لا يزال القرار المصري بإرسال 10 آلاف جندي من الجيش المصري بجانب طائرتين محملتين بشحنات عسكرية إلى دولة الصومال، يثير تخوفات ويبرز حالة من الترقب الحذر لما ستؤول إليه تلك الخطوة وتبعاتها، خاصة في ظل اعتبار مراقبين هذا القرار بمثابة "خطوة تصعيدية" من جانب القاهرة ضد إثيوبيا التي تعيش حالة صراع مع مصر بسبب نزاعات حول حصص مياه نهر النيل.
ويبدو أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قبل التحدي وانتهج نبرة تصعيدية محذراً في احتفاله بـ "يوم السيادة" الأحد 8 سبتمبر/ أيلول في أديس أبابا، من أن بلاده "لن تسمح بأي مساس بها، وسيذلّ كل من يجرؤ على تهديدهم"، في رسالة للقاهرة التي أرسلت أسلحة وقوات لدعم مقديشو.
خطوة القاهرة تلك جاءت كخطوة مضادة لمذكرة تفاهم وقعت بداية العام الحالي بين أديس أبابا مع أرض الصومال (إقليم انفصالي يطالب بالاستقلال عن الصومال)، يمنح بموجبها الإقليم أديس أبابا إمكانية تأجير 20 كيلو متراً في ميناء بربرة على البحر الأحمر، واستعماله تجارياً وعسكرياً لمدة 50 عاماً مقابل حصة في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية.
وكان أهم ما تضمنته مذكرة التفاهم تلك هو اعتراف سياسي إثيوبي باستقلال أرض الصومال عن الصومال، وهو ما اعتبرته حكومة مقديشو اعتداء على سيادتها وقالت إنها ستعرقله بكل الوسائل.
فما الذي يحدث في منطقة القرن الأفريقي حالياً؟ وهل يمكن أن يتطور الأمر إلى مواجهة عسكرية؟ وما الأهداف وراء هذا الصراع على الصومال؟
تكهنات متضاربة
بعيداً عن الرفض الإثيوبي والترقب الإقليمي والدولي، فإن الخطوة التي أقدمت عليها القاهرة تفتح الباب واسعاً أمام عشرات التكهنات والتوقعات المتضاربة تتراوح من الحماس الذي يبديه بعض الخبراء والمحللين المصريين تجاه عودة التواجد المصري المؤثر في أفريقيا بعد غياب طويل استمر أكثر من 29 عاماً، وتحديداً منذ محاولة اغتيال الرئيس الراحل حسني مبارك في أديس أبابا نفسها، إلى مخاوف المتشائمين من تورط القوات المصرية في منطقة وعرة ومتشابكة الصراعات تشبه إلى حد كبير اليمن، التي تورطت مصر فيها في ستينات القرن الماضي حين أرسلت قوات لدعم المشير عبد الله السلال بعدما أزاح حكم الإمام محمد البدر وأعلن قيام الجمهورية اليمنية بدلاً من الحكم الملكي.
وبين هؤلاء وأولئك يقف عدد من المحللين والباحثين موقف المتفرج في انتظار ما قد تسفر عنه تلك الخطوة من نتائج إيجابية أو سلبية على الداخل المصري في ضوء تأثيرات محتملة سياسية واقتصادية قد تنتج عن أي تصعيد غير متوقع يحدث في تلك المنطقة الأفريقية المشتعلة بشكل مستمر منذ سقوط حكم الرئيس الصومالي الراحل محمد سياد بري في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي.
وكشف مصدر حكومي مطلع عن تقارير عديدة تم رفعها الفترة الماضية للمسؤولين تحذر من انعزال مصر عن العمق الأفريقي، لتفسح المجال لإثيوبيا لتحقيق طموحاتها وتؤكد على ضرورة أن تعيد القاهرة ترتيب أوراقها من جديد لإعادة تموضعها في أفريقيا بعدما تركت الساحة لأطراف خارجية تتعمد الإضرار بالأمن القومي المصري.
وأكد المصدر أن اتفاقية القاهرة ومقديشو سببها "طمع إثيوبيا وتحركاتها المريبة وتوجهاتها التوسعية في المنطقة على حساب جيرانها ومحاولاتها بشتى الطرق إيجاد مكان لقواتها على مدخل البحر الأحمر وقناة السويس"، على حد تعبيره.
