الأمن مُشدَّد في هذه المنشأة المبنية من الطوب الواقعة في الطرف الغربي من العاصمة الألمانية برلين، عليها لافتةٌ تحذيرية تقول: "كُلُّ من لا يحمل شارة قد يكون جاسوساً".
يمتد المبنى عبر خمسة طوابق ويضم مئات الموظَّفين من الرجال والنساء الذين يجلسون في صفوفٍ مكوَّنة من ستة أشخاصٍ يتطلعون في شاشات حواسيبهم. وجميعهم وقَّعوا على اتفاقيات عدم الإفصاح، مع وجود أربعة متخصصين في الصدمات النفسية تحت تصرُّفهم طوال الأسبوع.
هؤلاء الموظفون تابعون لشركة فيسبوك، ولديهم صلاحية تقرير أي المنشورات يندرج تحت حرية التعبير وأيُّها يُصنَّف ضمن خطاب الكراهية.
يعمل 1200 مشرف في أكبر مراكز الحذف لفيسبوك
يُعَد هذا المبنى واحداً من أكبر مراكز الحذف لدى شركة فيسبوك ويضم أكثر من 1200 مُشرف على المحتوى يُطهِّرون المحتوى من المنشورات التي تنتهك القانون أو المعايير المجتمعية للشركة مثل الدعاية الإرهابية والرموز وسوء معاملة الأطفال.
مع العلم أنَّ ألمانيا أصدرت قانوناً صارماً جديداً للحد من خطاب الكراهية على الإنترنت صار مختبراً لواحدةٍ من أكثر القضايا التي تواجه الحكومات في الوقت الحاضر إلحاحاً، ألا وهي التفكير في فرض رقابة تنظيمية على أكبر شبكةٍ للتواصل الاجتماعي في العالم وكيفية تحقيق ذلك.
وتواجه شركة فيسبوك وشبكات التواصل الاجتماعي انتقاداتٍ عنيفة بسبب فشلها في حماية الخصوصية ومنع حملات التضليل والحد من انتشار جماعات الكراهية عبر الإنترنت.
ضحايا الأخبار الكاذبة التي ينشرها فيسبوك
ففي الهند، تعرض سبعة أشخاص للضرب المبرح حتى الموت بعد انتشار رسالةٍ كاذبة على تطبيق واتساب التابع لشركة فيسبوك.
وفي ميانمار، كان أحد أسباب تأجَّج العنف ضد الروهينغا هو نشر معلومات مضللة على منصة فيسبوك.
وفي الولايات المتحدة، استدعى الكونغرس الأميركي مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك للإدلاء بشهادته حول عدم قدرة الشركة على حماية خصوصية مستخدميها.
وبينما يواجه العالم هذه القوى الصاعدة، برزت دول أوروبا -وألمانيا على وجه الخصوص- في دور المُنظِّم الفعلي لهذا المجال، ومارست نفوذاً يتجاوز حدودها.
وتراقب بعض الدول الأخرى عن كثب حملة ألمانيا القمعية الرقمية على خطاب الكراهية، التي بدأت في الأول من يناير/كانون الثاني. ويضطلع مسؤولون ألمان بدور رئيسي خلف واحدةٍ من أشرس الحملات في أوروبا لكبح جماح شركات التكنولوجيا، وتشديد قواعد خصوصية البيانات، ومن المنتظر أن يدخل القانون حيز التنفيذ في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي في 25 مايو/أيار، وسيساعد في إحداث تغييرات عالمية.
المحتوى غير القانوني يكلفهم 50 مليون يورو
قال غيرد بيلين سكرتير الدولة في وزارة العدل وحماية المستهلك الألمانية "بالنسبة لهذه الشركات، فالبيانات هي المادة الخام التي تجني من ورائها الأموال. ولكن بالنسبة لنا، فحماية البيانات حقٌ أساسي يدعم مؤسساتنا الديمقراطية".
إنَّ تاريخ ألمانيا المضطرب وضعها في خط المواجهة الأمامي في صراع الشد والجذب الحديث بين الديمقراطيات والمنصات الرقمية. إذ تلتزم الدولة التي يوصم تاريخها بالهولوكوست بالحد من خطاب الكراهية قدر التزامها بحرية التعبير.
