استمرت الحرب في غزة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي لعامين، قبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في 15 يناير/كانون الثاني 2025، لتنتهي الحرب مع بقاء فصائل المقاومة، رغم أن من الأهداف الإسرائيلية الرئيسية كانت الإنهاء عليها، وليس الانتهاء بصمود المقاومة في غزة.
يستدعي الأمر البحث في استراتيجيات المقاومة وتكتيكاتها القتالية، لمعرفة كيف استطاعت البقاء طوال فترة الاستنزاف وحرب الإبادة في غزة، بالإضافة إلى استطاعتها أيضاً تكبيد جيش الاحتلال الخسائر بشكل مستمر خلال عامي الحرب.
بحسب ما نشرته فصائل المقاومة في مقدمتها حركة حماس من بيانات مكتوبة ومرئية، فإنها اعتمدت في مقاومتها للاحتلال الإسرائيلية على العديد من الوسائل، أهمها:
- الأنفاق الهجومية والدفاعية في المعركة.
- تكتيكات التشتيت والمباغتة.
- التغلّب على تقنيات التجسس الحديثة لإسرائيل.
- الدور المركزي للكمائن للتعاطي مع متغيرات الميدان.
- جمع المقاومة بين الشكل التنظيمي للجيوش الحديثة، وتكتيكات حرب العصابات، وصولاً لاستخدامها لأشرطة الفيديو كسلاح تعبوي واستراتيجي.
التشكيلة القيادية، والتسلسل الهرمي، وتوزيع الخلايا
لم تكن تصريحات قادة المقاومة، لاسيما كتائب القسام، حول الاستعداد لخوض حرب استنزاف طويلة ضد جيش الاحتلال داخل قطاع غزة، مجرد تهديدات فقط، فقد أكدت أنها استعدت لها منذ أشهر طويلة، وباتت تخوض حرب شوارع تستنزف فيها الاحتلال، عبر شنّ هجمات مباغتة وسريعة في كل منطقة يتاح لها ذلك، لمنعه من التقدم، بدلاً من التصدّي المباشر له.
اتبعت كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس، نظام الألوية والأقاليم في مواجهتها للعدوان، ولكل إقليم لواء، ولكل لواء وحداته الخاصة وكتائبه وسراياه وفصائله.
وبحسب ما رصده الإعلام العبري، فإن القسام امتلكت خمسة ألوية قتالية موزعة على محافظات القطاع، تضم 24 كتيبة، مع وجود كتيبة نخبة في كل لواء، ونحو 140 سرية، لديها استحكامات عسكرية في كل منطقة، وتميّزت بثقلها العسكري من حيث العتاد وعدد الأفراد والخبرات القتالية.
وإلى جانب هذه التقسيمات العسكرية للألوية والكتائب، هناك العديد من الوحدات القتالية التي جاء ذكرها مراراً خلال الحرب، أهمها: كوماندوز النخبة، المضادة للدروع، الهندسة، التصنيع، الكمائن، الدفاع الجوي، المدفعية، القناصة، الاستشهاديين، الإسناد، الاتصالات، التعبئة والتوجيه.
نير دفوري، مراسل الشؤون العسكرية في القناة 12، أكد أنه "خلال عامين من القتال، أثبت المسلحون قدرتهم على خوض معارك صعبة، بما لديهم من قدرات عسكرية هجومية، واستبدال قيادات جديدة بمن تم اغتيالها، دون رؤية أي إشارة على انهيار قدراتها، رغم تضرّرها".
عزا ذلك إلى أن "المسلحين جهزوا أنفسهم لهذا الهجوم، بحيث أمكن للقيادة العليا الاختفاء في أي وقت، بل طوّروا آلية لنقل القيادة بشكل سهل سلِس".
وشدد على أن "كل ذلك كشف عن قدرتها (القسام) على التصرف كجهاز عسكري تقليدي يمكن دمجه في نموذج حرب العصابات، بعد أن قامت خلال 17 عاماً من سيطرتها على غزة ببناء مجموعة من الأسلحة والقواعد تحت الأرض، كمركز قيادة وسيطرة لحروب المستقبل، وتطوير قدرات صاروخية أكثر دقة".
