سارت سيارتا مرسيدس فاخرتان على هذا الطريق الفرنسي الشهير بسرعة فائقة، ولحُسن الحظ لم يلاحظ السائقون الآخرون أنهما تسيران من دون سائق.
كان هذا قبل زمن بعيد من تصدُّر كبرى شركات التقنية العالمية مجال صناعة السيارات ذاتية القيادة، ففي عام 1986 أطلق إرنست ديكمانس أول سيارة ذاتية القيادة لتسير على طرق أوروبا، ولكن يبدو أن الكثيرين قد نسُوا سبقه، حسب تقرير لمجلة Politico الأميركية.
إنه الجنون بعينه حتى الأمر تطلب تدخل جماعات للضغط
سارت السيارتان الأنيقتان، اللتان تحملان لوحات ترخيص ألمانية، على طريق السيارة الفرنسي رقم 1، في ذلك اليوم المشمس من سنة 1994.
لكن ما حدث آنذاك، كان شيئاً قد يرفضه الكثيرون ببساطة؛ لأنه جنون.
حتى أن الأمر قد تطلَّب إجراء بعض الاتصالات الهاتفية من قبل جماعة الضغط للسيارات الألمانية، للحصول على موافقة السلطات الفرنسية بالعبور.
لقد كانتا سيارتي مرسيدس 500 SEL رماديتين، تسيران بسرعة تصل إلى 130 كيلومتراً في الساعة، وتتجاوزان الصفوف وتتفاعلان مع السيارات الأخرى، بشكل مستقل من خلال نظام كمبيوتر يتحكم في عجلة القيادة ودواسة الوقود والفرامل.
فقبل عقود من وصول شركة Google، وانضمام Tesla وUber إلى عالم أعمال السيارات ذاتية القيادة، قام فريق من المهندسين الألمان بقيادة العالِم إرنست ديكمانس، بتطوير سيارة يمكنها التنقل ضمن حركة سير المسافرين الفرنسية بمفردها.
لا تثقوا كثيراً بمسيرة التكنولوجيا.. "خطوة إلى الأمام و3 خطوات إلى الخلف"
إن قصة اختراع ديكمانس، وكيف باتت طيّ النسيان، هي صورة واضحة عن كيفية تقدم التكنولوجيا في بعض الأحيان، وذلك ليس عبر خطوات صغيرة ثابتة، وإنما في حالات الازدهار والكساد، حيث يكون التقدم غير متوقع والتراجع حتمياً.
وكما قال أحد الباحثين في الذكاء الاصطناعي: "خطوة إلى الأمام و3 خطوات إلى الوراء".
وفي الوقت ذاته، تمثل هذه القصة علامة تحذير حول التوقعات التي نضعها عن الذكاء الاصطناعي، وحدود بعض الأساليب المعتمدة على البيانات المستخدمة اليوم.
وحيال هذا الشأن، قال ديكمانس، البالغ من العمر 82 عاماً: "لقد توقفت عن إعطاء نصيحة عامة للباحثين الآخرين، ولكن يجب ألا يغيب عن نظر البشر النهج الذي كان ناجحاً للغاية في الماضي".
لقد عاد من السماوات إلى الشوارع
قبل أن يصبح الرجل "الذي اخترع السيارات ذاتية القيادة"، أمضى ديكمانس العقد الأول من حياته المهنية في تحليل المسارات التي تنتهجها السفن الفضائية عندما تدخل الغلاف الجوي للأرض مرة أخرى، حسب ما أفاد جيتندرا ماليك عالِم الكمبيوتر في Berkeley.
وبعد أن تلقى تدريباً كمهندس في مجال الطيران، سرعان ما ارتقى ديكمانس بين صفوف مجتمع الفضاء الجوي الطموح في ألمانيا الغربية آنذاك، حتى أنه خلال سنة 1975 حصل على منصب في جامعة أبحاث جديدة تابعة للقوات المسلحة الألمانية، ولم يتجاوز عمره حينها 40 عاماً.
عند هذه النقطة، بدأ ديكمانس بالفعل في التفكير فيما سيصبح قريباً مهمة حياته، وهو تعليم المَركبات "كيفية الرؤية".
وأصبح ديكمانس مقتنعاً بشكل متزايد، بأن أنسب مكان للبدء منه لم يكن سفن الفضاء وإنما السيارات. وفي غضون بضع سنوات، اشترى ديكمانس سيارة مرسيدس، ووضع عليها أجهزة كمبيوتر وكاميرات وأجهزة استشعار، وبدأ في إجراء اختبارات بمقر الجامعة سنة 1986.