بيد أنَّ المنشورات والصور ومقاطع الفيديو المحظورة ظلَّت منتشرةً بانتظام لفترةٍ طويلة على فيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى. والآن تواجه الشركات التي تفشل باستمرار في إزالة المحتوى "غير القانوني بوضوح" في غضون 24 ساعة غراماتٍ تصل إلى 50 مليون يورو.
وإن مركز الحذف بدأ اتخاذ إجراءات قبل بدء سريان القانون، إذ يفحص المشرفون على المحتوى -الذين عيَّنتهم إحدى شركات طرف ثالث ويُركزون على منشورات فيسبوك فقط- في المركز يومياً آلاف المنشورات التي يُبلغ المستخدمين عن أنَّها مُزعجة أو من المحتمل أن تكون غير قانونية، ويقررون إمَّا تجاهلها أو حذفها أو "تصعيدها" -في بعض الحالات الخاصة الشائكة- إلى فريق عالمي مكوَّن من محامين تابعين لشركة فيسبوك وخبراء في اللوائح التنظيمية الألمانية.
قرارات الحذف الصعبة والسهلة
وتعُد بعض قرارات الحذف سهلةً، لا سيما تلك التي تتحدث عن تنفيذ إبادة جماعية ضد جماعاتٍ معينة كاللاجئين.
بينما تبدو بعض القرارات الأخرى أقل سهولة، ففي عشية رأس السنة الحالية، وقبل يومٍ من سريان القانون الجديد، ردَّت نائبةٌ برلمانية يمينية متطرفة على تغريدةٍ كتبها حساب شرطة مدينة كولونيا الألمانية على تويتر لتهنئة المسلمين بالعام الجديد باللغة العربية مُتهِّمةً الشرطة باسترضاء "مجموعاتٍ من الرجال الهمجيين المسلمين المُغتصبين".
ووصل طلبٌ بحذف صورةٍ لمنشور النائبة الألمانية إلى نيلس الموظف البالغ من العمر 35 عاماً في مركز الحذف ببرلين.
فرأى نيلس عدم وجود ضرورةٍ لحذف المنشور، بينما كان رأي أحد زملائه عكس ذلك. وفي النهاية، أُرسِل المنشور إلى محامين في دبلن ولندن ووادي السيليكون وهامبورغ. وبحلول ظهيرة ذلك اليوم، كان المنشور قد حُذِف، ما أثار عاصفةً من الانتقادات حول القانون الجديد المعروف في ألمانيا بـ"قانون فيسبوك".
وقال نيلس الذي لم تسمح له شركة فيسبوك بذكر اسمه الثاني حفاظاً على سلامته: "الكثير من المنشورات يعج بكراهيةٍ واضحة، ولكن هناك منشورات تحمل بين طياتها كراهية غير واضحة".
وقد أثارت بعض الحالات المعقدة مخاوف من أن يتشجِّع التهديدات الواردة في القواعد الجديدة بفرض غراماتٍ شديدة ومنح مدة سماح تبلغ 24 ساعة فقط لاتخاذ القرارات "الإفراط في الحجب" من جانب الشركات، وهو نوع من الإجراءات الرقابية الوقائية بحذف بعض المنشورات التي تُعَد قانونيةً في الواقع.
إذ سارع حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني -الذي ينشر كمَّاً هائلاً من المنشورات المزعجة على منصات التواصل الاجتماعي- بإعلان أنَّ الإجراءات الجديدة "تقضي على حرية التعبير". بينما حذَّرت بعض منظمات حقوق الإنسان من أنَّ القانون يُلهِم الحكومات الاستبدادية لتطبيق قوانين مثله.
ويقول آخرون إنَّ القانون يمنح شركةً خاصة سلطةً أكبر من اللازم لتقرر ما الذي يندرج تحت وصف خطاب الكراهية غير القانوني في نظامٍ ديمقراطي، وقد استخدمت شركة فيسبوك التي تُفضِّل المبادئ التوجيهية الطوعية هذه الحجة لمعارضة القانون.
