خسائر متزايدة لتل أبيب في القارة اللاتينية.. خريطة تفاعلية لموقف دول أمريكا الجنوبية من الحرب الإسرائيلية على غزة

عربي بوست
تم النشر: 2025/06/09 الساعة 07:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/06/09 الساعة 10:42 بتوقيت غرينتش
موقف دول أمريكا الجنوبية من الحرب الإسرائيلية على غزة

في الوقت الذي توجهت فيه أنظار العالم الى المواقف الرسمية والتظاهرات الشعبية الرافضة للعدوان الاسرائيلي على غزة التي شهدتها العواصم الغربية، فقد شهدت أمريكا الجنوبية نفس المواقف والتظاهرات، لكنها لم تحظ بذات الزخم الإعلامي، مع أنها تركت آثاراً سياسية واقتصادية على إسرائيل، التي حاولت تجاهلها، رغم ما تركته لديها من أزمات وانتكاسات دبلوماسية.

وقد أعدت وزارة الخارجية الإسرائيلية دراسة عن الوضع الدبلوماسي للدولة خلال عدوانها الحالي على غزة، وقارنتها بأوضاع شبيهة سادت بعد حروب سابقة، وأظهرت أن عدد الدول التي قطعت علاقاتها منذ اندلاع الحرب، وسحبت سفراءها، وأدانتها في المحافل الدولية، وفي القلب منها دول أمريكا الجنوبية، يؤكد أن اسرائيل في مواجهة جبهة سياسية قد لا تكون أقل خطورة من الجبهة العسكرية القتالية.

كولومبيا وبوليفيا.. السبّاقتان لقطع العلاقات مع إسرائيل

مثل أحجار الدومينو ظهرت نتائج الإبادة ضد غزة على مواقف أمريكا الجنوبية، فوصل الأمر بأن تسارع دولها، واحدة تلو الأخرى، لإعلان قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وسحب سفرائها منها، ولم يعد هناك سوى عدد محدود من الدول التي تربطها بها سفراء وقناصل، مما يكشف حجم التدهور في علاقاتها الخارجية، بعد أن أقامت معها معظم دول القارة علاقات سياسية كاملة، بل أنشأ بعضها سفارة في القدس المحتلة.

اتخذت كولومبيا، الحليفة السابقة لإسرائيل في القارة، مواقف سياسية متقدمة من العدوان على غزة، خاصة بعد انتخاب اليساري غوستافو بيترو رئيساً، والذي أدان العدوان، ووصف إسرائيل بأنها "دولة إبادة جماعية"، عارضاً صور أطفال فلسطينيين قتلتهم إسرائيل، واصفَا غزَّة بـ"السجن الكبير المُحاصر"، وقارن سلوكها في الحرب بمعاملة ألمانيا النازية لليهود، مما دفع وزارة الخارجية الإسرائيلية لاعتبار هذه التصريحات "دعماً لحماس، وتهديدا لسلام الجالية اليهودية في كولومبيا".

أكثر من ذلك، فقد أعلن بيترو خلال مسيرة عيد العمال قطع العلاقات مع إسرائيل، والانضمام لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية في لاهاي، وأعلن افتتاح سفارة له في الأراضي الفلسطينية، وجمّدت كولومبيا شراء الأسلحة مع إسرائيل، ووقف تصدير الفحم لها، وهو المورد الاستراتيجي لتصنيع الأسلحة، حيث تزودها بـ30% من احتياجاتها منه.

قوبلت مواقف الرئيس وحكومته بانتقادات من المعارضة اليمينيّة، وتوقفت إسرائيل مطولاً عند تصريحات خوان مانويل غالان، المرشح الرئاسي المنافس، الذي اعتبر قطع العلاقات معها قراراً سيئاً للغاية، وخطوة شعبوية ، لأنها ضارة جداً، زاعماً أن مصلحتنا تتطلب الحفاظ على علاقات قوية معها، فكل دفاعاتنا الجوية الاستراتيجية منها، وكذلك معداتنا العسكرية والشرطية والتكنولوجية".