يوآف زيتون المراسل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، ذكر أن إفادات الجنود والضباط من ساحة المعركة أكّدت أن حماس جهّزت جيشاً مدرباً ومنظماً، مع تسلسل هرمي عسكري، وهو ما أكده قائد جيش الاحتلال الأسبق "أفيف كوخافي"، بوصفه لحماس بأنها "جيش، وليس منظمة".
ونقل عن قائد الفرقة 98 "دان غولدفوسن"، قوله: "إننا أمام تشكيل حربي كامل ومنظم، وراؤه تفكير عسكري كبير، يربط الخنادق بالأنفاق، ووسائل قتالية محصنة على الأرض، ونقاط مراقبة، وإطلاق نار، وقنص من أماكن مرتفعة".

ونقل عن ضباط آخرين أن "التشكيلات القتالية التي بنتها حماس أدهشتهم، لأنها أسقطت أسلحة فتاكة من الطائرات بدون طيار التي تطلقها"، وأظهرت الحرب أن هذه التقديرات كانت مُحِقّة، لأنه بدلاً من مواجهته لخلايا حرب العصابات المتناثرة، فقد واجه الجيش فصائل وكتائب وفرقاً منظمة جيداً ومدربة، وذات تسلسل هرمي عسكري واضح.
وأضافوا أنه "في العديد من مراحل القتال، وبعد الاستهدافات القاسية ضد قياداتها، بدا أنّ الخلايا المسلحة في غزة لا تخضع لمركزية قيادية ثابتة، بل تنتشر أفقياً في القطاع، وتغيير خططها حسب مستجدّات الواقع الميداني وإكراهات الحرب".
وقال أفرايم غانور خبير الشؤون العسكرية في صحيفة "معاريف"، إنه "كلّما أعلن الجيش سيطرته على منطقة ما، كبّدته (المقاومة) خسائرَ كُبرى، ما دلّل على جاهزيتها، وقدرتها على المبادرة، وإحداث المفاجأة، لدرايتها بتفاصيل المكان، وإمساكها بالميدان، وتدريباتها على حرب الشوارع، ومراوحتها بين الظهور والكمون، وبين الحرب تحت الأرض وفوقها".
مصدر فلسطيني من قوى المقاومة، أكد لـ"عربي بوست" أن "مرور عامين من الحرب أثبت أن المقاتلين كانوا مُجهّزين بالكامل من الرأس حتى أخمص القدمين، بترسانة من المتفجرات والأسلحة لا تقل شأناً عما تملكها جيوش نظامية".
وأضاف أن مقاتلي المقاومة "استخدموا مئات الطائرات المسيّرة لتدمير أنظمة سلاح متقدمة ودبابات مصنّفة من بين الأفضل في العالم، واستعدوا بصورة عالية لوجستياً، ما مكّنهم من الصمود لفترات طويلة تحت الحصار".
وتابع: "امتلكوا تمويلاً كافياً لبناء صناعة عسكرية محلية، بجانب آلاف الصواريخ الدقيقة وأنظمة الاتصالات الحديثة، كما أن المرافق التي اكتشفها الجيش في غزة أظهرت مستوى عالياً من التنظيم، تحتوي على غرف إدارية وعمليات متخصصة، ما يعني أن الكتائب تطورت لما يشبه "منظمة شبه عسكرية"، تدير عمليات قتالية معقدة، بما يعكس حجم التحدي الذي واجهه الجيش خلال المعارك".
التكتيكات القتالية: العُقَدِ القتالية، والالتحام من مسافة صفر، والقتال البُقَعِي
أولاً: العقدة القتالية
وفقاً لما ذكره أمير بوخبوط المحلل العسكري في موقع ويللا، فإن من الأساليب القتالية المبتكرة للمقاومة في تصدّيها للقوات الغازية براً مصطلح "العُقدة القتالية"، وهي عبارة عن خلايا لا مركزية صغيرة من المقاومين يتراوح عدد أفرادها في حالة تنفيذ هجمات منفردة بين 3 و5 مقاتلين، لتنفيذ مهمات كالمدفعية واستهداف المدرعات وحشودها، أو عملية قنص.