وقال إليوت شراغ نائب رئيس الاتصالات والسياسة العامة في شركة فيسبوك: "من المناسب تماماً أن تضع الحكومة الألمانية المعايير. لكنَّنا نعتقد أنه من السيئ أن تستعين الحكومة الألمانية بمصدرٍ خارجي لتحديد ما هو قانوني وما هو غير قانوني".
بينما ذكر ريتشارد ألان نائب رئيس شركة فيسبوك للسياسة العامة في أوروبا وقائد جهود الضغط التي تبذلها الشركة ضد القانون الألماني الرأي نفسه على نحوٍ أبسط قائلاً: "نحن لا نريد أن نكون حُكَّاماً لحرية التعبير".
وردَّ مسؤولون ألمان قائلين إنَّ منصات التواصل الاجتماعي تؤدي دور الحُكَّام على أية حال.
إذ قال بيلين الذي ساعد في تصميم القانون الجديد إنَّ الأمر كله يتلخَّص في سؤالٍ واحد: "من هو صاحب السيادة؟ البرلمان أم فيسبوك؟".
السؤال الأهم للحصول على وظيفة هنا "هل تعرف ما ستراه هنا"
حين تقدَّم نيلس بطلبٍ للحصول على وظيفة في مركز الحذف، كان السؤال الأول الذي وجَّهه له مسؤول التوظيف: "هل تعرف ما ستراه هنا؟".
وبالفعل رأى نيلس كل البشاعات الممكنة في أثناء العمل، سواءٌ تعذيب أطفال أو انتزاع أجزاء من أجساد الآخرين أو حالات انتحار بل وجرائم قتل، حتى أنَّه رأى في إحدى المرات مقطع فيديو لرجلٍ ينتزع قلباً من إنسانٍ آخر على قيد الحياة، فضلاً عن منشورات الكراهية.
وقال نيلس: "ترى بشاعة العالم كُلَّها هنا، فالجميع يعادون بعضهم البعض ويشتكون من بعضهم البعض، ويقولون الأشياء الفظيعة نفسها".
ويأخذ نيلس القضية على محمل شخصي للغاية، إذ قال إنَّه يفعل ذلك من أجل ابنته البالغة من العمر 4 سنوات.
جديرٌ بالذكر أنَّ شركة أرفاتو الألمانية للخدمات المملوكة لمجموعة شركات بيرتلسمان هي التي تُشغِّل المركز. ويمتلك موظفو المركز صلاحياتٍ واسعة ويراجعون المحتوى المنشور من ست دول. ويجب على الموظفين الذين يُركِّزون على المحتوى المنشور من ألمانيا أن يكونوا على درايةٍ بالمعايير المجتمعية لشركة فيسبوك، وأساسيات خطاب الكراهية وقانون السب والقذف في ألمانيا.
وقال كارتسين كونيغ الذي يدير الشراكة بين شركتي أرفاتو وفيسبوك: "ينبغي أن تكون قرارت الموظفين بشأن المنشور نفسه موحَّدة".
يُذكَر أنَّ المركز افتُتِح في عام 2015 تزامناً مع فتح ألمانيا أبوابها أمام مئات الآلاف من المهاجرين، وكان يضم 200 موظف آنذاك.
لاجئ سوري وقضيته ضد منشورات فيسبوك الكاذبة
وفي العام نفسه، لاقت إحدى صور السيلفي انتشاراً كبيراً. إذ التقط اللاجئ السوري أنس المدماني صورةً مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ونشر الصورة على موقع فيسبوك. وسرعان ما صارت الصورة آنذاك رمزاً لقرار ميركل باستقبال مئات الآلاف من المهاجرين.
لكنَّها سرعان ما أصبحت رمزاً كذلك لردود الفعل العنيفة على القرار.
إذ ظهرت الصورة في تقارير كاذبة تربط بين المدماني والهجمات الإرهابية التي وقعت في مدينة بروكسل البلجيكية وأحد أسواق عيد الميلاد في برلين. ورفع المدماني دعوى قضائية ضد شركة فيسبوك لوقف مشاركة هذه المنشورات الكاذبة، لكنَّه خسرها في نهاية المطاف.