ودافع المصدر عن الخطوة المصرية مؤكداً أنها لا تتعارض مع القوانين الدولية، ولها ما يبررها في أدبيات الدبلوماسية المصرية الممتدة منذ قرون، والتي ترى في قارة أفريقيا بشكل عام ومنطقة القرن الأفريقي بشكل خاص امتداداً طبيعياً للأمن القومي المصري ومصالح القاهرة الإقليمية والدولية.
وأوضح أن تلك المنطقة تشرف على الجانب الغربي لمضيق باب المندب ومدخل البحر الأحمر الجنوبي، ما يعني أن عدم الاستقرار فيها يؤثر بشكل مباشر على سلامة المرور في قناة السويس إحدى الروافد الأساسية والمهمة للدخل القومي لمصر.
وذكر المصدر المطلع على هذا الملف أن الوجود العسكري المصري في الصومال أداة من أدوات الردع التي تمتلكها القاهرة في مواجهة أي تصرفات تهدد أمنها القومي بشكل مباشر، ومن السذاجة بمكان الاعتقاد بأن القاهرة أرسلت قواتها إلى الصومال فقط من أجل المكايدة السياسية لحكومة آبي أحمد في إثيوبيا، خاصة أن السياسة الخارجية لمصر في السنوات الماضية رفعت شعار تجنب التصعيد العسكري بقدر الإمكان لكن دون استبعاده نهائياً.
لكن المصدر كشف عن تساؤلات يتم طرحها في الاجتماعات المغلقة التي تدور الآن وهي كيف سيتم التعامل في حالة حصار الجنود الإثيوبيين الموجودين بالآلاف في الصومال للجنود المصريين أو احتجازهم مثلما حدث في شمال السودان في أبريل/ نيسان 2023، وكيف سترد القاهرة في حال حشدت إثيوبيا سريعاً آلاف الجنود في الصومال بينما لا تستطيع مصر إرسال قوات كبيرة مما يسهل عملية حصار قواتها، فضلاً عن أن إثيوبيا لديها القدرة على حشد صوماليين ضد الجنود المصريين المتواجدين هناك لإحراج الجانب المصري.
تهديد وهمي
كانت مصر قد أرسلت في نهاية شهر أغسطس/آب الماضي طائرتين من نوع سي-130 تحملان شحنات عسكرية بجانب حوالي 5 آلاف جندي كدفعة أولى ليكونوا نواة لقوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي "أميصوم" المقرر أن تحل محل بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية الموجودة حالياً في الصومال "أتميس" بداية من يناير/كانون الثاني المقبل.
يأتي هذا وفقاً للاتفاق مع مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي والذي أعلن عنه في 7 أغسطس/ آب الماضي، على أن ترسل القاهرة لاحقاً 5 آلاف جندي إضافيين من القوات الخاصة تنفيذاً لاتفاق تعاون عسكري وقعها في العاصمة المصرية كلا من الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس جمهورية الصومال حسن شيخ محمود خلال زيارة الأخيرة لمصر منتصف نفس الشهر.
وحرص الإعلام المصري على التعامل مع إرسال أسلحة إلى الصومال على أنه رسالة تحذير إلى إثيوبيا مفادها أن القاهرة تمتلك أوراقاً لتحدي أديس أبابا.
القرار المصري أثار غضب إثيوبيا التي رأته عملاً عدائياً موجهاً ضدها واتهمت جارتها الصومال في بيان رسمي بزعزعة الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، كما ألمحت إلى دور مصر في ذلك دون أن تسميها حيث ذكر البيان "يتعين على القوى التي تحاول تأجيج التوتر لتحقيق أهداف قصيرة الأجل أن تتحمل عواقب وخيمة".
وبحسب باحث سياسي مقرب من دوائر صنع القرار في مصر، فإن أديس أبابا تعتبر اتفاقية التعاون المصرية الصومالية موجهة ضدها، عملاً بالحكمة المصرية الشعبية التي تقول إن "اللي على راسه بطحة" من توجد على رأسه ندبة يخاف من الهواء.
وتشهد العلاقات بين حكومتي القاهرة وأديس أبابا توتراً متزايداً في السنوات الأخيرة بسبب تداعيات بناء سد النهضة الإثيوبي وتجاهل الجانب الإثيوبي المستمر الوصول إلى اتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل السد، لضمان عدم تأثر حصة مصر المائية.