وقد يرتفع العدد لأكثر من 10 منهم في العمليات العسكرية المركّزة التي تنفّذ فيها أكثر من مهمة، وتحتاج لوجود عدد أكبر، وتقوم الفكرة على تشكيل خط دفاع ناجح يضرب نقاط ضعف الجيش، وتحييد قدراته، ونقاط قوته باستخدام أقلّ الإمكانيات المتاحة، ويتم تشكيلها بحسب المهمة الموكلة إليها، وأقلّها في حالات القنص، وفق قوله.
"عربي بوست" علم من مصدر فلسطيني في المقاومة في غزة، أن "اتخاذ القرار بتشكيل العُقد القتالية يتم من خلال تقدير قيادة المقاومة المسبق لخطط الاحتلال الهجومية في أي منطقة من القطاع، وبالنظر لطبيعة القتال فيها، فيُترك للمقاومين في عُقدِهم تقدير نشاطهم العسكري فيها، متى يبدأون، ومتى يكمنون، وأي آلية يستهدفون".
وأكد أن "كل ذلك يتم بطريقة لا مركزية، لا تستدعي التواصل مع القيادة، بل وفق الخطط المسبقة المتوفرة لديهم، ما يوفّر للمقاتلين استقلالية في المواجهة يُمكّنهم من مُباغتة الجيش، وتنفيذ الكمائن المحكمة في مناطق يعتقد أنه سيطر عليها، ويتمكنون من التنقل نحو الأماكن الآمنة، والانسحاب بعد تنفيذ المهمة".
وقال: "كشفت العديد من المعارك، أن "الزُّمرة في عُقدتِها" تنتظر لأسابيع، تتحيّن الفرصة، ثمّ تخرج من تحت الأرض وفي يدها شتّى الصنوف المؤدية للموت: رصاصٌ وقنصٌ وقذائف مدفعيّة وصواريخ وعبوات ناسفة، تقتل وتجرح، وتُعطِب جنوداً وآليّات".
ثانياً: "بُقع القتال المنتخبة"
في فترة لاحقة، لجأت المقاومة الى تكتيك قتالي جديد دقيق ومركّز، يسمى "بُقع القتال المنتخبة"، تكون كل بُقعةٍ مستقلة بعتادها وأنساقها القتالية ومقاتليها بشكل شبه كامل، ولم تقاتل جميعها في المعارك الضارية، ولم ينخرط كثير منها في القتال، بشكل كليّ أو جزئيّ.
واستمر جزء كبير منها محتفظاً بكامل قوته فترة طويلة من الحرب، من مقاتلين وسلاح وذخيرة وبنى تحتية، واعترف الجيش الإسرائيلي بأن التكتيكات القتالية لحماس تهدد قواته، وأصبحت تعدّ الأفخاخ في كل مبنى قائم تقريباً في غزة، في ظل استمراره بتصعيد عملياته، ونشر قوات برية كبيرة، بجانب الغارات المستمرة.
عوفر شيلح، الرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، ذكر في ورقة بحثية لمركز دادو للدراسات العسكرية، أن يوميات العملية البرية أظهرت تفوّقاً للمقاتلين الفلسطينيين أصحاب الأرض على قوات الجيش الغازية، رغم حيازتها لمختلف أنواع العتاد العسكري.
وقال: "المسلحون تحلّوا بروح معنوية عالية، واستعداد لأقصى المخاطر، كما حصل في وقائع الاشتباكات الفردية بين عدد محدود منهم مع دبابات أو مدرعات من المسافة صفر، أو الخروج في العراء بلباس عادي لاصطياد الجنود، حتى فقد الجيش الأفضليّة في مسار القتال".
ولفت إلى أن "الظروف القتالية ميدانياً، والالتحام من مسافات قريبة بين الجنود والمقاومين قلّل من التفوق النسبي الذي يتمتع به الجيش في مجال التكنولوجيا والاستخبارات، بل زاد من خسائره".
ثالثاً: حرب العصابات
أكدت المعارك اليومية في غزة، أن الاحتلال بعد عامين من القتال، يخوض حرب استنزاف مع المقاومة، بنتائج سلبية بين قتلى ومصابين، وبعضهم ينتحر بسبب معاناتهم النفسية.
وأشار إلى أنه في هذا النوع من الحروب لا يمكن للجيش النظامي أن ينتصر بسهولة، لأنه لا توجد أصلاً مواجهات مباشرة بين قوّتين عسكريتين نظاميتين، ولا يتم احتساب الانتصار بعدد القتلى، ولكن هناك دائما في الخلفية معركة سياسية ونفسية تمارسها المقاومة للضغط على صُنَّاع القرار لدى "إسرائيل"، وفقا لما أكده شاكيد سافان في مقاله على القناة 12.