وكان وصول نحو 1.4 مليون مهاجر إلى ألمانيا اختباراً لقدرة البلاد على مواصلة السيطرة بإحكام على خطاب الكراهية. فصحيحٌ أنَّ القانون المعني بالخطاب غير القانوني كان قائماً منذ زمنٍ بعيد، لكنَّ تطبيقه في المجال الرقمي كان عشوائياً قبل القانون الجديد.
إذ ظلَّت المنشورات التي تنعت اللاجئين بالمغتصبين والبدائيين والحثالة مستمرةً على مرِّ أسابيع وفقاً لمنظمة jugendschutz.net المعنية بالأمان على الإنترنت التي تتلقى تمويلات علنية. ولم يُحذَف الكثير من هذه المنشورات، وقال باحثون من المنظمة المذكورة إنَّ خطاب الكراهية الملحوظ تضاعف ثلاث مرات في النصف الثاني من عام 2015.
لذا شعر بيلين سكرتير الدولة المسؤول عن القانون الجديد بالخطر آنذاك. وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، اجتمع مع مسؤولين تنفيذيين من شركة فيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى في وزارة العدل التي كان مقرها في الماضي مركزاً للدعاية الحكومية لألمانيا الشرقية الشيوعية. وشُكِّل فريق عمل لمكافحة خطاب الكراهية.
وبعد ذلك بشهرين، وقَّعت شركة فيسبوك وشركاتٌ أخرى على إعلانٍ مشترك تعهَّدت فيه بـ"فحص المحتوى المُبلَّغ عنه وحظر أغلبية المنشورات غير القانونية أو حذفها في غضون 24 ساعة".
لم يحذفوا سوى 46% من المنشورات
لكنَّ المشكلة لم تختف؛ فعلى مرِّ الأشهر الـ15 التالية، استعانت الحكومة الألمانية بباحثين مستقلين تظاهرا مرتين بأنَّهما مستخدمين عاديين وأبلغا عن خطابٍ غير قانوني يدعو إلى الكراهية.
وفي أثناء الاختبارات التي أجرياها على رد فعل شركة فيسبوك، وجدا أنَّها حذفت 46% فقط من المنشورات التي أبلغا عنها في المرة الأولى، ولم تحذف إلا 39% من المنشورات في المرة الثانية.
وقال بيلين، وهو موظف حكومي ذو وجهٍ لا يُظهِر أي تعبيرات ويرتدي نظارة بإطارٍ أسود: "كان مسؤولو الشركة يعرفون أنَّها منصةٌ للسلوك الإجرامي والتحريض على ارتكاب أعمال إجرامية، لكنَّهم كانوا يتظاهرون أمامنا بالبراءة".
وبحلول شهر مارس/آذار من عام 2017، كانت الحكومة الألمانية قد فقدت صبرها وبدأت في صياغة القانون. وبالفعل، وُلِد قانون الشبكات الجديد الذي أدرج 21 نوعاً من المحتوى تحت بند "المحتوى غير القانوني بوضوح"، وطالَب منصات التواصل الاجتماعي بسرعة التصرُّف.
وقال مسؤولون إنَّ المؤشرات المبكرة تشير إلى أن قواعد القانون حقَّقت الغرض منها. إذ ارتفع أداء موقع فيسبوك في إزالة خطاب الكراهية غير القانوني في ألمانيا إلى 100% في العام الماضي، وفقاً لآخر مراجعةٍ أجراها الاتحاد الأوروبي على عينةٍ عشوائية.
ويُلزِم القانون المنصات بنشر تقارير نصف سنوية عن جهودها، ومن المتوَّقع أن يصدر التقرير الأول في يوليو/تموز المقبل.
واعترف ألان من مكتبه في فرع شركة فيسبوك ببرلين بأنَّ الشركة لم تكن تتصرف بحسمٍ كاف في البداية في ظل الاتفاق الطوعي الذي كان معمولاً به.