خلال مقابلة أُجريت معه في منزل عائلته، الذي يقع على بعد خطوات من كنيسة ذات قبَّة بَصَلية الشكل في هوفولد، البلدة الصغيرة الواقعة خارج ميونيخ، ذكر ديكمانس: "إن زملاءه في الجامعة، قالوا حسناً، إنه غريب الأطوار، لكن لديه سجل حافل بالإنجازات في مجال تكنولوجيا الفضاء؛ لذا دعونا ندعه يفعل ذلك".
سنة 1986، أصبحت سيارة ديكمانس أول سيارة تقاد بشكل مستقل، على مسار اختبار السيارات بجامعته.
وفي السنة التالية، أرسلها إلى قسم فارغ من الطريق السريع البافاري الذي لم يتم افتتاحه حتى ذلك الوقت، لتنطلق فيه بسرعة تقترب من 90 كيلومتراً في الساعة. وبعد فترة وجيزة، اقترب ديكمانس من شركة Daimler الألمانية لصناعة السيارات (المالكة لمرسيدس)، وقد تمكنوا معاً من الحصول على التمويل من المشروع الأوروبي الشامل.
ثم طرحوا عليه فكرة سخيفة
وفي أوائل التسعينيات طرحت شركة مرسيدس فكرة بدت "سخيفة" للوهلة الأولى بالنسبة لديكمانس.
لقد تذكر ديكمانس ما كان يقوله له المسؤولون بالشركة: "ألا يمكنك أن تجهز إحدى سيارات الركاب الكبيرة التابعة لنا للعرض النهائي للمشروع، بباريس، في أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1994، ثم القيادة على الطريق السريع المؤلفة من 3 مسارات ضمن حركة المرور العامة؟".
قبل أن يجيبهم، كان عليه أن يأخذ نفَساً عميقاً، ثم يستدرك: "لكن بعد ذلك، أخبرتهم بأنه برفقة الفريق العامل معي، والطرق التي نستخدمها، أعتقد أننا قادرون على القيام بذلك".
وعززت Daimler الموارد المالية للمشروع. كما سارع أعضاء جماعات الضغط إلى تذليل الشكوك داخل الحكومة الفرنسية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1994، أخذ فريق ديكمانس مجموعة من الضيوف رفيعي المستوى من مطار شارل ديغول، ونقلهم إلى الطريق السريع المجاور وحوّل السيارتين إلى وضع القيادة الذاتية.
وكان هناك ذعر من وقوع خطأ
جلس مهندس في المقعد الأمامي لكل سيارة، واضعاً يديه على عجلة القيادة تحسباً لحدوث خطأ ما، ولكن السيارتين كانتا تقومان بالقيادة.
وقد قال رينهولد بهرنجر، أحد المهندسين الذين جلسوا بمقعد السائق أثناء العرض، ونبرة الإثارة تميّز صوته على الرغم من مرور 24 عاماً: "كنا في بعض الأحيان نرفع أيدينا عن عجلة القيادة".
نشرت الصحف في صفحاتها الأولى قصصاً عن هذا الاختبار.
ووصلت السيارة لسرعة 175 كلم ولكن المشروع توقف
وبعد مرور سنة على ذلك، قام فريق ديكمانس بإعادة تجربة هذه السيارة في رحلة أطول هذه المرة، حيث قطعت أكثر من 1700 كيلومتر على الطريق السريعة من بافاريا إلى الدنمارك، بسرعة فاقت 175 كيلومتراً في الساعة.
ولم يمض وقت طويل، حتى انتهى المشروع، فقد تبين أن التكنولوجيا التي اعتمدها ديكمانس لم تكن ناجحة، وهذا ما جعل شركة Daimler تفقد الاهتمام فيما يخص تمويل البحوث الأساسية اللازمة لتطوير المشروع، علماً أنه قبل فترة طويلة، كانت جهود ديكمانس الرائدة منسيَّة.والسبب كان حلول شتاء الذكاء الاصطناعي
كان تاريخ ظهور الذكاء الاصطناعي شبيهاً بالأجواء الربيعية الجميلة، التي أتبعها "شتاء الذكاء الاصطناعي"، وهو مصطلح يستخدمه الباحثون عندما يقل الاهتمام وتتوقف التمويلات.