رون بن يشاي، المحرر العسكري بصحيفة "يديعوت أحرونوت"، ذكر أنه بدلاً من مواجهة الغزو البرّي في معارك مباشرة، فقد انسحب المسلحون من مواقعهم الأمامية، سعياً لإضعاف التفوق التكنولوجي والعددي للجنود بشنّ هجمات مفاجئة على مجموعات صغيرة منهم، ومن تحت الأرض.
وقال: "لم يظهر "الأشباح" إلا عابراً، حيث يخرجون فجأة من شبكة الأنفاق، مُسلّحين في كثير من الأحيان بقذائف صاروخية لاصطياد الجنود، ثم العودة بسرعة لحصونهم تحت الأرض، وفي بعض الأحيان، يختفون بين البيوت المهجورة المدمرة".
وأظهرت المعارك البرية أن المقاومين باتوا أكثر احترافية، لأنهم بعد شهور طويلة من القتال، وإعلان الجيش عن تفكيكه لكتائبهم في مختلف مناطق القطاع، أصبحوا أكثر خبرة، وهو يرى تغيير تكتيكاتهم، وتركيزهم أكثر على تفخيخ المباني، ما أنشأ معضلة مؤلمة أمامه، وربما مثيرة للجدل في المستقبل، تتعلق بكيفية استكمال هدفه المتمثل بتدمير قوتهم، لأنهم ما زالوا متحصنين تحت الأرض، رغم كل ما جلبته الحرب من دمار.
أحد المقاومين روى لـ"عربي بوست" كيف بدت معنوياتهم عالية، من خلال الزخم القتالي العالي، والعمليات الدقيقة والكثيرة التي نفّذوها، والثبات الذي أظهروه، والتسابق على ميادين الاشتباك مذهل، الأمر الذي كسر ما تبقى عندهم من هيبة الحرب، وفق قوله.
وقال إنه "بعد فشل الاحتلال بتحقيق أهدافه، وبينما دأبوا على استهداف دبابة واحدة بقذيفة ياسين واحدة، فقد شهدت المعارك استهداف ثلاث دبابات دفعةً واحدة، مرّةً في معسكر جباليا في مشهد اصطفاف ثلاثة مقاتلين بجوار بعضهم، يستهدفون ثلاث دبابات بثلاث قذائف ياسين في اللحظة ذاتها، ومرّةً في رفح حين خرج ثلاثة مقاتلين من نفق لاستهداف ثلاث دبابات، اثنان أطلقا عبوتي "شواظ"، والثالث أطلق قذيفة "الياسين".
تال ليف-رام المراسل العسكري لصحيفة معاريف، أكد أن مجريات العملية البرية أظهرت أن المسلحين امتلكوا أوراق قوّة ميدانيّة، خصوصاً عند خوض معارك في أحياء الشجاعيّة والتّفاح وخزاعة وبيت حانون، وكشفت سلسلة المواجهات التي خاضوها أن الهجوم البري دخل في بعض الأحيان مرحلة "الحرب المتحركة"، وهي معارك تقاس بالأمتار، وتسمى "حرب المدن"، وتكلفتها باهظة على الجيش المهاجِم أكثر، لأن آلياته تعتبر أهدافا ثابتة، وهو يجتاح مناطق جديدة، ثم يتراجع عنها رغماً عنه.
وأوضح أن ذلك "دفع الجيش للاعتراف بأن الحرب بدأت تأخذ شكل حرب العصابات، وأن طريقها شاقّ، وتُجسّد تعقيدات التحديات التي تواجه قواته في الميدان، وتؤكد حاجته لوقت طويل كي يحقق أهداف الحرب بتفكيك قدرات حماس العسكرية والسلطوية، وإعادة المخطوفين".
وأشار إلى أن المقاومة بعد عامين من الحرب تمكنت من تحويل أزِقّة القطاع ومخيماته وأحيائه إلى متاهة مُميتة للجنود، ما ضاعف من حصيلة قتلاهم أضعافاً كثيرة عما تكبّدوه في الحروب السابقة على غزة مجتمعة منذ عام 2006.
