دفعت شركة "فيسبوك Facebook" هذا الأسبوع تكلفة سياساتها الخاطئة التي اتبعتها تجاه مسألة الخصوصية لسنوات، حيث انخفضت قيمتها السوقية بأكثر من 100 مليار دولار حتى نهاية يوم الخميس 26 يوليو/حزيران 2018، في أكبر عملية انخفاض في القيمة في يوم واحد في تاريخ "وول ستريت".
لعبت المخاوف من التكاليف المتزايدة لتشريعات الخصوصية والجدل الدائر حولها، إلى جانب انخفاض نسبة النمو في عدد المستخدمين وإجمالي الأرباح، دوراً رئيسياً في عمليات البيع الكبرى التي انطلقت في "وول ستريت" ليلة الأربعاء 25 يوليو/حزيران، بعد إعلان فيسبوك عن أرباحها السنوية، فشهد سهم الشركة انخفاضاً بمقدار 19% مع نهاية التعاملات الخميس، في أقل مستوى له فيما يقرب من 3 أشهر.
حدة هذا الإنخفاض تشير إلى أن المستثمرين يعيدون تقييم صلاحية الفكرة التجارية المركزية التي يقوم عليها فيسبوك، والتي تتلخص في جمع بيانات شاملة عن المستخدمين حتى يصير بالإمكان استهدافهم بالإعلانات الموجهة بشكل أفضل، وذلك في عالم تتزايد فيه الضغوط العامة لتطبيق سياسات حماية أفضل للخصوصية.
جيفري شيستر من مركز الديمقراطية الرقمية المناصر لقضايا الخصوصية، قال لصحيفة The Washington Post الأميركية، "هذه صيحة تحذير بشأن الخصوصية يوجهها السوق لمارك زوكربيرغ".
أصبحت المخاوف الممتدة بشأن الخصوصية والتي ترجع تقريباً إلى يوم ميلاد الشركة في سكن الطلاب بجامعة هارفارد في العام 2014، أكثر جدية في الأشهر الأخيرة، ربما أكثر من أي وقت مضى. في مايو/أيار 2018، فرض الاتحاد الأوروبي نظاماً تشريعياً جديداً، وفي نفس التوقيت وضع المسؤولون الأميركيون الشركة تحت منظار الفحص والتدقيق عبر تحقيق يضم عدد من الوكالات الفيدرالية يتعلق بتعامل الشركة مع فضحية البيانات الأخيرة التي شملت شركة الاستشارات السياسية Cambridge Analytica التي حصلت على بيانات 87 مليون شخص بطريقة غير لائقة.
يثير يوم فيسبوك السيء في "وول ستريت" تساؤلات حول مصير الشركات التكنولوجية الكبرى الأخرى مثل تويتر وجوجل، اللتان وعلى غرار فيسبوك تصارعان المخاوف المتزايدة بشأن الخصوصية والمطالبات البرلمانية بشن حرب أكثر شراسة ضد تدفق المعلومات المضللة على منصاتهم.
تويتر كانت شهدت انكماشاً حاداً بعد التقرير الذي نشرته The Washington Post قبل ثلاثة أسابيع والذي يفيد بأن الشركة أوقفت الحسابات المزيفة والمثيرة للشكوك بمعدل قياسي، وربما تشهد انخفاضاً حاداً في المعدل الشهري لمستخدمي منصتها.
لكن المحللين لاحظوا ارتفاعاً يوم الإثنين الماضي، في أسهم الشركة الأم لجوجل المسماة Alphabet بعد إعلانها عن أرباح كبيرة على الرغم من التشريعات الأوروبية والغرامة الأخيرة البالغة 5.1 مليار دولار عن خرقها للثقة، وهو ما يشير إلى أن المستثمرين لديهم مخاوف محددة تجاه فيسبوك وصراعها الأخير مع نوبة الفضائح التي تعرضت لها.
تعكر المزاج العام تجاه فيسبوك كذلك بدرجة ما في خضم الجدل الدائر حول الخصوصية والكشف عن دور المنصة في نشر المعلومات الروسية المضللة خلال انتخابات 2016 الرئاسية. انتشرت دعوات بحذف الشبكة الاجتماعية الزرقاء تحت وسم #DeleteFacebook على تويتر وأعلن بعض المشاهير عن توقفهم عن استخدامهم المكثف للشبكات الاجتماعية.