بدأ ديكمانس مشروعه في القيادة الذاتية خلال الشتاء الأول وأنهاه بعد أن حل الشتاء الثاني.
في أواخر خمسينيات القرن الماضي، بدأت الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي وتكثفت الجهود المبذولة لجعل الآلات تقوم بمهام قد تتطلب قدرات ذهنية بشرية.
ثم جاء الربيع فتوقع البعض أن تقوم الآلات بوظيفة الإنسان في كافة المجالات
منذ الأيام الأولى، وتحديداً في فترة الستينيات، أحدث هذا المجال ضجة كبيرة؛ ما دفع بعض الباحثين الطموحين مثل الخبير الاقتصادي هيربرت سيمون إلى التنبؤ بأنه في غضون 20 سنة "ستكون الآلات قادرة على القيام بأي عمل يمكن أن يقوم به أي إنسان عادي".
بسبب هذه الوعود، ازدادت التمويلات بشكل لا يصدَّق، لكن التكنولوجيا المعتمدة فشلت في تحقيق الهدف المنشود؛ ما نتج عنه انفجار الفقاعة في منتصف السبعينيات. نتيجة لذلك، تراجعت التمويلات، ما أدى إلى إرسال أبحاث الذكاء الاصطناعي إلى الغرفة الخلفية للمختبرات.
ولكن مع عودة الشتاء اضطر ديكمانس للقيام بأبحاثه بشكل سري
كان الشتاء الأول لأبحاث الذكاء الاصطناعي، من بين أحد الأسباب التي جعلت ديكمانس يواصل العمل على تطوير تكنولوجيا الرؤية الآلية بشكل سري خلال السنوات الأولى، حيث كان يعلم في قرارة نفسه أن الناس كانوا يقولون: "إن هذا الرجل مجنون حقاً".
بحلول الوقت الذي أرسل فيه ديكمانس سيارته ذاتية القيادة إلى الاختبار على إحدى الطرق السريعة الفارغة في ألمانيا منتصف الثمانينيات، حل ربيع آخر في مجال الذكاء الاصطناعي.
لقد ساعدت هذه النظرية ديكمانس على تكوين فريق عمل، حيث كان يأمل بأن يصل عدد أعضائه إلى 20 شخصاً قبل اختبار السيارة في باريس سنة 1994. ولكن في أوائل التسعينيات، حل شتاء الذكاء الاصطناعي، وهذا كان سبباً في إحباط عزيمة ديكمانس.
وحيال هذا الشأن، قال برينجر، وهو أحد المهندسين الذين جلسوا خلف عجلة القيادة عند اختبار السيارة في باريس: "لقد كانت فكرة مثيرة للاهتمام، لكنها لم تتعد كونها مجرد فكرة مستقبلية بالنسبة للكثيرين".
مفارقة العلم: مصباح الإضاءة مصيره أفضل من الكونكورد
هناك نوعان من الاختراعات، حسبما يقول الخبراء التكنولوجيون.
اختراعات مثل مصباح الإضاءة الذي تم استخدامه والذي استمر في التطور منذ أن تم اختراعه لأول مرة، واختراعات مثل الطائرات الأسرع من الصوت، وأبرزها طائرة الكونكورد التي تتضمن عملية تكنولوجية ثورية لكنها متقدمة جداً حتى تنجح، على الأقل في الفترة التي اخترعت فيها.
ويبدو أن سيارات ديكمانس ذاتية القيادة تنتمي إلى الفئة الثانية.
ما يميز هذا العالم الألماني محاولته محاكاة العين البشرية
عندما بدأ ديكمانس تطوير سياراته في أوائل الثمانينيات، احتاجت أجهزة الكمبيوتر إلى 10 دقائق لتحليل الصورة. ولكي تسير السيارة بصفة آلية فإنها تحتاج إلى الاستجابة لكل ما يحيط بها.
وللقيام بذلك، توصل ديكمانس إلى إثبات أن أجهزة الكمبيوتر ستقوم بتحليل 10 صور على الأقل في غضون ثانية واحدة. وفي مواجهة ما قد بدا كأنه عقبة لا يمكن تخطيها، استمد ديكمانس الإلهام من علم التشريح البشري، حيث قرر أن السيارات يجب أن تكون مبرمجة لرؤية الشوارع مثلما يرى البشر كل ما يحيط بهم.