وكان ذلك في ضوء استخدام المقاومة للمزيد من تكتيكاتها، وتنويع ترسانتها العسكرية، وتفعيلها لصيغة حرب الشوارع، وتكثيف مخزونها الكبير من الأسلحة، ومعرفتها الدقيقة بتضاريس الأرض، ووجود شبكة أنفاق واسعة، بحسب ليف-رام.
رابعاً: شبكة الأنفاق واستنزاف الاحتلال وصمود المقاومة في غزة
بحسب ما نقلته "وكالة الأنباء اليهودية" عن ضباط في الجيش الإسرائيلي، فإنهم أكدوا أن المقاومة الفلسطينية حفرت شبكة من الأنفاق العميقة المضادة للقنابل، وزوّدتها بالمؤن اللازمة، واعتقدت أن حرب المدن أسهل لها من الحرب الجوية، فطوّرت أسلوباً حضرياً لها لمواجهة التفوق التكنولوجي والجوي للاحتلال من خلال تحويل المعركة إلى قتال شوارع شجاع.
وأكدوا أن المقاومة "حوّلت غزة حصناً من المتاريس والثقوب، بما فيها الأنفاق، واستخدام الكمائن فوق الأرض، والضربات السريعة، والقنابل المموّهة لإرهاقه، وإغراق جنوده في قتال الشوارع، ودار نهجها حول إلحاق الضرر بهم، وإيذائهم، باستخدام مزيج من القوات الهجينة والتقليدية".
ليلاخ شوفال المراسلة العسكرية لصحيفة "إسرائيل اليوم"، ذكرت أن "المسلحين واجهوا نيران الجيش وقدراته الاستخباراتية، بأنفاقهم التي حفروها منذ سنوات، في طبقات الرمل والطين في باطن أرض غزة، وشكّلت شبكة واسعة تمتد على مسافات تزيد عن مئات الكيلومترات، وتتحرك فرق صغيرة من تحت الأرض، وتخرج للسطح، وتضرب، ثم تعود بسرعة إليها، وجزء كبير منها متصل بمواقع مختلفة، كما تُخفي فيها مخزوناتها من الأسلحة من الصواريخ والقذائف والبنادق والذخيرة، وصدرت العديد من المقاطع لمقاتلين في قبوٍ تحت الأرض يجمعون حشوات الصواريخ المضادة للدبابات من قاذفات آر بي جي".

آفي أشكنازي المراسل العسكري لصحيفة "معاريف"، ذكر أن "المسلحين دأبوا على توجيه ضربات كبيرة للجيش في كل يوم تقريباً، وبثّوا صوراً تهدف لإظهار قدراتهم على الانتقام منه، لأن سيطرتهم على القطاع طوال أعوام سيطرتهم في غزة، أتاحت لهم بناء جيش حقيقي، مُدرّب ومُجهّز".
وأكد أنهم "باتوا يدافعون عن غزة بفعالية عبر نصب الكمائن، مع حصول قفزة نوعية جديدة بين كل عملية اجتياح وأخرى على مستوى مناطقه، وتم تنظيمهم في خلايا مستقلة تتمركز في الأحياء المتوقع اجتياحها، وتتمثل مهمتهم بالدفاع عنها، عبر خلايا صغيرة تعمل وفقا لتقدم الجنود".
مقاتل فلسطيني تحدث مع "عربي بوست"، وأوضح أنهم "لم يسعوا، وهم الذين يعرفون تضاريس غزة، لعرقلة تقدم الجيش في المناطق الزراعية والضواحي، بل في المدن الأكثر كثافة، حيث القتال أصعب بكثير".
وأضاف أنه "يمكنهم الاستفادة من الأنقاض لمهاجمة القوات الغازية، ويتوقع أن تكون المعارك أكثر دموية، وقد أثبتت يوميات العدوان أنهم تلقوا تدريبات على البقاء في حالة تأهب وتركيز أثناء نقص الغذاء والماء، وقضاء أيام يتناولون فيها تمرات عدة فقط، والجلوس لساعات دون حركة".