من ناحية التأثيرات المحسوسة على فيسبوك، أدى التشريع الأوروبي الجديد المسمى GDPR أو القانون العام لحماية البيانات، إلى انخفاض بمقدار 3 مليون مستخدم في تلك القارة، بحسب ما كشف عنه مسؤولو الشركة في إعلان الأرباح الأربعاء. قالت فيسبوك إن التغييرات ستستمر في الإضرار بالأرباح بسبب انسحاب الكثير من المستخدمين من خدمة الإعلانات الموجهة في الأشهر السابقة. قالت الشركة أيضاً إنها ستخسر مزيداً من الأموال بسبب تعرض شركائها المعلنين للضرر جراء قانون GDPR وبسبب التغيرات الأخرى المتوقعة بشأن سياسة الخصوصية.
لكن فيسبوك، وعلى غرار بعض الشركات التكنولوجية الأخرى، طبق سياسة حماية المستخدمين على مستوى العالم، مما يعني أن العواقب التي ستواجهها الشركة ستكون عالمية على الأرجح. قال المدير المالي للشركة ديفيد وينر في مؤتمر إعلان الأرباح يوم الأربعاء إن توقعاته للنمو المنخفض للأرباح "كانت خليطاً من المقاربة التي اتبعناها بشأن الخصوصية وقانون GDPR وما شابهه".
ولم تقتصر مشاكل الشركة على قضايا الخصوصية؛ حيث لاحت نذر المصاعب التي تواجهها الشركة لما يقرب من عامين منذ تبعات الإنتخابات الرئاسية لعام 2016، حين نفى رئيسها التنفيذي مارك زوكربيرغ، إمكانية تأثير التقارير الإخبارية المزيفة المنتشرة في المنصة على نتيجة التصويت. وصف الأمر بـ "الفكرة المجنونة للغاية" لكنه اعتذر لاحقاً عن هذا التعليق.
تبع ذلك عملية تصفية حسابات علنية كبيرة، وهي أمر نادر بالنسبة لشركة تكنولوجية رائدة. أقرت الشركة أخيراً بالتلاعب الروسي العدائي على منصتها واضطرت للإجابة على الأسئلة الموجهة بهذا الخصوص في الكونغرس. ثم أوردت تقارير إخبارية مفصلة في مارس/أذار 2018، كيف قامت شركة Cambridge Analytica بجمع بيانات مستخدمي فيسبوك لاستخدامها في حملة موجهة. وهو ما أطلق العنان لجولة أخرى من الاستجواب في الكونغرس، هذه المرة لمارك زوكربيرغ نفسه.
لكن فيسبوك امتلك دائماً المقدرة على خوض الجدل الخصوصية الدائر حول جمعه لبيانات المستخدمين. وقد أثبتت أسعار أسهمه مرونتها – بصرف النظر عن الانخفاض الذي حدث بعد فضيحة Cambridge Analytica – حتى حين حذرزوكربيرغ أن التعامل مع قضايا مثل الخصوصية والمعلومات المضللة على المنصة سوف تتضمن زيادة التكلفة على الشركة، مثل توظيف عشرات الآلاف من مراجعي المحتوى الجدد. إن هذا الانتصار المستمر الذي حققته الشركة على مدار ثلاث سنوات قد انقلب بشكل حاد مفاجئ بعد إعلان الشركة عن أرباحها الأربعاء، وبدا أنها تمثل العديد من المخاوف التي تراكمت لوقت طويل.
كبير موظفي الاستثمار في شركة جيه شتيرن وشركاه "J. Stern & Co" كريستوفر روزباش قال لصحيفة The Washington Post الأميركية، "يبدو أن تأثير خصوصية البيانات وقانون حماية البيانات العامة (GDPR) على أعمالهم كان أكبر مما قدره الكثيرون". يمنح قانون حماية البيانات العامة المستخدمين إشعارات أكثر تفصيلاً بشأن كيفية جمع بياناتهم واستخدامها، ويتطلب موافقات صريحة.
ربما يؤشر تقرير الإيرادات إلى مخاوف أوسع من أن الشركة التي نمت بمعدل جنوني على مدار أعوام سوف تشهد أخيراً تباطئ هذا النمو، وخاصة بين المستخدمين الأصغر سناً الذين يختارون بدائل أخرى للشبكات الاجتماعية مثل سناب شات وإنستغرام التي تمتلكها فيسبوك، بالإضافة إلى خدمة واتساب واسعة الانتشار عالمياً، لكن لم تمتلك أي منهما فعالية الشركة الأم في توليد الإيرادات من الإعلانات.
