بعد سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع — آخر معاقل الجيش السوداني في دارفور — اتّجهت الأنظار إلى مصير "العودة الطوعية" من مصر، فيما تمدّد القتال واستخدام المسيّرات ليطال ولايات كانت تُعدّ آمنة، بينها النيل الأزرق.
تقارير دولية وإقليمية وثّقت التحوّل الميداني في الفاشر أواخر أكتوبر، وتزايد الضربات بالطائرات المسيّرة في الدمازين وسنار والأبيض خلال نوفمبر.
مصدر سوداني مطّلع يُشرف على الرحلات المجانية للعودة الطوعية يقول إن الرحلات التي تنظمها "منظومة الصناعات الدفاعية السودانية" بالتعاون مع الحكومة المصرية مستمرة، لأن "آلافاً" سجّلوا قبل أحداث الفاشر، ومعظمهم نازحون من ولايات تُعدّ آمنة. ويضيف: "أُغلق باب التسجيل نهاية أكتوبر، والمُسجّلون ينتظرون أدوارهم خلال الأشهر المقبلة، وتُنظَّم الرحلات حتى الانتهاء من قوائم الانتظا".
ويكشف المصدر نفسه تراجعاً كبيراً في الرحلات البرّية بالحافلات التي كانت تنظّمها جهات سودانية أهلية وخاصّة: "تقريباً لم تعد هناك رحلات"، بعدما لحق الناس بـالبديل المجاني الأسرع والأكثر أمناً، وهو القطار. وهو ما جعل وجهة السودانيين في مصر تتجه إليه في ظل انتشار عمليات احتيال ونصب من بعض السودانيين على راغبي العودة والزعم بتنظيم حافلات لحملهم إلى الخرطوم وبعد جمع الأموال يختفي منظمو الرحلة كما حدث في محافظة الإسكندرية.
لكن المصدر شدد على أن العودة الطوعية تتوقف على تطورات العمليات العسكرية وتجدد المبادرات واستمرارها على نفس الزخم الذي كان على أشده قبل سقوط الفاشر وبعد تحرير العاصمة الخرطوم سيتأثر حتما بتعقيدات الصراع المسلح الدائر الآن خاصة أن الأولوية لدى الحكومة والجيش ستكون هي مواجهة ميليشيات الدعم السريع وليس إعادة الإعمار مع تراجع الحديث عن البدء فيه خلال الأيام الماضية.
المشهد الآن
قمنا برصد القطار رقم 1940 المخصّص لنقل السودانيين من محطة مصر/القاهرة إلى السد العالي/أسوان (على تخوم الحدود الشمالية للسودان)، ثم أتوبيسات إلى أبو سمبل والمعبر البري قسطل، على أن تتولى حافلات في السودان نقل العائدين إلى وجهاتهم النهائية في الولايات الآمنة.
ووفق تتبّع الأسبوع الماضي، انطلقت رحلة واحدة فقط يوم الأربعاء 12 نوفمبر وعلى متنها مئات الأسر، في حين كان المعتاد رحلتين أسبوعياً (السبت والأربعاء). مصادر داخل هيئة السكك الحديدية قالت إنه قبل أحداث الفاشر (26 أكتوبر) كان مُقرَّراً زيادة الرحلات إلى ثلاث أسبوعياً لاستيعاب المسجّلين، لكن بعد الفاشر اختفى الحديث عن الرحلة الثالثة.
وكانت الحكومة المصرية بالتنسيق مع منظومة الصناعات الدفاعية السودانية، قد نظما مبادرة لتيسير العودة الطوعية للسودانيين، عملت على توفير قطار أسبوعياً لنقل 1000 سوداني من القاهرة لأسوان منذ 21 يوليو الماضي ثم في منتصف أغسطس الماضي، قررت زيادتها لقطارين، ثم 3 قطارات أسبوعياً بسبب الأعداد الكبيرة المقبلة على العودة، إلى جانب زيادة عربات القطارات من 10 إلى 12 لاستيعاب مزيد من العائدين كل مرة.