وبينما فقدت المقاومة قوّتها الصاروخية إلى حدّ كبير، فإنها "ما زالت تحتفظ بالعدد الأكبر من مقاتليها وأسلحتهم الخفيفة، وجميعها خدمت فكرة استنزاف الجيش من خلال الخلايا الناشطة التي عملت بشكل فعّال، رغم فقدانها لكثير من مخازن الأسلحة، بينما لا زال آلاف المسلحين ينشطون بمناطق متفرقة، وتلقّي التعليمات من أجل مواجهة طويلة قائمة على تنفيذ هجمات مباغتة، حسبما تسمح الظروف في كل شارع وساحة"، وهو ما أكده داني أورباخ المؤرخ العسكري في مقاله بموقع "ويللا".
نوعام أمير المراسل العسكري للقناة 14، نقل عن أوساط استخبارية في الجيش أن حماس لجأت إلى ترميم أنفاق دفاعية تم قصفها، وأعادت استخدامها، وتفخيخ فتحاتها، وتفجيرها في القوات البرية، كجزءٍ من حرب استنزاف، وغيّرت تكتيكاتها بعدما فهمت أن المعركة طويلة، في ضوء إعلان الجيش عن تخطيطه لنقل عدوانه في القطاع من "حربي عسكري" إلى "سيطرة أمنية" على بعض مناطقه، من خلال عمليات أكثر تركيزاً وفق الحاجة، رغم أن ذلك استنزف قدراتها ومقاتليها بصورة غير مسبوقة، وبما فاق إمكانياتها.
خامساً: استنساخ نموذج "الفتنمة"
لم يُخفِ الاحتلال توجهاته باستنساخ سيناريو ما يقوم به في الضفة الغربية إلى غزة، والزعم بأن غاية الحرب النهائية هي "السيطرة على الشجاعية وجباليا كما هو الوضع في نابلس وجنين وطولكرم"، ما يعني أن تستمرّ الحرب فترة طويلة، وتنتقل لمراحل مختلفة.
ودفع ذلك بالمقاتلين في غزة للعمل على إحباط هذه المحاولات، والتعامل مع كل سيناريو متوقع وفق ما تُحدّده ظروفها الميدانية، وإيصال رسالة عملياتية مفادها أن من يُخطّط للبقاء طويلاً في غزة عليه انتظار الموت لجنوده كل يوم، والغرق في وحلها، وهو ما حذر منه تسفيكا حايموفيتش، القائد السابق للقوات الجوية في مقاله بصحيفة إسرائيل اليوم.
وكشفت يوميات القتال أن المقاومة، وهي تحت القصف والمعارك، "تبدو ظاهرياً، بلا كيانٍ يُجسِّدها، فهي غائبة، وحين تظهر، تقتصر على مجموعاتٍ قليلةِ العدد، ولا يظهر من رأسها إلا الناطق باسمها، لكنها تحافظ على تماسُكها، رغم الضغط والكثافة النارية، والقوة التدميرية المهولة.
وأكدت أن المقاومين طبّقوا استراتيجيات الاختفاء، وتجنّب المواجهة المباشرة، مع شن هجمات تكتيكية ضد الغزاة، بأسلوب حرب العصابات.
نوريت يوحنان مراسلة موقع زمان إسرائيل، نقلت عن جنود وضباط الجيش العائدين من غزة، أنهم واجهوا مقاومة شرسة لم يشهدوها من قبل، في ضوء ما حازته من ترسانة أسلحة مضادة للدبابات، ما أظهر حجم الصعوبات والمخاطر التي واجهته أثناء تقدمها في شوارع وأزقة غزة.
وفالت إن الحرب كشفت مدى تطور وتوسع القوة النارية التي امتلكتها المقاومة، ويعني أنها تركّز أكثر على استخدام الأسلحة المضادة للدروع لمواجهتها مثل الصواريخ الموجهة بالليزر والذخائر المضادة للدبابات، التي أسفرت عن مقتل العشرات من الجنود.
وقالت: "صحيح أننا ظهرنا أمام حرب غير متكافئة، لكن ترسانة المقاومة المُحسّنة المتمثلة بقاذفات القنابل الصاروخية ومضادات الدبابات، تفاجأنا بها من حيث الكم، وأدركنا أننا نواجه ظروفا صعبة للغاية داخل غزة، لأن المقاتلين مسلّحون بشكل كبير، وليسوا عصابة من الفتيان الصغار يحملون مسدسات".
