جاء الإعلان عن خطط لنشر صواريخ أمريكية من طراز توماهوك وكروز بعيدة المدى في ألمانيا، على هامش قمة الناتو، ليثير غضب روسيا وتهديدات برد عسكري، فما قصة هذا التصعيد؟ ولماذا الآن؟
ووفقا لما أعلن عنه البيت الأبيض والحكومة الألمانية، الخميس 11 يوليو/ تموز، تعتزم الولايات المتحدة معاودة نشر أنظمة تسليح تقليدية يصل مداها إلى الأراضي الروسية، حيث يبلغ مدى صواريخ توماهوك وكروز الأمريكية 'إلى أكثر من 2500 كيلو متر، بينما تبعد موسكو عن برلين 1600 كيلو متر.
هذه هي المرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة واشنطن والمعسكر الشرقي بقيادة موسكو التي تقدم فيها أمريكا على هذه الخطوة، وهو ما أثار رد فعل غاضب من جانب روسيا وتهديدات بالرد العسكري.
نشر صواريخ أمريكية.. حرب باردة جديدة؟
جاء الإعلان عن هذا الاتفاق على هامش قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تستضيفها واشنطن بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحلف العسكري الغربي. ويشمل القرار نشر صواريخ كروز غير نووية من طراز توماهوك وإس-إم-6 وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت على الأراضي الألمانية، اعتبارًا من عام 2026.
أعاد هذا القرار، بمجرد الإعلان عنه، أجواء الحرب بين الاتحاد السوفييتي والغرب بقيادة أمريكا، وتسبب في حرب كلامية بين موسكو وواشنطن، في توقيت يشهد بالفعل تصعيداً كبيراً بين الطرفين على خلفية الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ فبراير/ شباط 2022.
إذ أثار إعلان الولايات المتحدة عن خطة لنشر صواريخ بعيدة المدى في ألمانيا للمرة الأولى منذ الحرب الباردة مقارنات بأزمات الصواريخ الأوروبية في الثمانينيات، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية. وتبادل المسؤولون الروس والأمريكيون الاتهامات بالتحريض على التصعيد، بينما حذر خبراء الحد من الأسلحة من أن نشر الصواريخ الأمريكية في القارة الأوروبية يمكن أن يؤدي إلى سباق تسليح جديد.
كيف بررت ألمانيا القرار؟
من جانبه، دافع المستشار الألماني أولاف شولتز عن القرار وقال إنه "يتناسب تماماً" مع الاستراتيجية الأمنية لحكومته، على الرغم من الانتقادات التي أثارتها هذه الخطوة، وسط مخاوف من أنه قد يجعل ألمانيا أكثر عرضة للهجوم.
كشف شولتز أنه تم إقرار نشر أسلحة بعيدة المدى في الاستراتيجية الوطنية الأولى لأمن جمهورية ألمانيا الاتحادية قبل عام، مضيفاً: "ولهذا السبب فإن قرار الولايات المتحدة يتماشى تماما مع هذه الاستراتيجية التي ناقشناها علنا منذ فترة طويلة"، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.
وعلى هامش قمة الناتو، قال شولتز للصحفيين: "نعلم أن هناك تسلحاً هائلاً في روسيا بأسلحة تهدد الأراضي الأوروبية"، وأضاف أنه على مدار فترة طويلة، تمت مناقشة طيفية الرد على هذا التحدي،إلى جانب مظلة الحماية النووية للناتو بوسائل الردع التقليدية.
انتقادات ألمانية للقرار
لكن اللافت هنا هو أن شولتز نفسه كان قد احتج في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان سياسياً شاباً في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، على قرار مزدوج لحلف الناتو كان يتضمن، ضمن أمور أخرى، نشر صواريخ متوسطة المدى من نوع بيرشينغ 2 والتي تم سحبها مرة أخرى بعد نهاية الحرب الباردة عام 1991.
ورداً على سؤال عما إذا كان يتوقع أن تكون هناك معارضة كبيرة داخل ائتلافه الحاكم ضد عودة مثل هذه الأسلحة ذات المدى البعيد إلى ألمانيا، بما في ذلك من داخل حزبه الاشتراكي، قال شولتز: "تم إعداد هذا القرار منذ وقت طويل، ولن يكون هذا مفاجأة حقيقية بالنسبة لكل من يشتغلون بسياسات الأمن والسلام".
ولفت المستشار الألماني إلى أن قرار نشر الصواريخ الأمريكية في ألمانيا يتماشى تماما مع استراتيجية الأمن للحكومة الاتحادية الألمانية التي تمت مناقشتها علناً.
لكن سياسيون من حزب الخضر الألماني انتقدوا موافقة شولتز على السماح بتواجد الصواريخ الأمريكية على الأراضي الألمانية، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC. ويشكل حزب الخضر جزءاً من الائتلاف الحاكم الذي يتزعمه شولتز، وأوضحت المتحدثة باسم الخضر لشؤون الأمن، سارة ناني، إحباطهم من القرار، وقالت لصحيفة راينيش بوست "يمكن أن يزيد ذلك من المخاوف ويترك مجالاً للتضليل والتحريض".
لماذا هذا القرار الآن؟
وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، خلال حديثه في قمة الناتو في واشنطن، قال إن الفكرة وراء الخطة الأمريكية هي "تشجيع ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى على وضع استثماراتها الخاصة في تطوير وشراء صواريخ طويلة المدى"، وأوضح أن النشر المؤقت للأسلحة الأمريكية من شأنه أن يمنح حلفاء الناتو الوقت للاستعداد: "نحن نتحدث هنا عن فجوة خطيرة بشكل متزايد في القدرات في أوروبا".