إن العين البشرية هي الوحيدة القادرة على رؤية بقعة صغيرة وسط مجالها البصري بدقة عالية، وعلى نحو مماثل، يعتقد ديكمانس أن السيارة يجب أن تركز فقط على كل ما له صلة بالقيادة، مثل علامات الطريق الأرضية. وقد ساعد هذا في خفض حجم البيانات المخزنة بأجهزة الكمبيوتر، التي ينبغي معالجتها.
وجد ديكمانس اختصارات حسابية أخرى، من بينها تقليص الفترة الزمنية التي تستغرقها السيارة لمعالجة المعلومات، وقد حدث ذلك عندما أدرك ديكمانس أنه لم يكن هناك حاجة إلى استهلاك طاقة معالجة كبيرة لحفظ كل صورة. كما قام ديكمانس ببرمجة السيارة لكي تتعلم من أخطائها وتتمكن من تحسين فهمها لكل ما يحيط بها بصفة تدريجية. وإجمالاً، كان ذلك كافياً لجعل السيارة بالكاد تسير على الطريق.
ولكن المشكلة أن القيادة على الطرق السريعة هي الأسهل بينما هناك تحديات أكبر
لقد بيّن أن القيادة على الطريق السريعة هي من أسهل المهام التي يمكن أن تؤديها السيارة ذاتية القيادة، حيث كانت الشروط واضحة جداً: يجب أن تكون على علم بتدفُّق حركة المرور في اتجاه واحد، كما يجب أن تكون الخطوط والعلامات الأرضية واضحة.
حتى ذلك الحين، لم تسر عملية الإثبات على أكمل وجه. وفي هذا الصدد، أفاد برينجر: "لقد كان مجرد اختبار، فعلى سبيل المثال، حين غطت إحدى السيارات التي تسير أمامنا علامات الطريق، وعندما كانت العلامات الأرضية ممحوَّة على الجانب الآخر من الطريق، واجهت السيارة مشكلة في ميزة تحديد المسار".
اللحظة المؤلمة: عندما أخبروه بطلبهم المحدود الأفق
بعد أن انقضى شتاء الذكاء الاصطناعي الثاني، وتبددت الضجة المحيطة باختبار باريس، تذكر ديكمانس أن شركة Daimler أخبرته بأنها تريد أن يكون لها منتج بالسوق في أقرب وقت ممكن.
وكان هذا دليلاً على أن شركة صناعة السيارات قد فقدت اهتمامها بأبحاثه الأساسية المكلفة، ومن غير المرجح أن تقوم بإنتاج أي تطبيقات فعلية خلال السنتين المقبلتين.
صرح يورغن شميدهوبر، وهو المدير المشارك لمعهد Dalle Molle لأبحاث الذكاء الاصطناعي في لوغانو بسويسرا: "أدركنا بعد فوات الأوان أن عدم استمرار هذه المشاريع كان خطأً فادحاً، ولو لم نقترفه لما كان هناك أدنى شك حول من سيكون رائداً في هذا المجال اليوم".
والآن العمالقة الأميركيون يلحقون بمرسيدس
تستمر الشركات الألمانية في امتلاك معظم براءات الاختراع بمجال التكنولوجيا ذاتية القيادة، تقريباً نصفها.
لكن الأطراف الجديدة، ومن بينهم عمالقة التكنولوجيا الأميركية مثل Alphabet's Waymo، كانوا يلحقون بالرَّكب.
ويصف الخبراء السباق الحالي في تكنولوجيا القيادة الذاتية بالمنافسة الشرسة، ويقول شميدهوبر حيال هذا الشأن: "من الممكن أن ألمانيا أثبتت دورها في الطليعة بشكل واضح؛ لكن الأبحاث لم تستمر في ذلك الوقت".
"لوبي السائقين": نبذوها لأنها تعارض منتجاتهم التقليدية
"شركات صناعة السيارات ربما تكون قد ابتعدت عن التكنولوجيا ذاتية القيادة؛ لأنها تعارض المنتجات التي تسوق لها، والتي تعزز فكرة وجود سائق مسؤول عن قيادة السيارة"، حسبما يرى شميدهوبر.
في أواخر التسعينيات، توجه ديكمانس إلى الخارج ووقَّع عقداً لمدة 4 سنوات مع مختبر أبحاث الجيش الأميركي. وقد أدى هذا التعاون إلى ظهور جيل آخر من السيارات ذاتية القيادة، التي كانت قادرة على التنقل على الأسطح الأكثر تعقيداً.
