بتقنية تصوير الدماغ، وضع العلماء خريطة توضح توَزّعَ الكلمات ومعانيها في مناطق وأنحاء الدماغ المتعددة، فهل اقترب العلماء من قراءة أفكار البشر؟ وهل سيتم استخدام هذه التقنية في التجسس على عقول الناس خاصة في الدول التي لا تخلو من نظام قانوني صارم لحماية الخصوصيات كبعض دول العالم الثالث ومنها دول عربية.
وكأطلس الخرائط الملونة بألوانها الزاهية التي يرمز كل لون فيها إلى معلم ما على مفتاح الخريطة، ظهرت صورة قشرة الدماغ في هذا الأطلس ملونة بكل ألوان الطيف لتظهر أماكن توزّع مجموعات الكلمات والمفردات والمفاهيم التي ترمز لها في مناطق مختلفة من الدماغ مخزنةً في خلاياه البيضاء، حسب تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، الأربعاء 27 أبريل/نيسان 2016.
وعن الخريطة يقول جاك غالانت، أحد علماء الأعصاب بجامعة كاليفورنيا في بيركلي: "كان هدفنا بناء أطلس عملاق يظهر كيفية تمثيل أحد جوانب اللغة في الدماغ، ألا وهو جانب المعاني في هذه الحالة".
الحب
والكلمات ومدلولاتها من المفاهيم لا تُخزّن في منطقة واحدة من الدماغ فحسب، بل اتضح أن الكلمات المتعلقة ببعضها بعضاً تبني لها صلة بإحدى مناطق الدماغ، لكن كل كلمة على حدة "تضيء" أو تنشط وتحفز عدة مناطق أخرى في الدماغ، وبالتالي تنجم لدى التفكير بكل كلمة شبكة من العلاقات بين مناطق الدماغ المتعددة تشكل أو تمثل معاني هذه الكلمات.
فمثلاً يرتبط الحب بالحياة، والموت بالضرائب مثلاً، والغيوم ولباس البحر بولاية فلوريدا. لكل شخص شبكة معاني مختلفة تتعدد أشكالها.
والعمل بمثابة "مجهود جبار" وتحفة رائعة، حسبما وصفه عالمٌ لم يشارك في الدراسة، فالأطلس يبيّن كيف لتقنية التصوير الحديثة أن تغير لنا كل ما نعرفه عن وظائف الدماغ وتأديته لها، ومع التقدم التقني، فلابد أن أثر التكنولوجيا سيغير وجه الطب وغيره من المجالات.
ألكساندر هوث من أبرز القائمين على الدراسة، قال: "من الممكن لهذه التقنية استعمالها لفكّ تشفير معلومات كي نعرف ما يسمعه المرء أو يقرؤه أو حتى ما يفكر به". وبهذه الطريقة قد تنفع هذه التقنية في تمكين المصابين بداء "العصبون" الحركي أو الشلل الرباعي الذين لا يقدرون على النطق من التحدث إلينا عبر جهاز كمبيوتر يعتمد على هذا الأطلس لمراقبة أدمغتهم وما يجول فيها لدى سماعهم الكلمات.
كيف بنى العلماء خريطة الأطلس هذه؟
قام العلماء بتسجيل نشاط أدمغة البشر بينما كانوا يستمعون إلى قصص من برنامج على قناة راديو أميركية، ثم بعد ذلك عمد العلماء إلى مقارنة كلمات سيناريو القصص المكتوبة مع بيانات النشاط الدماغي المسجل لكل المشاركين، وذلك لمعرفة كيف تؤثر مجموعة كلمات مرتبطة ببعضها على الدماغ وكيف تحفزه على إطلاق رد فعل عصبي عبر مناطق قشرته الدماغية التي يتراوح عددها من 50 ألفاً إلى 80 ألف منطقة بحجم حبة البازلاء.
البرنامج الذي استمع إليه المشاركون في الدراسة على الراديو كان اسمه The Moth Radio Hour الذي يروي قصصاً قصيرة مؤثرة، وكلما كانت القصة مشوقة أدت ثقة العلماء بأن المستمعين قيد الدراسة يركزون على كلماتها دون شرود.
المشاركون البالغ عددهم 7 استلقوا داخل جهاز مسح دماغي واستمعوا لمدة ساعتين كاملتين لقصص البرنامج، أي ما يقرب مجموعه 25 ألف كلمة منها أكثر من 3000 كلمة مختلفة.
وقد رأى الأطباء ووضحوا في الأطلس كيف أن الكلمات المرتبطة ببعضها تنشط المناطق نفسها في الدماغ، فمثلاً في فصّ الدماغ الأيسر وفي المنطقة الواقعة فوق الأذن مباشرة تقع بقعة صغيرة جداً تمثل كلمة "ضحية"، وتجاوب تلك المنطقة مع كلمات "قتل" و"أدين" و"اعترف" و"جريمة".