إذ قال: "كانت الجهود قليلةً جداً وبطيئة للغاية، لكنَّ الوضع تغيَّر".
واستشهد بتقريرٍ مستقل آخر صادر عن المفوضية الأوروبية في الصيف الماضي أظهر أن منصة فيسبوك كانت تُزيل 80% من منشورات خطاب الكراهية في ألمانيا.
وقال إنَّ سبب التحسُّن لم يكن القانون الألماني بل ميثاق قواعد طوعية اتفقت عليه الشركة مع الاتحاد الأوروبي، مضيفاً أنَّ نتائج شركة فيسبوك تحسَّنت في جميع البلدان الأوروبية وليس ألمانيا فقط.
وقال: "لم تكن هناك حاجةٌ إلى القانون".
لكنَّ بيلين لا يوافقه الرأي؛ إذ قال: "كان بإمكان هذه المنصات منع القانون. فموقع يوتيوب حصل على 90% في اختبار المراقبة العام الماضي 2017، وإذا كانت المنصات الأخرى قد فعلت الشيء نفسه، لما احتجنا إلى سنِّ القانون".
كان نهج ألمانيا المتشدد تجاه خطاب الكراهية وخصوصية البيانات يجعلها دولةً ناشزاً في أوروبا، لكنَّ الموقف الألماني صار الآن اتجاهاً سائداً، ويُمكن ملاحظة هذا التطوُّر في ما فعلته فيرا يوروفا المفوِّضة الأوروبية للعدل.
إذ حذفت فيرا حسابها على موقع فيسبوك في عام 2015 لأنَّها لم تعد قادرةً على تحمُّل الكراهية.
وقالت عن هذه الخطوة: "جعلتني أشعر بشعورٍ جيد. شعرت وكأنني استعدت السيطرة".
لكنَّ فيرا التي نشأت خلف الستار الحديدي في المنطقة التي تُعرَف الآن بجمهورية التشيك لطالما كانت متشككةً حيال احتمالية أن تضع أي حكومة قوانين متعلقة بحرية التعبير تتضمن كراهية الخطاب. جديرٌ بالذكر أنَّ والدها فقد وظيفته بعدما أدلى بتصريحٍ مُهين عن الغزو السوفيتي في عام 1968، ما حرمها من الذهاب إلى الجامعة حتى تزوجت وحملت اسم زوجها.
وقالت فيرا: "عشت نصف حياتي في مناخٍ تُحرِّكه الدعاية السوفيتية. وكان المبدأ الذهبي آنذاك: إذ كرَّرت الكذبة مئة مرة، ستصبح حقيقة".
وحين بدأت ألمانيا التفكير في سنِّ قانون، كانت فيرا تُفضِّل وضع ميثاق قواعد سلوكية طوعية بدلاً من إصدار قانون. وفي عام 2016، وَعَدت بعض منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك المستخدمين الأوروبيين بتوفير أدوات تُسهِّل عليهم الإبلاغ عن المنشورات، والتزمت بإزالة معظم المنشورات غير القانونية التي أبلغ المستخدمون عنها في غضون 24 ساعة.
وقالت فيرا إنَّ هذا النهج كان ناجحاً بدرجةٍ كافية، مضيفةً أنَّه كان أسرع طريقة للتصرُّف لأنَّ الدول الـ28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اختلفت كثيراً حول إصدار قانون وكيفية إصداره.
لكنَّ موقف العديد من الحكومات تجاه شركة فيسبوك أصبح أشد بعدما اتضح أن شركة Cambridge Analytica الاستشارية حصلت على البيانات الشخصية لنحو 87 مليون مستخدم من مستخدمي فيسبوك. وطلب بعض نواب البرلمان الأوروبي من زوكربيرغ الحضور إلى بروكسل "لتوضيح بعض المسائل المتعلقة باستخدام البيانات الشخصية"، وقد وافق على الحضور في أقرب وقتٍ ممكن في الأسبوع القادم.
وصار موقف فيرا التي تتمثَّل وظيفتها في حماية بيانات أكثر من 500 مليون أوروبي تجاه الشركة أشد كذلك.