كما تعاني العلاقات بين أديس أبابا والحكومة الصومالية من توتر قديم يعود إلى عام 1978، حينما اندلعت حرب بين البلدين على إقليم أوجادين انتهت بسيطرة إثيوبيا عليه، وعادت التوترات للظهور مجدداً في يناير/ كانون الثاني الماضي عقب إقدام إثيوبيا على توقيع مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الانفصالي، وعقب ذلك طلبت حكومة مقديشو من الاتحاد الأفريقي إعادة تشكيل قوات حفظ السلام التابعة له بهدف إبعاد القوات الحالية التي تتضمن حوالي 10,000 جندي إثيوبي ضمن نطاقها.
اللواء سمير فرج، المحلل العسكري المصري، فسر في تصريحات تلفزيونية إقدام مصر على إرسال قوات وشحنات عسكرية إلى الصومال قائلاً إن تلك الخطوة جاءت في ضوء بروتوكول التعاون الأمني الذي وقعته مصر والصومال أخيراً، حيث تهدف القاهرة إلى أن تساعد الصومال في حفظ أمن مضيق باب المندب على البحر الأحمر، والذي يعد أحد عوامل أمن قناة السويس المصرية.
واستبعد ما تردده أديس أبابا من أن يكون الوجود المصري يهدف إلى تهديد أي دول مجاورة للصومال، مستغرباً في الوقت ذاته الضجة التي أثارتها إثيوبيا على إرسال قوات مصرية إلى الصومال في الوقت الذي لم تتحدث فيه نهائيا عن تواجد قواعد عسكرية لدول أخرى هناك. https://youtu.be/7FulPQeY1qY?si=HHg9EwaETtB1dD3g
من جانبه قال العميد سمير راغب رئيس المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية، في تصريحات إعلامية إن مصر والصومال دولتان لهما سيادة مستقلة ومن حقهما التعاون في شتى المجالات دون أن يكون من حق أي دولة أخرى إبداء اعتراضها أو قبولها لذلك، مؤكداً أن التحرك المصري في الصومال يعكس سعي مصر لاستعادة دورها القديم في منطقة القرن الأفريقي، وهو أفضل رد على تصرفات إثيوبيا التي لا تحمل إلا الاعتداءات والعداء لدول المنطقة.
تشكيك في جدية التحركات
في المقابل شكك آخرون في جدية التحركات المصرية الحالية في منطقة القرن الأفريقي معتبرين أن الأمر لا يعدو كونه نوعاً من المناكفة السياسية مع إثيوبيا، ومجرد استعراض وليس من الوارد أن تتدخل هذه القوات في أي نزاع داخلي مع حركة شباب المجاهدين فما بالك بالتدخل في مواجهة مع إثيوبيا.
وشكك هؤلاء في التصريحات التي أكدت أن هدف مصر من إرسال قواتها رغبتها في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب ومدخل البحر الأحمر، مشيرين إلى أنه إذا كانت تلك هي رغبة القاهرة، فلماذا لم تفعل شيئاً لتأمين الجانب الشرقي من المضيق الذي يسيطر عليه الحوثيون ومنعوا غالبية السفن من المرور عبره بما تسبب في خسائر جمة لمداخيل قناة السويس بحسب بيانات مصرية رسمية.
تنسيق مصري تركي
من جهة أخرى ربط مصدر مطلع بالخارجية المصرية تحدث لـ "عربي بوست" بين زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تركيا في الخامس من سبتمبر/أيلول، وبين التحركات المصرية في الصومال ومنطقة القرن الأفريقي، في ضوء امتلاك أنقرة قاعدة عسكرية تركية في مقديشو هي الأكبر لها خارج البلاد، تستخدمها للتدريب وإعادة تأهيل الجيش الصومالي وقوات الأمن.
وألمح المصدر إلى أن المباحثات التي جرت في العاصمة التركية أنقرة مع الرئيس رجب طيب أردوغان تطرقت إلى مسألة التنسيق بين البلدين في جهودهما لدعم الحكومة الصومالية الشرعية ضد الأخطار الداخلية الممثلة في حركة شباب الصومال المصنفة إرهابية، أو الأخطار الخارجية التي تتركز في "الاتفاقات المريبة بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال الانفصالي ضد المصالح الوطنية للصومال"، على حد وصفه.