أيضًا، لم تتردد بوليفيا كثيراً باتخاذ موقف مشابه، فقد اتخذت خطاً معادياً لإسرائيل منذ انتخاب اليساري خوان موراليس رئيساً، وهو أحد تلاميذ الزعيم الفنزويلي السابق هوغو تشافيز، ويرى أن إسرائيل كيان استعماري، ووجودها بحدّ ذاته انتهاك لحقوق الفلسطينيين.

وبعد تولي لويس آرسي، الوزير السابق في حكومة موراليس، لمقاليد الرئاسة، اتخذ ذات الموقف المعادي، وأعلن فور اندلاع العدوان على غزة أن "إسرائيل ترتكب جرائم ضد الإنسانية"، وقرر قطع العلاقات معها، وإلغاء ترتيبات تأشيرات دخول الإسرائيليين إليها، مما دفع وزارة خارجيتها للردّ بانفعال قائلة إن "العلاقات مع بوليفيا كانت فارغة من المضمون على أي حال".

تشيلي والبرازيل وفنزويلا.. خطوات ميدانية ضد إسرائيل، وتشبيهها بالنازية

تشيلي أخذت دورها لنصرة الفلسطينيين، واتخذت نهجاً معادياً لإسرائيل منذ بداية الحرب، بالتزامن مع انتخاب غابرييل بوريك، الذي اتهمها بتنفيذ سياسة التطهير العرقي، ووصفها بـ"الدولة القاتلة"، وسنّ قانون يحظر استيراد المنتجات من المستوطنات، وأثار ضجّة عندما رفض منح أوراق اعتماد سفيرها في بلاده.

صحيح أن تشيلي لم تقطع علاقاتها بإسرائيل، لكنها استدعت سفيرها للتشاور عقب الحرب، وألغت مشاركتها في معرض الطيران والفضاء الكبير (فيداي) المقام على أراضيها، بعد سنوات من تعاونهما الأمني، وأعلنت حظر تجارة الأسلحة معها، وأعادت ملحقيها العسكريين، وشاركت بدعوى قضائية ضدها في محكمة لاهاي، رغم أن إسرائيل تُعدّ من الموردين الرئيسيين لجيش تشيلي، وتشارك بتنفيذ نظام الأقمار الاصطناعية لديها.

رغم ذلك، فلا زالت علاقات ثنائية بين اسرائيل وتشيلي في المجالات الأمنية والاقتصادية والعلمية، وتحظى بدعم من أجزاء من الكونغرس المحلي، لكن أصواتاً عديدة فيها تطالب بطرد سفير إسرائيل، كما شهدت مظاهرات كبيرة مناهضة لها، ومؤيدة للفلسطينيين، فضلاً عن مقاطعة الجامعات.

أما البرازيل، فهي الدولة الأكثر صراحة في إدانة إسرائيل، أو بشكل أكثر دقة رئيسها لويس دا سيلفا "لولا"، الذي لم يفوّت فرصة واحدة لمهاجمتها، وأثار عاصفة دبلوماسية عندما قارنها بالنازيين، مُعلناً أن "ما يحدث للشعب الفلسطيني في غزة لم يحدث في أي وقت مضى في التاريخ، بل حدث عندما قرر هتلر قتل اليهود، وما يحدث الآن هو جنون من رئيس وزراء إسرائيل الذي يريد محو غزة"، رافضاً وصف حماس بالمنظمة الإرهابية.

كلام "لولا" استدعى ردّاً من نتنياهو بالزعم أنه "كلام خطير، واستخفاف بالهولوكوست، وتجاوزٌ للخط الأحمر"، فيما استدعى وزير الخارجية آنذاك يسرائيل كاتس سفير البرازيل لتوبيخه، ونشبت أزمة حادة، حين أعلن أن "لولا" غير مرغوب فيه، مما دفع الأخير لإعادة سفيره للتشاور، ولم يعد إليها منذ ذلك الوقت، ورغم الخطاب المعادي لإسرائيل، لكن العلاقات بينهما بقيت قائمة، ولم يتم اتخاذ خطوات مهمة ضدها.