إذ قالت: "يعتمد نظامنا الحالي على الثقة، وما حدث لا يُعزز الثقة. السؤال الآن هو كيف سنستمر؟".
وتدرس المفوضية الأوروبية إصدار قانون على غرار القانون الألماني للمحتوى المنشور على الإنترنت المتعلق بالإرهاب والتطرف العنيف والمواد الجنسية التي يظهر فيها أطفال، على أن يتضمَّن شرطاً بفرض غراماتٍ على المنصات التي لا تزيل المحتوى غير القانوني في غضون ساعةٍ من وقت إبلاغها عنه.
وبعثت عدة دول، من بينها فرنسا وإسرائيل وإيطاليا وكندا، باستفساراتٍ إلى الحكومة الألمانية عن تأثير قانون خطاب الكراهية الجديد.
ويبدو تأثير ألمانيا واضحاً كذلك في لائحة الخصوصية الجديدة في أوروبا، والمعروفة باسم اللائحة العامة لحماية البيانات أو G.D.P.R. وتتيح قواعد اللائحة للناس التحكُّم في كيفية جمع معلوماتهم واستخدامها.
جديرٌ بالذكر أنَّ اللائحة مستوحاة جزئياً من قوانين حماية البيانات الألمانية التي وُضِعَت في الثمانينيات من القرن العشرين، وشُكِّلت على أيدي شخصياتٍ ألمانية بارزة؛ إذ أنَّ ريناتي نيكولاي مديرةَ مكتبِ فيرا ألمانيةٌ، وكذلك نظيرها السابق مارتن سلماير الذي يشغل الآن منصب الأمين العام للمفوضية الأوروبية ألماني. فضلاً عن أنَّ النائب البرلماني المسؤول عن اللائحة في البرلمان الأوروبي ألمانيٌ أيضاً.
وقالت ريناتي: "بَنينا جهودنا على العُرف الألماني الذي يقول إنَّ حماية البيانات حقٌّ دستوري، وأنشأنا أحدث لائحةً في مجال الاقتصاد الرقمي".
وأضافت "لكي تنجح الشركات على المدى البعيد، تحتاج إلى ثقة العملاء. وفي الآونة الأخيرة بعد فضيحة Cambridge Analytica، صار من الواضح أنَّ حماية البيانات ليست مجرَّد فكرةٍ أوروبية غريبة بل قضية تنافسية".
في 26 مارس/آذار الماضي، أرسلت فيرا برسالةٍ -بريدية وليست إلكترونية- إلى شيرل ساندبيرغ رئيسة مسؤولي التشغيل في شركة فيسبوك.
وسألتها في الرسالة "هل هناك حاجةٌ إلى تطبيق لوائح أكثر صرامةٍ على منصات التواصل الاجتماعي مثل القواعد المُطبَّقة على وسائل الإعلام التقليدية؟".
وأضافت مشيرةً إلى حادثة Cambridge Analytica: "هل ستتأثَّر بيانات الأوروبيين بالفضيحة الحالية؟ وإذا كانت ستتأثر، فكيف تُخطِّطون لإعلام المستخدمين بهذا الأمر؟".
وطلبت فيرا الرد عليها في غضون أسبوعين، وبالفعل جاءها الرد؛ إذ قالت لها شيرل إنَّ بيانات نحو 2.7 مليون أوروبي تأثَّرت بهذه الحادثة، لكنَّها لم ترد على السؤال المتعلق باللوائح.
قالت فيرا التي تحاول حالياً إيجاد سُبُلٍ للقضاء على انتشار الأخبار الكاذبة وحملات التضليل: "هناك الآن شعورٌ بالإلحاح، وقناعةٌ بأننا نتعامل مع شيء خطر قد يُهدِّد تنمية الديمقراطيات الحرة".
وأضافت: "نريد من شركات التكنولوجيا العملاقة احترام قوانيننا والالتزام بها، نريد منها أن تُظهِر مسؤوليةً اجتماعية تجاه حماية البيانات وخطاب الكراهية".
وقال ألان إنَّ العديد من موظفي شركة فيسبوك يفعلون ذلك بالفعل.