بالأرقام الرسمية
بحسب وزارة النقل/الهيئة القومية لسكك حديد مصر، فإن إجمالي السودانيين المنقولين ضمن المبادرة ارتفع إلى 30,432 راكباً حتى "الرحلة 32″، ضمن تنسيق بين السكة الحديد والجهات القائمة على المشروع. وتشير أخبار رسمية متكرّرة إلى تشغيل القطار 1940 منذ يوليو مع زيادات لاحقة في عدد العربات وتكرار الرحلات بحسب ضغط القوائم.
ويبقى هذا العدد محدود وضئيل مقارنة بأكثر من 1.5 مليون سوداني عبروا إلى مصر جوا وعبر المعابر البرية بعد اندلاع الحرب في بلادهم منذ نحو 30 شهرا، بجانب عشرات الآلاف دخلوا بطرق غير قانونية، بينما يقيم فيها قبل الحرب أكثر من 3 ملايين سوداني.
وكانت منظمة الهجرة الدولية أعلنت عودة أكثر من 2.2 مليون شخص إلى ديارهم خلال الفترة الممتدة من نوفمبر من عام 2024 إلى أغسطس الماضي منهم أكثر من 815 ألف شخص عادوا إلى الخرطوم.
ما الذي يقوله المنسّقون؟
وأوضح مصدر سوداني تحدثنا اليه فإن استمرار رحلات العودة الطوعية لا يُعنى أن السودانيين راغبون في العودة فالوضع الآن مختلف عن ما حدث في أعقاب استعادة العاصمة الخرطوم وشجع على العودة ومنها البدء في الأعمار، فالأوضاع الأمنية في العاصمة والولايات المحيطة بها متردية للغاية وفقا لشهادات المواطنين وبالطبع الصعوبات التي يواجهونها تؤثر على حماس البعض من أجل العودة.
وأشار المصدر الى أن توقف رحلات الحافلات التي كانت بكثافة بالتزامن مع القطارات برهن على أن هناك قطاع من المقيمين في مصر يراجعون حساباتهم من جديد بعد أحداث الفاشر وليس كما يقال انها توقفت بسبب البديل المجاني أو الاحتيال لأنها ممارسات فردية، موضحا أن بعض العائدين للمناطق الآمنة ذهبوا يستكشفون الوضع وقياس إمكانية العودة من عدمها، والبعض ذهب لبيع ممتلكاته وتوفير المال لأسرهم الموجودة في مصر وهؤلاء يجازفون لأنهم قد لا يتمكنون من العودة مرة أخرى.
ويؤكد المصدر أن فشل محاولات التوصل إلى هدنة سيؤدي لهجرة عكسية من السودان إلى مصر، فضلا عن المشاهد المروعة التي جاءت من أرض المعارك وغيرت قناعات بعض المتواجدين في العاصمة المصرية من رغبتهم في الإقامة المؤقتة إلى دائمة وأن عليهم التأقلم مع الأوضاع المعيشية الصعبة لأنها تبقى أفضل من الذهاب إلى الموت بطرق بشعة.
يستكمل المصدر: لي أقارب وأصدقاء في الولاية الشمالية أكدوا أنهم لن ينتظرون تصاعد الاشتباكات وأن النزوح الداخلي بالنسبة لهم ليس حلاً فعالا، ومن نزح منهم إلى مدن سودانية أخرى طالتهم النيران و لا يوجد ضمانة لعدم امتداد الحرب للولايات الآمنة حاليًا لذلك لن يخاطر الباقون برحلة نزوح داخلي أخرى وسينزحون إلى مصر عبر الطرق البرية ولن يلتفتون لتحذير السلطات الرسمية لهم من مخاطر التهريب.
وشدد المصدر ذاته على أنه في حال جرى التوصل إلى هدنة فإن رحلات العودة عبر الحافلات ستعودة مرة أخرى لاستيعاب كل من يريدون العودة لأن آلاف المواطنين على قوائم الانتظار لشهور قادمة للسفر عبر القطارات مع تزايد أعداد المسجلين، والعكس في حال اختار الجيش السوداني الاستمرار في المعركة العسكرية وهي ستكون أشد ضراوة إذ سيحظى الجيش بمزيد من الدعم العسكري وكذلك قوات الدعم السريع لتكون بمثابة جولة جديدة من الحرب لا أحد يعلم موعد نهايتها.