مع العلم أن مدينة ساو باولو شهدت مظاهرة ضخمة بمشاركة مئات الآلاف والرئيس السابق غايير بولسونارو، لدعم لإسرائيل، والتلويح بعلمها، وإدانة تصريحات "لولا".

في فنزويلا، أعلن الرئيس نيكولاس مادورو أن الشعب الفلسطيني يتعرض لـ"إبادة جماعية" منذ أكثر من 75 عاماً، واصفاً ما تتعرض له غزة بـ"هولوكوست" الذي عاشه اليهود في فترة حكم أدولف هتلر والنازيين، وهو ما يعيشه الشعب الفلسطيني حالياً، وأطلق حملة "أغيثوا فلسطين".

أما وزير خارجيته إيفان جيل بينتو، فهاجم نتنياهو، لأنه يُنفّذ تطهيراً عرقياً في غزة بينما نجله يترفَّه بولاية ميامي الأمريكية، كما دأب ساسة البلاد على وصف العدوان في غزة بأنه "محرقة ثانية"، واتهام اسرائيل بأنها "أصيبت بالجنون" و"تقتل" الأطفال.

مع العلم أنه لا توجد علاقات دبلوماسية بين تل أبيب وكاراكاس منذ الحرب الأولى على غزة في 2008-2009، حيث قدّمت دعماً قوياً لفلسطين، مما دفع إسرائيل للاعتراف بالنظام المعارض للرئيس مادورو المدعوم من الغرب، وليس له أي نفوذ على الأرض.

الأرجنتين وباراغواي وأوروغواي.. حلفاء إسرائيل، ومحاولة لتعديل الصورة

في المقابل، اختارت الأرجنتين ورئيسها خافيير ميلي الوقوف بجانب إسرائيل، وتحدّي نظرائه في دول القارة بزيارتها في ذروة الحرب، ودعمها في المحافل الدولية، والتصويت ضد منح الفلسطينيين حقوقهم في الأمم المتحدة، والإعلان عن خط طيران جديد بين البلدين، وبدء نقل السفارة للقدس المحتلة، مما أثار عليه معارضة واسعة في بلاده، كما التقى بعائلات المختطفين الاسرائيليين، بحضور وزير الخارجية إيلي كوهين.

اتخذت الأرجنتين في عهدها الجديد جملة خطوات للتقارب مع إسرائيل فيما الحرب مشتعلة في غزة، أبرزها تعيين الحاخام اليهودي أكسل فاهنيش سفيرا لديها، وتعيين اليهودي جيرارد فيرتين وزيراً للخارجية، حيث أقسم اليمين على مخطوطة توراتية لأول مرة، كما هاجم ميلي الأمم المتحدة، رافضاً سلوكها المعادي لإسرائيل، وأعلن حماس منظمة إرهابية، وأمر بتجميد أصولها المالية.

أما باراغواي فقد أعربت عن دعمها لإسرائيل، مع بعض التحفظات، وأدان رئيسها سانتياغو بينا هجوم حماس في السابع من أكتوبر، وزعم أنه "أعظم صديق لإسرائيل"، ويريد إعادة السفارة للقدس المحتلة، وفي ذروة الحرب، زارها وفد من الكنيست برئاسة أمير أوحانا لافتتاح السفارة هناك، وعارضت باراغواي الاقتراح الفلسطيني بفرض حظر على توريد الأسلحة لإسرائيل، وأعلنت أن حماس منظمة إرهابية دولية، وهاتف رئيسها نظيره الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، لتعزيته، وصوّتت ضد قرار وقف الحرب.

وكذلك فعلت بيرو التي نشرت وسائل إعلام محلية قريبة من الحكومة رثاء لجندي إسرائيلي يحمل جنسيتها قُتِل خلال المعارك في غزة، مما أثار انتقادات شديدة من الفلسطينيين المقيمين هناك، حيث يوجد معارضون كثر لإسرائيل في الدولة، وذوي حضور سياسي كبير.