وأضاف: "نوظِّف أشخاصاً يراعون حقوق غيرهم للغاية وذوي مبادئ. إنَّهم يعملون هنا لأنَّهم يريدون أن يجعلوا العالم مكاناً أفضل، ومن ثَمَّ، فحين تظهر أقاويل بأنَّ المنتج الذي يعملون عليه يُضرُّ غيرهم، يترك ذلك أثراً في نفوسهم".
وأضاف: "لقد شعروا بهذا النقد بشدةٍ في أعماق نفوسهم".
الموظفون يتعرضون لنوبات انهيار لما يشاهدونه
يعمل نيلس في وردياتٍ مدة الواحدة منها ثماني ساعات. وفي الأيام الحافلة بالعمل، يستقبل صفُّ الموظفين الذي يعمل به 1500 تقرير من المستخدمين.
بينما في أيام أخرى، لا يستقبل سوى 300 تقرير. وقال نيلس إنَّ بعض زملائه يُصابون بكوابيس حول ما يرونه في التقارير.
وأحياناً ما يُصاب أحد الموظفين بانهيار.
إذ تركت إحدى الموظفات الأمهات مكتبها مؤخراً وأجهشت في البكاء بعدما شاهدت مقطع فيديو لطفلةٍ تتعرَّض للاعتداء الجنسي، بينما شعر أحد الموظفين الشبان بإعياء جسدي بعدما شاهد مقطع فيديو لكلبٍ يتعرَّض للتعذيب. ويشاهد الموظفون مراهقين يشوِّهون أنفسهم، وفتياتٍ يسردن معاناتهن مع الاغتصاب.
ويحضر الموظفون جلساتٍ جماعية أسبوعية مع طبيبٍ نفسي، فضلاً عن وجود متخصصين في الصدمات النفسية على أهبة الاستعداد لمساعدتهم. وفي الحالات الأخطر، يستعين المركز بعياداتٍ في برلين.
ويحتوي المكتب المزيَّن بشعارات فيسبوك على فواكه طازجة تحت تصرُّف الموظفين في غرفةٍ صغيرة ذات جدارانٍ مُزيَّنة بألوان هادئة ونباتات زينة لتهدئة الأعصاب المشحونة.
ولتخفيف الضغط النفسي، أحياناً ما يتشارك الموظفون التقارير التي تصل إليهم مع بعضهم البعض، ليس لأنها مثيرة للجدل، ولكن "من أجل الضحك ليس إلا"، وفقاً لما ذكره موظفٌ آخر، وهو ابن لاجئ لبناني ويتحدث باللغة العربية يضطر إلى التعامل مع المحتوى المتعلق بالإرهاب عموماً، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على وجه التحديد.
وقال إنَّ صور "الأمراض الجلدية الغريبة" تؤثِّر فيها أكثر من صور قطع الرؤوس. بينما يرى نيلس أنَّ بعض الإصابات الرياضية مثل كسر العظام أكثر إزعاجاً من الأشياء الأخرى التي يطَّلع عليها.
يعتبرون عملهم مساعدة في تطهير المحتوى من الكراهية
تسود صداقةٌ حميمة وشعورٌ حقيقي بتأدية مهمة عظيمة بين الموظفين في المكتب؛ إذ قال نيلس إن الموظفين فخورون بـ"المساعدة في تطهير المحتوى من الكراهية".
لكنَّ تعريف الكراهية في المكتب يتطور باستمرار. إذ تُخبِر الإدارة الموظفين -الذين يخوضون دورةً تدريبية لمدة ثلاثة أسابيع في البداية- باستمرار بأحدث الإرشادات التي يجب عليهم الالتزام بها. وتُنقَّح هذه الإرشادات لتعكس ثقافة خطاب الكراهية؛ فالأحداث المتلاحقة السريعة تُغيِّر دلالة الكلمات، وينبغي أن تواكب الإرشادات التوجهات الجديدة على الإنترنت وتُلِمَّ بها.
وأوضح ألان هذه التغيُّرات قائلاً: "فالإهانات قد تُصبح مقبولة اجتماعياً".