أما في الفصّ الأيمن وبالقرب من أعلى الرأس نجد منطقة في القشرة تتحفز لدى سماع كلمات متعلقة بالعائلة، مثل: "زوجة"، "زوج"، "أطفال"، و"أبوين".
لكن كل كلمة من هذه الكلمات أيضاً ترتبط بأكثر من منطقة في القشرة الدماغية لأن لكل كلمة أكثر من معنى واحد. فمثلاً هناك جزء في الدماغ يستجيب بشكل واضح جداً لدى التفكير بكلمة "top" الإنكليزية (وتعني بلوزة) ولدى التفكير بكلمات أخرى متعلقة بالثياب. بيد أن كلمة "top" تحفز وتنشط مناطق أخرى في الدماغ كمناطق لها علاقة بالأرقام والقياس (حيث top تعني أكبر) ومناطق متعلقة بالمباني والأماكن (حيث top تعني أعلى).
موقع إلكتروني لاستكشاف الدماغ
وبناء عليه صمم فريق العلماء موقعاً تفاعلياً على الإنترنت يتيح للمشاهدين استكشاف مناطق الدماغ بأنفسهم عبر أطلس الدماغ.
ومما أثار انتباه العلماء أن خرائط أطلس أدمغة جميع المشاركين في الدراسة كانت منشابهة، ما يعني أن أدمغتهم رتبت معاني الكلمات بطريقة واحدة.
لكن الجدير بالذكر أن المشاركين كانوا 5 رجال وامرأتين جميعهم لغتهم الأم هي الإنكليزية، واثنان منهم مؤلفا الدراسة التي نشرت في مجلة Nature. ومن الممكن والوارد جداً أن تختلف خرائط أطلس الدماغ لمعاني الكلمات باختلاف البشر وخلفياتهم الثقافية واللغوية.
القتل
الآن باستخدام الأطلس سيتمكن العلماء من فهم أحجية الدماغ وارتباط شبكاته المتعددة التي يرمز كل منها لمفاهيم متناقضة تناقضاً صارخاً من الأرقام إلى الجريمة إلى الأسماك وحتى الدين. يقول غالانت: "إن فكرة القتل متمثلة كثيراً في الدماغ".
الآن يعكف العلماء على صنع خرائط أطلس أخرى لكن لتوضيح تقسيم جوانب أخرى من اللغة في الدماغ مثل الصوتيات وبُنى الجُمَل. لكن لعل أصعب الخرائط وأكثرها استعصاء على الوضع والترتيب هي تلك المتعلقة بالحبكة الروائية، إذ يقول عنها غالانت: "كلما توصلنا إلى مجموعة من القسمات والسمات الروائية نكتشف أنها ليست على صواب في ترتيبها وتقسيمها".
أما يوري هاسون، عالم الأعضاب من جامعة برنستون، فأثنى على العمل، حيث كشف فريق عمل غالانت كيف يعمل الدماغ ضمن سيناريو واقعي حقيقي (الاستماع إلى قصة)، وليس كما تفعل بقية الدراسات التي تدرس تأثير كل كلمة منفردة على حدة في معزل عن السياق الخطوة التالية.
التجسس
حسب رأي هاسون فإن هذا المجهود في نهاية المطاف سيمكّن العلماء من فك كنه الكلمات التي يفكر بها المرء من مجرد ملاحظة نشاط دماغه، وطبعاً تبرز هنا إشكاليات أخلاقية كثيرة كالتجسس على أفكار الناس.
ولكنه استدرك قائلاً: "ربما يمكن استخدام التقنية استخداماً حميداً نافعاً بمراقبة كفاءة الخطب السياسية في توصيل المعاني والرسائل للمستمعين وتقييم تلك الكفاءة.
ويقول هاسون: "إن الخيارات وما تنطوي عليه من إشكالات كثيرة جداً، ولم نبدأ بالإبحار والغوص فيها بعد إذ ما زلنا بالكاد نلامس السطح".
بيد أن لورين تايلر، عالمة الأعصاب الخبيرة بالإدراك رئيسة مركز النطق واللغة والدماغ في جامعة كامبردج البريطانية، رأت أن الأطلس الحالي لا يبرز تماماً الفروقات الطفيفة بين معاني الكلمات، فمثلاً كلمة table (طاولة) لها معانٍ في عدة مجموعات من الكلمات المرتبطة "فقد تكون شيئاً نأكل عليه، أو شيئاً مصنوعاً من الخشب، أو شيئاً ثقيلاً، أو شيئاً ذا 4 أرجل، أو جماداً غير حي، إلخ".
وقالت إن "هذه التفاصيل في المعاني التي تمنح الكلمات مرونة في الاستخدام ليس واضحة في الدراسة التحليلية. ورغم أن الدراسة أحدثت تغييراً ثورياً في آفاقها إلا أن هناك الكثير من الأمور التي ما زلنا نجهلها عن تمثيل المعاني في الدماغ".
– هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.