وأشار إلى أن هناك اتفاق بين مصر وتركيا على ضرورة المحافظة على وحدة وسلامة أراضي الصومال، وعدم الاعتراف بأي محاولات انفصالية من جانب ما يعرف بـ "أرض الصومال" التي أعلنت انفصالها في مايو/أيار من عام 1991، بعد أسابيع قليلة من سقوط نظام الرئيس الراحل سياد بري ولم تحظَ باعتراف دولي إلا من تايوان ثم إثيوبيا التي عينت فيها سفيرا في أغسطس/آب الماضي.
وأشار إلى أن الحكومة الصومالية تعول على التنسيق المرتقب بين القاهرة وأنقرة ليقوما بدور فعال في تحجيم الدعم الإثيوبي للانفصاليين، خصوصاً في ظل إعلان الدولتين رفضهما للاتفاق الإثيوبي الأخير مع أرض الصومال بخصوص تأجير مساحة في ميناء بربرة لحكومة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد.
وختم السفير تصريحه بالتأكيد على أن الوجود العسكري المصري في الصومال يرتكز على وضع قانوني شرعي ولا يخالف التقاليد والأعراف الدولية، مشيرا إلى أن تلك الخطوة لا ينبغي لإثيوبيا أن تنظر إليها من باب التصعيد بل لإعادة قراءة سياساتها وتوجهاتها الخارجية المتبعة خلال الأعوام الأخيرة.
تجربة اليمن غير قابلة للتكرار
هل يمكن أن يؤدي الوجود العسكري المصري في ظل التوترات الحادة مع إثيوبيا إلى تصعيد عسكري خصوصاً في ظل وجود ما يقرب من 10 آلاف جندي إثيوبي في الصومال حالياً ضمن قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي؟ وهل يمكن أن تتورط مصر في حرب بمنطقة وعرة التضاريس تشبه ما عاشته القوات المصرية في اليمن في ستينيات القرن الماضي؟
طرحنا هذا السؤال على خبير عسكري ولواء سابق في الجيش المصري، فقال إن مصر لا تتدخل عسكرياً ولا تلجأ إلى القوة الخشنة، وهذا أسلوبها في التعامل مع الأزمات المختلفة، لكنه لم ينف أن تستغل القاهرة الوجود العسكري على الحدود مع إثيوبيا كأداة من أدوات توصيل الرسائل إلى أديس أبابا بأن مصر تمتلك حلولاً عسكرية للدفاع عن مصالحها.
وكان الدكتور أبيل أياتي ديميسي، زميل مشارك في برنامج أفريقيا بمركز تشاتام هاوس بلندن، قد حذر من انزلاق المنطقة إلى مواجهة مباشرة بين مصر وإثيوبيا إذا لم يتم التعامل مع التوتر المتصاعد بأقصى قدر من الحذر، مشيراً إلى أنه إذا كانت القوات المصرية ستكون جزءاً من مهمة حفظ السلام دون أي مناقشة أو اتفاق مع إثيوبيا، فقد يؤدي ذلك إلى مواجهة مباشرة بين البلدين.
لكن الخبير العسكري المصري أكد على نفي هذا الاحتمال، معتبراً أنه لا يناسب أياً من مصر وإثيوبيا، فالقاهرة التي نجحت في تجنب الانزلاق في مواجهات عسكرية مباشرة في ليبيا والسودان من قبل حريصة على عدم التورط في حروب لا داعي لها، سواء لتجنب التكلفة الكبيرة لأي حرب، أو لتعقّد وتشابك المشهد في الصومال السياسي والأمني والجغرافي. "مصر لا يمكن أن تكرر خطأ حرب اليمن مجدداً، وهذا ما أثبته أداء العسكرية المصرية في السنوات الأخيرة" على حد قوله.
كذلك فإن أديس أبابا، ورغم الضجة التي أحدثتها، وقيامها بتعيين سفير لها في أرض الصومال رداً على إرسال القوات المصرية لمقديشو، تُدرك جيداً أن لديها أزمات داخلية ومشروعات لحروب أهلية مرشحة للانفجار في أي وقت، ما يعني أن تورطها في نزاع عسكري مع قوة إقليمية مهمة بقيمة مصر يزيد احتمالات تفجر الأوضاع.