وأكدت أنه كانت هناك أعداد كبيرة من مضادات الدبابات تنتشر في غزة، بما يثير قلق الجيش الإسرائيلي، فيما يبدو مُركّزا في العثور على أهداف للقوات الجوية والبرية.
عامي روحكس دومبا، المحرر في مجلة "يسرائيل ديفينس"، أشار أنه عندما بدأ الجيش اجتياحه البري للقطاع، نصبت الخلايا المسلحة مئات الفخاخ لجنوده، وخلقت حالة من الارتباك في صفوفهم حول شكل المسلحين الذي سيواجهونهم بعد قليل، وانتهجوا ذات النهج العسكري الذي اتبعته حروب العصابات بدءً بفيتنام، مروراً بأفغانستان، وصولاً بالعراق، وانتهاء بجنوب لبنان.
وأكد أنهم "يقاتلون من بين منازلهم وحاراتهم، وفي أي مكان يكونون فيه، وهكذا أصبح ردّهم على الغزو نموذجاً لاستراتيجيتهم".
وعندما توغلت الدبابات وكتائب المشاة في غزة، لم تواجه مقاومة خلال الأميال القليلة الأولى، ولم يشاهد الجنود أيّاً من المقاتلين داخل المواقع التي اشتبهوا بوجودهم فيها، لكنهم ما لبثوا أن علموا أنهم كانوا هناك، تحت الأرض مباشرة، وبعد انسحابهم إلى متاهة الأنفاق، تركوا مناطق مليئة بالمتفجرات والفخاخ، بحسب دومبا.

سادساً: المساحة مقابل الوقت
شاي ليفي الكاتب في القناة 12، ذكر أن المسلحين اتبعوا في العديد من محطات الحرب استراتيجية "المساحة مقابل الوقت" أمام محاولات الجيش للسيطرة على القطاع، بـ"إعطائه" القليل من المساحة مقابل إنزال الكثير من الخسائر في صفوفه، وطوّروا تكتيكًا جديدًا يقوم على مبدأ بسيط، لكنه فعّال، ومفاده أنه بدلا من الدفاع عن كل شبر من الأرض، فقد بات التركيز على جعل تقدّمه مُكلِفًا جدًا من ناحية الخسائر البشرية والمادية.
وأكد أن ذلك تجلّى في العمليات المتقدمة التي نفّذوتها المقاومة في مناطق بيت حانون والشجاعية وخانيونس.
بالتالي، لم تعتمد المقاومة على "مركز ثِقلٍ" واحد للجيش يمكن استهدافه، وإنهاء تواجده فيه بضربة واحدة، لأنها أرادت الاستمرار رغم فقدانها لقياداتٍ مركزية.
وتابع: "صحيح أنها خسرت قيادات مركزية، وأن تعويضهم ليس أمراً سهلاً، لكنها اتبعت استراتيجية نموذج حرب العصابات الحديثة المعتمدة على التوزيع الواسع للقدرات والمسؤوليات، ما أظهر تكيّفها بين حين وآخر مع مجريات المعركة".
وقال: "أدارت عملياتها وفق التجارب التي تخوضها مع الجيش، وأظهرت يومياتها أن تعاملها معه يختلف باختلاف حجم القوة الغازية، ونوعها، وطبيعة العملية، ونطاقها".
موقع ناتسيف نت للشؤون العسكرية، نقل عن جنود إسرائيليين مشاركين بالمعارك البرية داخل القطاع، ملامح ما تعرضوا له على أيدي المقاومين، قائلين إنهم يخرجون من فتحات الأنفاق، ويُطلقون صاروخاً مضاداً للدبابات، أو يطلقون النار، ثم يعودون للنفق، ويُغلقون غطاءً حديدياً، ويختفون.
وأكدوا أن "هناك نطاق كبير جداً من الفتحات الأرضية المُصمّمة لضربنا، ومناطق القتال مُشبعة بآلاف منها تؤدي لشبكة أنفاق مُتفرّعة، تسمح لهم بالانتقال من منطقة لأخرى مسافة أميال، رغم جهود القوات لتدميرها، باستخدام وسائل التفجير والأدوات الهندسية".