أثارت نتائج هذه الأبحاث، التي نُشرت في الوقت الذي تقاعد فيه ديكمانس، اهتمام وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية Darpa، التابعة لقسم التقنيات الناشئة في البنتاغون. كما ألهمت هذه المشاريع الوكالة لإطلاق سلسلة من "التحديات"، انطلاقاً من سنة 2004، حيث طلبت من المخترعين إرسال سياراتهم ذاتية القيادة للتسابق عبر الأقاليم.
ثم ظهر عبقري ألماني آخر وطوى النسيان ديكمانس
كانت أول مرة يسمع فيها عامة الناس عن القيادة الذاتية، بعد الترويج لتلك التحديات على نطاق واسع. وقد أسهمت تلك التحديات في صنع شهرة عالِم الحاسوب ألمانيِّ المولد، سيباستيان ثرون، في مجتمع الذكاء الاصطناعي.
وقد فاز ثرون بهذا التحدي سنة 2005 كأستاذ في جامعة ستانفورد، وفيما بعد أسس فريق جوجل للقيادة الذاتية.
أصبحت مجهودات إرنست ديكمانس طيّ النسيان. وفي سنة 2011، وبعد 17 سنة من عرض ديكمانس في باريس، نشرت صحيفة New York Times الأميركية على صفحتها الأولى قصة كاملة عن مجهودات ثرون لبناء نظام قيادة ذاتية للسيارات. لقد كان على الصحيفة آنذاك أن تصحح ما نشرته، وتوضح أن ما فعله ثرون هو مجرد تطوير فكرة "سيارة من دون سائق"، وأنه ليس أول من فكر في ذلك.
والسبب أن هنالك عداء لما هو قديم في هذا المجال
"كان هناك تراخٍ شديد في تسليط الضوء على ما تم إنجازه في الماضي، خاصة إذا ما تعلق الأمر بإبراز أهم العلماء في مجال التعلم الآلي"، حسب أحد الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي رفض ذكر اسمه.
وأضاف هذا الباحث أنه التقى مؤخراً عدداً كبيراً من الرواد الجدد في هذا المجال، وأكدوا أنهم لا يقبلون أي ورقة بحثية مضى عليها أكثر من 5 سنوات؛ لأنهم يعتبرونها "قديمة"، أو يقولون ببساطة إنهم لا يعرفون شيئاً عن الأبحاث التي أجريت خلال العقود السابقة.
ولكن هل يعود شتاء الذكاء الاصطناعي مجدداً؟
سنة 2018، ومع إحاطة الذكاء الاصطناعي بهالة دعائية جديدة، بقي السؤال المطروح: هل يحمل لنا الشتاء القادم شيئاً ضخماً؟ يعتقد البعض أن هناك احتمالاً يؤكد ذلك.
وتتمحور الأبحاث الحديثة في مجال الذكاء الاصطناعي حول ما يسمى "deep learning" أو التعلم المتعمق، الذي تعمل فيه الخوارزميات على التعلم من خلال التعرف على أنماط محددة.
في هذه الحالة، إن المبدأ الأساسي في عمل الذكاء الاصطناعي هو العثور على روابط بين عدد كبير من البيانات.
وفي أغلب التطبيقات، يعمل هذا المبدأ بصورة رائعة، لكنه يوصل الذكاء الاصطناعي أحياناً أخرى إلى طريق مسدود. وبما أن مبدأ "التعلم المتعمق" يعتمد بصفة أساسية على البيانات، فإن كفاءة الخوارزميات التي يستخدمها الذكاء الاصطناعي ستُقاس حسب جودة البيانات.
أموالهم ستبدد لأنهم يعتمدون على توقعات خيالية
إن الأموال الطائلة التي تُنفق على أبحاث الذكاء الاصطناعي، وخاصة في مجالي السيارات ذاتية القيادة والإنسان الآلي، تعتمد على توقعات خيالية أثيرت حول ما يمكن أن يفعله "التعلم المتعمق"، حسب عالِم الحاسوب في سان دييغو، فيليب بيينكنيفسكي، وكاتب مقال بعنوان "شتاء الذكاء الاصطناعي في طريقه".