أصدرت شركة Morningstar المتخصصة في البحث الاستثماري وإدارة الاستثمار تحليلاً بعد ظهر يوم الثلاثاء، لاحظت فيه النمو البطئ وتخفض فيه من قيمتها المقدرة لأسهم فيسبوك. أوضح التقرير أن انخفاض هذا الأسبوع لم يكن فرصة شراء.
ومع ذلك، فإن قضايا الخصوصية وتوابع الفضائح الأخيرة هي التي سيطرت على التعليقات بشأن Facebook يوم الخميس، حيث حاول المستثمرون فهم الأزمة التي يعاني منها Facebook.
مسؤول الاستراتيجية الأول ورئيس قسم البحث التكنولوجي في شركة GBH Insights دانييل آيفز قال إنه "لو لم تكن واقعة كامبريدج آناليتيكا قد حدثت، لا أعتقد أن المخاوف كانت ستبدو بهذا الوضوح. فقد أثارت الواقعة مجموعة كاملة من المخاوف الخاصة بالثقة بالنسبة للمستخدمين والمعلنين والمشرعين. لقد صنعت هذه الفضيحة صورة أكثر قتامة للشركة".
وتحقق لجنة التجارة الفيدرالية فيما إذا كانت فيسبوك قد خالفت قرار التراضي الصادر في العام 2011 مع الهيئة التي تحكم ممارسات الخصوصية الخاصة بها عندما قامت بمشاركة البيانات مع شركة "كامبريدج آناليتيكا" وغيرها من الشركات. بينما تقوم كل من وزارة العدل وهيئة الأوراق المالية والتداولات بالتحري بشأن ما إذا كان وصف فيسبوك لعلاقته بـ "كامبريدج أناليتيكا" دقيقةً وفي الوقت المحدد.
الشركة قالت إنها تتعاون مع هذه التحقيقات، واصفةً Cambridge Analytica والعاملين لحسابها على أنهم يتصرفون بشكل غير ملائم فيما يتعلق بجمع البيانات الخاصة بمستخدميها.
وقد ألقت الأجواء السياسية الأوسع المحيطة بالشركة كذلك بظلالها القاتمة على هذا الجدل المثار، حيث يدعو كل من الجمهوريين والديمقراطيين إلى وضع تشريعات جديدة لصناعة التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية على وجه الخصوص.
المتحدثة باسم ائتلاف "التحرر من Facebook" سارة ميلر قالت "إن الأمر يستغرق بعض الوقت كي تبدأ الآراء في الاستقرار، وأعتقد أن التأثير الذي تراكم لأشهر عديدة منذ انتهاء الفضيحة يوضح أن هذا ليس أمراً يستطيعون إصلاحه بشكل جاد ــ وحدهم".
بدأ المحللون صباح الخميس في النقاش حول ما إذا كانت كبوة فيسبوك تشير إلى احتمالية حدوث ركود طويل المدى أم أنها مجرد عثرة، ومن ثم قد تكون فرصة لشراء أسهم قوية بالأساس قبل أن تستأنف الصعود ثانيةً.
وصف ريتشارد غرينفيلد من شركة BTIG الانخفاض في المستخدمين الناتج عن بقانون حماية البيانات العامة "بأنه خطوة واحدة نحو الخلف، وليست ريح معاكسة قوية" في إشارته أن بورصة "وول ستريت" قد بالغت في رد فعلها.
وكتب قائلاً، "شعرنا بضغط شديد أثناء مؤتمر فيسبوك فيما يتعلق بالربع الثاني من العام 2018 ويمكننا الإحساس بالخوف في أصوات المستثمرين بعد ذلك. لكن عندما جلسنا وتأملنا في سبب إيماننا بالشركة، لم تتغير المعتقدات الأساسية الخاصة بنظرية الاستثمار لدينا. … إن الهاتف المحمول يلتهم العالم وفيسبوك هو ركن أساسي في الاستفادة من هذا التحول".
المسألة الأكثر غموضاً هي ما إذا كانت الحركة باتجاه وضع تشريعات خصوصية أكثر صرامة قد وصلت ذروتها أم أنها لا زالت في طور البناء. ربما يعتمد مصير Facebook – وغيره من شركات التكنولوجيا – على إجابة هذا السؤال.