وشدد على أن ذلك اتضح من خلال انتقال المقاومة إلى تكتيك "حرب المدن للقتال في المناطق البرّية المفتوحة، مُستغِلّة وجود الأنفاق بوصفها ممرّات توريد وهجوم على وحدات المشاة والآليات، مع زيادة قدرتها على الاشتباك، وتدمير الآليات من مسافة صفر، والاستفادة من ضعف فرق المشاة من الجيل الجديد للجنود، وعدم استعدادهم لخوض حرب المدن، وعدم معرفتهم بتضاريس غزّة".
اعترافات إسرائيلية. بالتورط في غزة، ودفع أثمان باهظة
"عربي بوست" رصد أهم الاعترافات الإسرائيلية التي أقرّت بضراوة المقاومة في غزة طيلة عامين كاملين:
- قائد الجيش السابق "هآرتسي هاليفي" أكد أن "حماس استعدت منذ فترة طويلة لدفاعٍ منظم، لأن القتال دار بطريقة معقدة للغاية، تحت الأرض وفوقها، والجيش يقاتل في مناطق سكنية ومدنية، مما يجعل تفكيك وتفجير منظومتها العسكرية أمراً معقداً، ويدفعه للقيام بعمليات لم يقم بها من قبل".
- "غدعون إلياستيم"، نائب قائد لواء المظليين، اعترف أن "حماس تتحرك من مكان لآخر، تحاول أن تفاجئنا، ولا نُقلّل من شأنها، لقد استعدت منذ سنوات، ولا أستطيع إعطاء جدول زمني لنهاية المعركة الحالية، لأنها سوف تستغرق بعض الوقت، وهناك خشية من عودة محتملة لها لبعض المناطق التي سيطرنا عليها، وتجنيد نشطاء، وتسليح نفسها في كل فرصة تُتاح لها، بعد التقاط أنفاسها".
- أقرّ قائد لواء الكوماندوز "عومار كوهين" بأن "قواته تخوض معارك لم تشهدها في مكان آخر، ظهر أن حماس لديها قدرات أكبر لإدارة عملياتها، وهذا واضح في قتال العامين الأخيرين، لاسيما وأن العديد من الأحياء السكنية مليئة بالمقاتلين والعتاد القتالي الأكثر تقدّماً، بما فيها المتفجرات عالية المستوى المستخدمة ضد الجيش، رغم خسارتها لأجزاء كبيرة من القطاع، وتضرّر قدرتها على القيادة والسيطرة".
- قائد وحدة "إيغوز" التابعة للواء "غولاني" فأكد أنه "عندما تدخل بعض الأحياء السكنية في غزة، تدرك حقاً أن هذه "أعشاش الدبابير"، واعترف قادة الجيش أنهم واجهوا مقاومة شديدة، رغم زجّهم بألوية نخبته للانخراط في القتال، خاصة "غفعاتي والمظليين والمدرعات".
- الجنرال يتسحاق بريك، عميد الكليات العسكرية الأسبق في الجيش، ذكر أنه "حان الوقت كي يفهم الجميع أن الحرب في غزة لا تجري وجهاً لوجه على الأرض، فالمقاومة تعمل كحرب عصابات، يتواجد أفرادها بالآلاف في مدينة الأنفاق التي تمتد مئات الكيلومترات تحت الأرض، يخرجون في مجموعات صغيرة، في الغالب ليلا، ويزرعون العبوات الناسفة على الطرقات وداخل المنازل، ويطلقون صواريخ مضادة للدبابات على القوات، وينفذون نيران القنص، ثم يعودون للأنفاق.
أما الباحث الأمريكي "نوكتيس درافين" اعترف بأن "مقاتلي حماس من أكثر المجموعات البشرية شجاعة وإلهاماً في عصرنا الحديث.
وقال: "صحيح أن مثل هذا الكلام قد يبدو جنونياً ومزعجاً، لكنه صحيح، لأن رجالها لا يتفوقون بالسلاح والتمويل، ولا يملكون أي دعم جوي، ولا استخبارات، ولا أقمار صناعية، ولا بحرية، ولا قوات جوية، ومع ذلك، فهم يقاتلون ويقاومون".
ووصف مقاتلي المقاومة بأنهم "مجرد رجالٍ يدافعون عن أرضهم وشعبهم ومستقبلهم، وأن ما يُلهمني أكثر أنهم يُقاتلون في وطنهم، وعلى أرضهم".