جديرٌ بالذكر أنَّ كلمة "اللاجئين" أصبحت تشير إلى مجموعةٍ محمية من قواعد خطاب الكراهية الواسعة في عام 2015. بينما كانت الشرطة الألمانية تستخدم مصطلح Nafri للإشارة إلى الرجال المنتمين إلى شمال إفريقيا الذين يتحرشون جنسياً بمئات النساء ويعتدون عليهن ويغتصبنوهن في بعض الأحيان. ومنذ ذلك الحين، صارت كلمة Nafri شتيمة شائعة الاستخدام من جانب اليمينيين المتطرفين.
ويجب على نيلز وزملائه تحديد ما إذا كان محتوى الكراهية يميز مجموعةً عرقية محددة أو أفراداً بعينهم.
وكان هذا هو التحدي الذي واجههم حين اطَّلعوا على رسالةٍ نشرتها بياتريكس فون ستورش نائبة رئيس حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف على موقع تويتر ثم موقع فيسبوك.
إذ كتبت بياتريكس في 31 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي 2017: "سُحقاً، ما الذي يحدث في هذا البلد؟ لم يكتب أحد الحسابات الرسمية للشرطة تغريدةً باللغة العربية؟".
وأضافت: "هل تعتقدون أنَّ ذلك سيسترضي الرجال الهمجيين المسلمين المُغتصبين؟".
أبلغ أحد المستخدمين آنذاك عن هذا المنشور باعتباره انتهاكاً للقانون الألماني، ووصل التقرير إلى نيلس، الذي قرَّر في البداية تجاهل الطلب لأنَّه شَعَر بأنَّ بياتريكس كانت توجِّه إهاناتها إلى الرجال الذين اعتدوا جنسياً على نساء قبل ذلك بعامين.
ثم أبلغ مستخدمٌ آخر عن المنشور باعتباره انتهاكاً للمعايير المجتمعية، فرأى موظفٌ آخر أنَّ المنشور يجب أن يُحذَف لأنَّه شعر بأنَّ الإهانة موجَّهة إلى المسلمين عموماً.
فتشاور نيلس وزميله مع الخبير المختص الذي صعَّد الأمر إلى فريقٍ في العاصمة الأيرلندية دبلن.
وعلى مرِّ يومٍ كامل، ظلَّ محامون تابعون لفيسبوك من وادي السيليكون إلى مدينة هامبورغ مشغولين بالمنشور. وقرَّر فريق دبلن آنذاك أنَّ المنشور لا ينتهك المعايير المجتمعية، لكنَّه أرسله إلى محامين خارجيين عيَّنتهم شركة فيسبوك في ألمانيا لتقييمه من الناحية القانونية.
وفي غضون ساعاتٍ من الأخبار التي أفادت بأنَّ الشرطة الألمانية فتحت تحقيقاً جنائياً مع بياتريكس بخصوص تعليقاتها، حجب موقع فيسبوك هذا المنشور. وأُخطِر المستخدم الذي أبلغ عن المحتوى بأنَّ المنشور حُظِر بسبب مخالفة المادة رقم 130 من القانون الجنائي الألماني، والتحريض على الكراهية. وأُخطِرت بياتريكس بذلك أيضاً.
وفي أول بضعة أيام من العام الجاري التي أعقبت هذه الواقعة، بدا أنَّ منصات التواصل الاجتماعي تُفرِط في حذف المنشورات لتجنُّب غضب الرقابة. ففي يوم 2 يناير/كانون الثاني -أي بعد يومٍ واحد من حذف منشور بياتريكس- سخرت مجلة Titanic الساخرة من بياتريكس. ثم حذفت إدارة موقع تويتر منشورين نشرتهما المجلة لاحقاً للسخرية من بياتريكس. وحين نشرتهما المجلة مرةً أخرى، عُلِّق حسابها على الموقع مؤقتاً.
ومنذ ذلك الحين، هدأت الأمور. واعترف ألان بأنَّ "القانون لم يُغيِّر مقدار المحتوى الذي يُحذَف تغييراً كبيراً".