ما وراء السطور
مصدر أمني يرى في سقوط الفاشر تغييراً لموازين الحرب، وأن أي اندفاع للدعم السريع شمالاً نحو الولاية الشمالية (المتاخمة لجنوب مصر) سيدفع نحو حرب استنزاف طويلة مع ضغط مباشر على المثلث الحدودي (مصر/ليبيا/السودان) وتصاعد المخاطر على الحدود الجنوبية، ما قد يفتح الباب لموجة نزوح جديدة وتزايد تسلّل جماعات مسلحة وارتدادات اقتصادية في مصر. تقديرات الأمم المتحدة/تقارير إعلام دولي تتحدث بالفعل عن نزوح متسارع بعد سقوط الفاشر وتدهور الحماية للمدنيين، فيما تتواصل الضربات/المسيّرات في النيل الأزرق، كردفان، ودارفور.
على الأرض، هاجمت مسيّرات تابعة للدعم السريع الدمازين/النيل الأزرق بعد ساعات من استهداف الأبيض/شمال كردفان؛ وردّ الجيش بمسيرات على مواقع في نيالا/جنوب دارفور — صورة تُظهر اتساع الجغرافيا المُستهدفة بالمسيّرات وتآكل "المناطق الآمنة""" التي تراهن عليها ممرات العودة.
أبعاد إنسانية في مصر
وقالت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن أعداد طالبي اللجوء واللاجئين المسجلين لديها في مصر حتى نهاية سبتمبر الماضى وصلت إلى 1،056،651 لاجئًا وطالب لجوء من 58 جنسية مقيمة في مصر.
وأضافت المفوضية أن الجنسية السودانية مثلت النصيب الأكبر في أعداد اللاجئين وطالبي اللجوء في مصر، حيث وصلت أعداد السودانيين المسجلين في المفوضية بمصر إلى 792،760 سودانيًا لاجئًا وطالب لجوء، بينما انخفضت أعداد السوريين المسجلين إلى 123،383 لاجئًا وطالب لجوء سورى، ووصلت أعداد باقى الجنسيات إلى 140,508 لاجئًا وطالب لجوء.
وأكدت ناشطة سودانية متخصصة في شؤون اللاجئين تقيم في القاهرة، إن الحكومة السودانية مضطرة لأن تستمر في تسيير رحلات العودة وهي غير راغبة في ذلك نظراً لأن الأوضاع الأمنية مضطربة وتبقى الأولوية لحسم الحرب لكنها لا يمكن أن تتجاهل رغبة قطاع من السودانيين في مصر العودة إلى البلاد حتى أن كانت تحت نيران الحرب، مشيرة إلى أن صعوبات المعيشة في مصر تدفع الآلاف لطلب العودة المجانية مع تخليهم عن العودة عبر الحافلات وهي كانت بمقابل مادي، مشيرة إلى أن الحكومة السودانية ليس لديها مقدرة الآن على أن توفر الأمن بشكل كامل لكنها ترحب بالمواطنين في بلدهم.
وأضافت أن اتفاقية جنيف بشأن أوضاع اللاجئين والتي توقع عليها مصر يجعلها تستمر في استقبال اللاجئين وتوفير الخدمات الأساسية إليهم وبالتالي فإن الحكومة المصرية أيضاً لا تدفع باتجاه ترحيلهم وانما تعمل على تسهيل العودة وهو ما يتماشى مع رغبة قطاع من السودانيين، في المقابل فإن هناك ضغوطا على مصر من جانب مفوضية اللاجئين لتوفير فرص العمل والعلاج والتعليم المجاني للاجئين وهو أمر يواجه صعوبات على أرض الواقع في ظل التكدس السكاني والضغط الكثيف على الخدمات ومن المرجح أن تتجدد المبادرات تحت اسماء تحت مسميات أخرى.
وذكرت أن وصول أعداد جديدة من اللاجئين الى مصر وارد في حال توجه عدد كبير من أهالي دارفور إلى الولاية الشمالية وهي على حدود مصر وان حدث ذلك مع احتمالات تمدد الحرب فإن المدن المصرية ستستقبل أعداد جديدة، ويعد ذلك عنصراً ضاغطاً على القاهرة التي ليس لديها رغبة في استقبال المزيد وتحاول الوصول إلى هدنة إنسانية تساهم في إنهاء الحرب.
