكومة الصينية كانت تقوم بعمليات قرصنة لحسابات الـGmail الخاصة بالمعارضين وفرض الرقابة عليها من خلال محرك البحث. وقال سيرغي برين، أحد مؤسسي جوجل في مقابلة مع صحيفة Der Spiegel الألمانية في ذلك الوقت: "عند مرحلة ما، يتعين عليك أن تتراجع وتعترض وتقول إن هذا يفوق حدود ما يلائمنا، وأن تتبنى هذا الموقف لأسباب أخلاقية".
ومع ذلك، تعمل مؤسسة جوجل بعد مرور ثماني سنوات على محرك بحثٍ لصالح الصين يعرف باسم Dragonfly. وسوف يكون انطلاق ذلك المحرك مشروطاً بموافقة المسؤولين الصينيين، وبالتالي، سوف يلتزم بمتطلبات الرقابة الصارمة. وقد وصفت مذكرة داخلية كتبها أحد مهندسي المشروع قدرات الرقابة التي يحظى بها المحرك، وذلك من خلال مطالبة المستخدمين بتسجيل الدخول ثم تتبّع تاريخ تصفحهم. وسوف يمكن الوصول إلى هذه البيانات من خلال شريك صيني غير معلوم، يفترض أن يكون الحكومة الصينية.
وتذكر مؤسسة جوجل أن جميع الخصائص تخمينية ولم يتم اتخاذ أي قرار بشأن إطلاق Dragonfly؛ ومع ذلك، يتعارض أحد النصوص المسربة من اجتماع انعقد داخل مؤسسة جوجل وحصل عليه موقع The Intercept الإخباري في وقت لاحق مع ذلك الأمر. وفي ذلك النص، نُقل عن بن جوميز، رئيس إدارة البحث في مؤسسة جوجل، قوله إن المؤسسة تأمل في أن يتم الإطلاق خلال ستة إلى تسعة شهور، رغم أن العلاقة غير المستقرة بين الولايات المتحدة والصين تجعل التنبؤ بالموعد أو بما إذا كانت الحكومة الصينية ستعطي إشارة الإطلاق أمراً صعباً. وقال السيد غوميز: "هناك فرق هائل بين الإطلاق وعدم الإطلاق. ولذلك ينبغي أن نتوخى الحذر حتى لا تفوتنا هذه الفرصة إذا ما سنحت".
كانت الرقابة على الإنترنت من السمات المميزة للحكومات القمعية، حيث كانت مصر وإيران والصين بمثابة أمثلة رئيسية. فقد أصبح من الواضح منذ ذلك الحين أن المراقبة الرقمية السرية لا تقتصر على القوى المناهضة للديمقراطية فقط، حيث أدت اعترافات سنودن عام 2013 إلى سقوط الولايات المتحدة من عليائها، وربما دفعت صناعة التكنولوجيا إلى عدم الاكتراث بحقوق الإنسان.
ومع ذلك، لا تتحسن علاقتها بالحكومة أيضاً حينما تتعرض الصناعة للحروب التجارية المستمرة التي تشنها إدارة ترامب. (خلال هذا الشهر، أدان نائب الرئيس مايك بنس DragonFly خلال كلمة مطولة ألقاها اتهم خلالها الصين بـ"العدوان الاقتصادي").
الحكومات تقوم بتقسيم الإنترنت والشركات لا تواجه ذلك!
ومع اهتمام الحكومات بتقسيم الإنترنت، لا تفعل الشركات الأميركية سوى القليل لمواجهة هذا التقسيم، بل تقوم بكل ما هو ضروري لتوسيع عملياتها. فإذا كان مستقبل الإنترنت يتمثل في حرب باردة ثلاثية الأطراف، فإن وادي السيليكون يريد أن يجني الأرباح في كل من هذه العوالم الثلاثة.
يتمثل جزء من الترشيد فيما إذا كانت الشركات الأميركية سوف تشارك في الأمر من عدمه. وسوف تقوم إحدى الشركات المحلية بفرض هذا النوع من الرقابة التي تتطلبها حكومتها. (وفي الواقع، إذا ما تم إطلاق جوجل في الصين، فإنه سوف يواجه معركة شرسة ضد محرك Baidu البحثي الصيني الذي تدعمه الحكومة).
ما سيجلبه المستقبل لأوروبا والولايات المتحدة غير واضح. فقد بدت كلمة غوميز التي تم تسريبها من داخل جوجل وكأنها بائسة في بعض الأحيان. فقد أخبر غوميز العاملين قائلاً: "إنه عالم لم يسبق أن عاش به أحدنا من قبل. لقد أقمنا مجموعة من عمليات الاختراق واحتفظنا بها". ويبدو أنه كان يشير إلى سيناريوهات لم يتصورها قطاع التكنولوجيا من قبل. فقد يختلف العالم تماماً منذ انتخاب دونالد ترمب. ومع ذلك، يصعب تصوّر أن ما يتم نشره في الصين سينتشر في أميركا. ورغم ذلك، فإن أفضل نسخة ممكنة من نسخ شبكة الإنترنت لها تبعات خطيرة -رغم أنها لا تزال غير مؤكدة- على مستقبل العالم. فما هي الأفكار التي سوف تصبح ملزمة لكل دولة؟ وماذا سيفعل العالم المنقسم تجاه انتشار الابتكار والتقدم العلمي؟ وكيف سوف تبدو حماية المستهلك وخصوصيته وأمنه مع انقسام وتشعب شبكة الإنترنت؟ وهل سيؤدي تقسيم الإنترنت إلى التعجيل بالعولمة أم سيحدث عكس ذلك؟
تؤدي العلاقة الأمريكية الفاترة مع أوروبا وتزايد العداوة مع الصين إلى تشجيع الاتجاه نحو تقسيم الإنترنت، والعكس صحيح، مما يساعد على خلق حلقة من ردود الفعل. وإذا استمرت الأمور على هذا النحو، فقد يشهد العقد المقبل تراجع الإنترنت؛ ليصبح مجرد جبهة أخرى في جبهات الحرب الباردة الجديدة.