كما افتتحت أوروغواي مكتباً دبلوماسياً لها في القدس المحتلة، تمهيداً لإعادة نقل سفارتها إليها مرة أخرى، ووصفها وزير خارجيتها آنذاك إيلي كوهين بأنها من أهم أصدقاء إسرائيل في القارة، في ضوء العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والتجارية، ومواجهة المحاولات الإيرانية لتوسيع أنشطتها هناك.

الموقف من هجوم حماس وإدانة مذبحة اسرائيل ضد الفلسطينيين

تبدو الإشارة مهمة إلى أن مواقف دول أمريكا الجنوبية التي ظهرت أكثر جرأة من غيرها من دول العالم في اتخاذ مواقف ملموسة من هجمات إسرائيل على غزة، لم تكن متجانسة، بل تباينت من دولة لأخرى، بل على مستوى نفس الدولة، وفيما تبنّت بعضها لهجة أكثر حدة تجاه إسرائيل مع تزايد الضحايا في صفوف الفلسطينيين، فقد ساندت سواها الاحتلال، وفريق ثالث وقف على الحياد، لكن المرجح أنه في حال استمرت حرب غزة، فإن دولاً أخرى في القارة ستراجع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، مما ينذر بمزيد من التوتر في علاقاتهما.

يستعرض "عربي بوست" أهم محددات المواقف السياسية لدول أمريكا الجنوبية من الحرب الدائرة على غزة، والسلوك الاسرائيلي فيها.

بدا لافتاً أنه من بين قتلى ومفقودي هجوم الطوفان العديد من حاملي جنسيات دول أمريكا الجنوبية، مما ساهم في تحديد بعض مواقفها مما حصل، فالأرجنتين لديها تسعة 9 قتلى، والبرازيل وبيرو كل منها لديه ثلاثة، وتشيلي وكولومبيا كل منها لديه قتيل، وباراغواي مفقودان، وأوروغواي رهينة واحدة.

وقد أدانت عدد من دول أمريكا الجنوبية هذا الهجوم، فاعتبرته أورغواي "إرهاباً مطلقاً" معلنة التزامها بأمن إسرائيل، كما فعلت تشيلي الأمر نفسه، لكنها دعت لإنهاء الاحتلال، وفي باراغواي، التي أعلنت حماس منظمة إرهابية في 2019، زعم رئيسها أننا "ننقل كل دعمنا لإسرائيل في مواجهة الهجمات "الإرهابية الجبانة".

فيما أعلنت دول التحالف البوليفاري، ويشمل عدداً من دول الأمريكيتين الوسطى والجنوبية، ومنها فنزويلا وبوليفيا، وعدد من الدول الأكثر يسارية والأكثر عداءً للولايات المتحدة، تأييدها للفلسطينيين، ولم تذكر إدانة لهجمات حماس، فيما ذكّر وزير خارجيّة تشيلي الرأيَ العام بأنَّ "حماس في موضع الدفاع عن النفس"، وكذلك رفض الرئيس الكولومبي التنديد بالهجوم، أو اتهام حماس.

وصوّتت العديد من دول أمريكا الجنوبية لصالح قرار أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة يدعو لهدنة إنسانية فورية في غزة، ومنها: الأرجنتين والبرازيل وبوليفيا وكولومبيا وتشيلي وبيرو والإكوادور، أما أوروغواي فامتنعت عن التصويت، وظهرت باراغواي الدولة الوحيدة في القارة التي صوتت ضد القرار، وبعد قصف الأحياء السكنية والمستشفيات، وسقوط آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى المدنيين، تبدّلت النظرة، لأن ما يحدث أمرٌ بشعٌ من الناحية الإنسانية، واتضح لهذه الدول أنّ إسرائيل لا تنتقم من حماس فقط، بل تنتقم من المدنيين.

وقد عمدت البرازيل، التي تولت الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي بداية الحرب، لتكثيف تحركاتها الدبلوماسية لمنع تصعيدها، والبحث عن حل سلمي لها، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة، وظهرت الدولة الوحيدة في القارة المشاركة في قمة القاهرة للسلام في أكتوبر 2023، ودعا رئيسها للتوصل لوقف لإطلاق النار في غزة، وأجرى محادثات مع قادة الإمارات وإسرائيل وفلسطين ومصر وفرنسا وروسيا وتركيا وإيران وقطر والاتحاد الأوروبي لحثّها على اتخاذ خطوات لوقف الحرب.

الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا/ رويترز
الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا/ رويترز

دور الخلفية الأيديولوجية للحكومات اليسارية في معاداة إسرائيل

تزامنت هذه المواقف الأمريكية الجنوبية من الحرب على غزة مع صعود الحكم اليساري من جديد في العديد من دول القارة، المسمى "المدّ الوردي"، ويسيطر على السلطة في ثلثيها، ويمثلون 90% من سكانها وناتجها المحلي، وشكّل انتماء العديد من قادتها السياسي والأيديولوجي محددًا رئيسيًا لمواقفهم من الحرب؛ فظهروا أكثر دعمًا لغزة بسبب علاقاتهم التاريخية مع المقاومة الفلسطينية، وشنّوا على إسرائيل أقوى المواقف الناقدة،

تتبنّى حكومات اليسار في أمريكا الجنوبية خطاباً مناهضاً للهيمنة الأمريكية، وتنظر لإسرائيل باعتبارها وكيلًا لها، مقابل موجة اعتراف واسعة بدولة فلسطين، وافتتحت سفارات جديدة فيها، ودأب عدد منها على إرسال مساعدات إنسانية إلى غزة، كالبرازيل وفنزويلا وكولومبيا.

وأصدرت غالبيتها إدانات قوية لكل العدوانات الإسرائيلية على غزة منذ 2008، واستدعت سفراءها للتشاور، وفي 2015 رفضت البرازيل تعيين داني دايان سفيراً لإسرائيل، كونه قياديا سابقا في "مجلس يشع" الذي يمثل المستوطنات في الضفة الغربية.

أما الحكومات اليمينية، خاصة في باراغواي وأوروغواي، فظهرت أكثر جرأة بالدفاع عن إسرائيل في ارتكاب جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، وأدانت بشدة هجوم حماس، وفي ذروة الحرب عملت على توثيق علاقاتها مع تل أبيب كمدخل للتقارب مع الولايات المتحدة، والحصول على المساعدات الأمنية، وتعزيز التعاون العسكري.

ولعل ما ساعد دول أمريكا الجنوبية في اتخاذ مواقف مساندة للفلسطينيين، ومعادية لإسرائيل، استقلالها المتزايد عن واشنطن، التي لم يعد ضغطها السياسي والدبلوماسي بالقدر نفسه الذي كان عليه سابقاً، وتراجع مستوى تأثيرها عليها، مما كشف عن تضاؤل نفوذها، بعد وصوله لذروته في لحظة القطب الواحد بعد حرب الخليج الأولى، مع أن هذه المواقف المتقدمة لا يعني اتخاذ هذه الدول موقفاً نهائياً حاسماً من إسرائيل، أو انتهاجهم طريقًا معاديًا لها.

الحسابات الانتخابية الداخلية، والتنافس على كسب الصوت اليهودي

تستضيف بلدان أمريكا الجنوبية أعدادًا من الجالية اليهودية، التي نجحت على مدار سنوات طويلة بتطوير علاقات وثيقة مع المسئولين والمنظمات هناك، فالأرجنتين مثلا تستضيف 250 ألفاً من الجالية اليهودية، وهو أكبر عدد لهم في القارة، وسادس أكبر عدد لهم خارج إسرائيل التي يسافر آلاف من جنودها للأرجنتين بعد انتهاء خدمتهم العسكرية، وأول فرع لماكدونالدز ""كوشير" وفق الشريعة اليهودية خارجها يقع في العاصمة بوينس آيرس.

كما شكلت الأوضاع الداخلية في بعض بلدان أمريكا الجنوبية عاملاً محدداً لمواقفها من الحرب في غزة، حيث يتنافس المرشحون على كسب تأييد الجالية اليهودية، مع العلم أن السنوات الأخيرة شهدت تزايد عدد ونفوذ المسيحيين الإنجيليين، المرتبطًين بالصهيونية العالمية، ويعتقدون أن عودة الشعب اليهودي للأرض المقدسة، وإقامة دولة إسرائيل، تحقيق لنبوءة توراتية، ويشكلون قوة تصويتية مهمة، ويؤثرون على مواقف حكومات بعض دول أمريكا الجنوبية من الحرب في غزة.