ويضيف بيينكنيفسكي أن "هذا هو المكان الذي تصطدم فيه التوقعات بالحقيقة. سينزعج الكثير من الذين استثمروا أموالهم في هذا المجال عندما لا تتحقق تلك التوقعات".
أكدت الأستاذة في جامعة دلفت للتكنولوجيا، فرجينيا ديغنوم، أن كل الأبحاث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي تصب اهتمامها على "التعلم المتعمق"، و"سيصاب البعض بخيبة أمل عند نقطة معينة". وتعتقد ديغنوم أنه لا يجب النظر تحت أقدامنا؛ بل يجب ضخ الاستثمارات في مجالات أخرى تعتمد على كمية أقل من المعلومات، أو نماذج أخرى تعتمد على العلاقة السببية أكثر من اعتمادها على العلاقة المتبادلة للتعلم المتعمق.
على الرغم من أن هذا الرأي سائد بين الباحثين والمحللين، فإن ديغنوم لا تعتقد أن هناك "شتاء ذكاء اصطناعي" آخر قادماً عما قريب. فعكس الطفرات السابقة بهذا المجال، يسعى المطورون الآن إلى تطويع أحدث النماذج بالذكاء الاصطناعي في تطبيقات تجارية تُعنى بالحياة الطبيعية، وذلك بناء على التطورات التكنولوجية الحديثة بداية من سنة 2010، وخاصة في مجال طاقة الحوسبة وتخزين البيانات.
وهذه تكهنات ديكمانس بالنسبة للمستقبل
يختلف الوضع الحالي عن الأجيال السابقة، التي يقال إنها غالباً ما كانت تجري أبحاثاً من دون هدف واضح.
وبالنسبة للعالم إرنست ديكمانس، فإنه حسب الوقت الذي أجرى فيه تجربته، كان أمام البشرية عقود طويلة حتى تصبح السيارة ذاتية القيادة حقيقة ملموسة.
وما زال ديكمانس، الجالس في حديقته الشتوية، يعتقد فعلاً أن المركبات ذاتية القيادة أمامها عقد أو عقدان من الزمان حتى ترى النور.
فالسيارات الذاتية ستواجه مشكلة في هذا النوع من الطرق
تعتمد المركبات ذاتية القيادة التي يتم اختبارها حالياً على عملية مختلفة وأقل تكلفة حسابياً، حيث تحتاج إلى طاقة أقل في المعالجة بحاسوب السيارة.
وتساعد هذه العملية في الربط بين استخدام الخرائط ونظام التموضع العالمي GPS وقاعدة البيانات التي جُمّعت من عناصر سابقة. ويؤكد ديكمانس أن هذه العملية تعتمد على "الرؤية التأكيدية" بدلاً من "الرؤية الحقيقية".
أي إن هذه السيارات تسير بصورة جيدة في الطرق والمناطق التي لها خرائط شاملة وواضحة، ولكنها ستفشل داخل البيئات التي تفتقر إلى خرائط واضحة.
الغريب أن النظام الذي اخترعه العجوز الألماني قبل 30 عاماً يصلح لكل الطرق
يطلق ديكمانس على نظامه اسم "pathfinder vision"، وما زال هناك بعض المؤسسات العلمية التي تجري أبحاثاً عليه.
وفي الواقع، يسمح هذا النظام للسيارة ذاتية القيادة بالسير في أي مكان، حسب تقرير المجلة الأميركية.
ويوضح ديكمانس أنه "في وقت ما سيدرك الناس أنه لا يمكن للنظام الحالي العمل بصورة صحيحة بعد حدوث عاصفة قوية أو زلزال أو حتى بعد تدخلات عسكرية، إلى جانب إنشاء مناطق جديدة".
وهذا ما سيفعله لو عاد به الزمان
يتوقع ديكمانس أن الصناعة الحديثة ستدرك حدودها عند استخدام الطريقة الحالية في تصميم المركبات ذاتية القيادة.
وهو موقن في الوقت ذاته بأن أفكاره السابقة ستُحدث طفرة جديدة في هذا المجال.
وقال ديكمانس: "أنا سعيد لأنني كنت من رواد هذا المجال، ولكن في حال أردت أن أبدأ من جديد في حدود إمكانات التكنولوجيا المتاحة حالياً، فستكون تلك قصة مختلفة تماماً".
إقرأ أيضاً
بالفيديو: فولكس فاغن تكشف عن أول سيارة سباق كهربائية من إنتاجها