وقبل شهرين تقريبا قرّرت الحكومة المصرية إعفاء السودانيين الراغبين في مغادرة البلاد من أي غرامات مالية بشأن إقامتهم، وذلك حتى 10 مارس المقبل، ولا يسري القرار الحكومي الذي أعلنته السفارة السودانية في القاهرة، على راغبي البقاء في مصر، إذ ذكرت السفارة، في بيان لها، أن يقوم بقية المواطنين السودانيين الراغبين في تجديد إقامتهم في مصر، ولم يلتزموا بتجديد الإقامات في مواعيدها المحددة، بدفع الغرامات والرسوم المفروضة.
السودانيون حالياً
على الجانب المقابل توقع مصدر مطلع على رحلات العودة الطوعية في مصر استمرار الرحلات بدون تسليط الضوء عليها في حال قلت الأعداد أو ألغيت حتى لا تسري عدوى الفتور في راغبي العودة لبلاده، ومن وجهة نظر المصدر أن ذلك يخفف الضغط على البلد المستضيف وفي ذات الوقت يدعم الحكومة السودانية ويعطي انطباع أن الوضع آمن وأكثر سيطرة.
وأوضح المصدر ذاته أن كثير من السودانيين العائدين إلى الخرطوم تأقلموا مع الوضعية الجديدة للعاصمة رغم تدهور الأوضاع الأمنية وشح الخدمات والتدمير الواسع للمنازل لكنهم يجاهدون للحياة ويقنعون أقاربهم وجيرانهم بالعودة وتكون للأغلب إلى الخرطوم أو ولاية الجزيرة وتحديداً مدينة ود مدني، وهي المدن الأساسية التي نزح منها السودانيين إلى مصر منذ اندلاع الحرب.
وذكر أن أهالي إقليم دارفور لا ينزحون إلى مصر لبعد المسافة وهم يتجهون نحو تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، وتبقى المخاوف من تمدد قوات الدعم السريع وفي تلك الحالة سوف تسوء الأوضاع الإنسانية في السودان بوجه عام وسينعكس ذلك على اتجاه الكثيرين للهرب من جحيم الحرب والانتهاكات التي ترتكبها تلك المليشيات.
الصوة الأشمل
- طالما لم تُحسَم الهدنة، ستبقى دورة "قطار واحد أسبوعياً" أو متذبذبة محتملة؛ أي تراجع في وتيرة القطار 1940 أو تجميد "الرحلة الثالثة" التي كانت مُزمعة قبل الفاشر يُبطّئ تصفية قوائم الانتظار، ويُبقي الحافلات رهناً بالمخاطرة والطلب والأسعار. تقارير رسمية مصرية تُظهر تشغيل رحلات متتابعة منذ الصيف، لكن وتيرة التشغيل ترتبط بالأمن والقدرة اللوجستية.
- إذا انفجر القتال شمالاً باتجاه الولاية الشمالية، فالسيناريو الأقرب — وفق مصادر ميدانية — هو نزوح جديد نحو مصر عبر الطرق البرّية، مع انكماش الحافلات التجارية لصالح مسارات منظّمة/مدعومة (قطارات/قوافل رسمية)، لتقليل الابتزاز والاحتيال.
- في حال توصّلت الأطراف إلى هدنة، يرجّح المنسّقون عودة الحافلات لاستيعاب مَن لا يطيقون الانتظار شهوراً على قوائم القطار، مع بقاء القطار المجاني خياراً رئيسياً للعائلات الأشد هشاشة.
"العودة الطوعية" ليست خطاً مستقيماً: القطار يمضي لكن أبطأ؛ الحافلات تتراجع؛ الميدان يتمدّد بالمسيّرات شمالاً وشرقاً؛ قناعات الأسر تتبدّل بين العودة والاستقرار المؤقت/الدائم في مصر. كل ذلك يتحرك مع مؤشر الفاشر: إذا كان سقوطها قد حرّك نزوحاً داخلياً وخارجياً، فإن أي ضغط شمالي قد يعيد السيناريو على الحدود المصرية بوتيرة أسرع.