يتمثل حضور إسرائيل في القارة من خلال لوبي صهيوني قوي ومُهيكل عبر منظمات "الاتحاد الإسرائيلي البرازيلي، الرابطة الأرجنتينية الإسرائيلية المشتركة، مفوضية الروابط الإسرائيلية الأرجنتينية"، وهي منظمات تسعى لربط علاقات اقتصادية وثقافية متينة لتكوين نخب ثقافية وطلابية موالية لها عبر برامج دعم ومنح للناشطين.

مع العلم أن ذاكرة الشعوب الأمريكية الجنوبية لا زالت تستحضر دعم إسرائيل للدكتاتوريين العسكريين في بلدانهم، من خلال نقل الأسلحة لهم، وتدريبها لجنودهم على تقنيات التعذيب، وقمع الحركات التحررية.

أثر التواجد الفلسطيني العربي في القارة على المواقف السياسية

على النقيض من ذلك، يصل عدد الجالية العربية في القارة إلى 25 مليوناً في أنحاء القارة، منهم 12 مليون فقط في البرازيل، التي يعود 10% من أعضاء برلمانها لأصول عربية، وفي الأرجنتين يوجد 3.5 ملايين، واستطاعوا تسجيل حضور قوي في الحياة السياسية في تلك الدول، بسبب تفوقهم في الاستثمار وتنمية رأس المال في كثير من المشروعات التي عملوا بها.

كل ذلك دفعهم بقوة نحو التواجد في البرلمانات والأحزاب، وشكلوا ثقلاً كبيراً في اتخاذ القرار، مثل عُمد المدن ورؤساء البلديات، ووزراء ورؤساء حكومات، حتى أن عدداً منهم وصل إلى منصب رئيس الجمهورية، ومنهم نجيب بوكيلة رئيس السلفادور، وكارلوس منعم الرئيس الأرجنتيني الأشهر والأكثر بقاء في كرسي الحكم، والرئيس البرازيلي السابق ميشيل تامر، ورئيس الإكوادور جميل معوض وغيرهم.

أما الأمريكيين الجنوبيين ذوي الأصول الفلسطينية فيزيد عددهم في القارة عن 700 ألفاً، وهو أكبر تجمع لهم خارج العالم العربي، وهناك شوارع تُسمى بأسماء فلسطينية، ومنها مدينة (فلوريانابوليس) جنوبيّ البرازيل، تيمُنًا بنابلس في الضفة الغربية، وفريق كرة قدم باسم "بالستينو".

علاوة على ذلك، فإن العديد من الفلسطينيين هناك لهم نفوذ كبير، يشغل بعضهم مناصب حكومية ووظائف مهمة في البلديات، وباتوا يملكون جماعة ضغط قوية للغاية، ونجحوا بإفشال محاولة لتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة بين تشيلي وإسرائيل، ولذلك ظهرت مواقف العديد من دول القارة منسجماً مع مواقف مواطنيها ذوي الأصول الفلسطينيين، ومع تزايد عدد القتلى المدنيين في غزة، صعّدت لهجتها، ونظمت في معظم مدنها مظاهرات مناهضة لها، وأخرى مؤيدة لها.

وجد النفوذ المتزايد للجاليات العربية الفلسطينية في القارة ترجمته في تردد أصداء العدوان الإسرائيلي على غزة في شوارعها وعواصمها من خلال تظاهرات عديدة داعمة للحقوق الفلسطينية، ومنددة باستهداف المدنيين في غزة، ورفعها للأعلام الفلسطينية، حتى أن عملية إحصاء سريعة لما يكتب عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي عن القضية الفلسطينية وحرب غزة باللغات اللاتينية، قد يساوي مما يكتب باللغة العربية، أو يزيد.

تحميل المزيد