وفي هذا السياق، دشنت فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا الخميس مبادرة لتطوير صواريخ كروز تطلق من الأرض ويزيد مداها على 500 كيلومتر لسد فجوة في الترسانات الأوروبية تقول تلك الدول إن الحرب الروسية في أوكرانيا كشفتها.
ووقع وزراء دفاع الدول خطاب نوايا بهذا المعنى على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في واشنطن. إذ انضم بيستوريوس إلى زملائه من فرنسا وإيطاليا وبولندا في التوقيع على خطاب النوايا الهادف إلى تطوير صواريخ طويلة المدى في أوروبا.
وذكرت وكالة الأنباء الإيطالية أنسا أن الهدف من النهج الهجومي الأوروبي طويل المدى (إلسا) هو تحسين القدرة الصاروخية الأوروبية، والتي كانت "في أمس الحاجة إليها لتحسين قدرة الردع في قارتنا والدفاع عنها".
ماذا عن رد فعل روسيا؟
لم يتأخر رد الفعل الروسي بطبيعة الحال، إذ أكد نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أن قرار واشنطن وبرلين، نشر صواريخ فرط صوتية وطويلةِ المدى على الأراضي الألمانية، يهدف إلى الإضرار بأمن روسيا، مشيراً إلى أن موسكو سترد بهدوء ومهنية على الخطوة الأمريكية.
"حلف الناتو الآن متورط بشكل كامل في الصراع (في أوكرانيا)"، بحسب ريابكوف، مضيفاً أن قرار نشر صواريخ أمريكية بعيدة المدى على الأراضي الألمانية ما هو إلا "حلقة في سلسلة متواصلة من التصعيد (من جانب الناتو)"، بحسب الغارديان.
أما دمتري بيسكوف، المتحدث باسم الحكومة الروسية، فقد قال إن هذه الخطوة تمثل "تهديداً غاية في الخطورة على روسيا"، مضيفاً أن موسكو ستقوم بتحليل هذه الخطوة "بشكل متأنٍ ومنسق لاتخاذ الإجراءات الكفيلة باحتواء حلف الناتو".
ثم ردت واشنطن على الرد الروسي؛ حيث قال جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي: "ما سنقوم بنشره في ألمانيا عبارة عن قدرات دفاعية شأنها شأن القدرات الدفاعية الكثيرة الأخرى التي قمنا بنشرها على أراضي الحلفاء خلال العقود الماضية. ولن تردعنا التهديدات الكلامية الروسية عن القيام بما نعتقد أنه ضروري للحفاظ على قوة تحالفنا قدر المستطاع".
وماذا بعد؟
تطرح هذه الخطوات التصعيدية والاتهامات المتبادلة بين واشنطن وموسكو سؤالاً بديهياً: إلى أين قد تصل الأمور إذن؟ أو ما هي الحلقة الأخيرة في هذه السلسة المتواصلة من التصعيد المتبادل منذ بدأت الحرب الأوكرانية قبل أكثر من عامين ونصف العام؟
وهذا بالتحديد ما طرحه هانز كريستنسين، مدير مشروع المعلومات النووية في اتحاد العلماء الأمريكيين، حيث قال للغارديان: "أولاً تبدأ روسيا تطوير ونشر صواريخ متوسطة وطويلة المدى في خرق للاتفاقية بشأن تلك الصواريخ. ثم تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاقية ذاتها وتقوم بنشر نفس الصواريخ. ثم سترد روسيا عن طريق نشر الصواريخ ذاتها. هل لدى أي طرف خطة ما أم أن الجميع يتصرف دون تفكير؟!"
تبدو هذه التساؤلات في محلها تماماً بالنظر إلى ما وصلت إليه الأمور منذ انفجرت الأزمة الأوكرانية، التي هي بالأساس أزمة جيوسياسية ممتدة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وتحولت إلى الحرب الأكبر في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.
ففي البداية كانت هناك خطوطاً حمراء بدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حريصة على عدم تخطيها، مثل إرسال أنظمة تسليح غربية يمكن أن تستخدمها كييف في ضرب الأراضي الروسية، وبخاصة أنظمة الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المتقدمة، لكن مع مرور الوقت سقطت تلك الخطوط الحمراء وأصبحت الأسلحة الغربية المتقدمة متواجدة بوفرة بين أيدي الجيش الأوكراني.
وعلى الرغم من مرور أكثر من عامين ونصف العام تقريباً على اندلاع الحرب، التي تصفها موسكو بأنها "عملية خاصة لحماية الأمن القومي" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر"، إلا أن الأمور باتت شبه متجمدة في ساحة المعركة، والسؤال هنا: إلى متى؟ وكيف يمكن ضمان ألا تتسبب هجمات أوكرانية في العمق الروسي بأسلحة أمريكية في سقوط قتلى روس في رد فعل روسي يتجاوز حدود أوكرانيا؟ يتم طرح هذه الأسئلة في كل مرة يتخذ أحد الأطراف خطوة يراها الآخر تصعيدية لكن في النهاية يتم تهدئة الموقف، فماذا لو وقع خطأ أو قرر طرف ما تخطي سياسة "حافة الهاوية" هذه بناء على تقديرات خاطئة لرد فعل الطرف الآخر؟ الحديث هنا عن القوتين الأكبر تسليحاً بسلاح نهاية العالم – الترسانة النووية. فروسيا هي أكبر قوة نووية تليها الولايات المتحدة، وأي صراع نووي قد يتسبب في تدمير الكوكب بأكمله وليس فقط طرفي الصراع. لكن يبدو أن هذا آخر ما يشغل بال الأطراف المستمرة في مسار التصعيد دون "خطة" لكبحه، بحسب أغلب المراقبين.