في ساعات مبكرة، وعلى أضواء الفجر، وصل مصطفى محمد من بني سويف إلى القاهرة رفقة ابنه إياد، الذي يعاني من ضمور العضلات وتأخر ذهني، ليحجز دوره بعيادة استشاري المخ والأعصاب التابعة للتأمين الصحي المجاورة لمبنى محافظة الجيزة.
يقول الأب محمد إنه يأتي يوم الثلاثاء، اليوم المخصص للكشف، وذلك للحصول على وصفة صرف الدواء لابنه، ونظراً للازدحام الشديد أمام عيادات الهرم التابعة للتأمين الصحي فإنه يضطر للسفر ليلاً ليحجز مكانه، لأن الطبيب يكشف على عدد معين فقط ويتم صرف الباقي.
محمد واحد من عشرات الحالات التي وصلت إلى طابور قبل صلاة الفجر والذي امتلأ إلى آخره قبل أن يطلع ضوء النهار، وهذه هي معاناة من أراد الكشف في عيادات التأمين الصحي، حسب الشهادات التي استقاها "عربي بوست" من مجموعة من المواطنين على عين المكان.
ويخدم المركز الصحي التابع للتأمين الصحي في القاهرة ثلاث محافظات، ويحضر الأطباء بعد التاسعة، ويتم الكشف على عدد معين من المواطنين، ويتم صرف الباقي للأسبوع الذي يليه.
اختفاء الأدوية والعمليات ضمن الطابور
عبد الجواد، رجل يبلغ من العمر 72 سنة، التقاه "عربي بوست" بجانب مبنى عيادات التأمين الصحي، والذي يقول إنه يحضر على الساعة الثالثة صباحاً حتى يحصل على دوره في العلاج على الساعة العاشرة.
أما أحمد الذي جاء من محافظة الفيوم مبكراً، وبعد انتظار مدته 10 ساعات في الطابور، اكتشف أن الطبيب لم يداوم في العيادة في هذا اليوم، وعليه العودة مرة أخرى، حسب ما قال لـ"عربي بوست".
وليست مشكلة الطابور هي الوحيدة في عيادات التأمين الصحي في مصر، بل إن صرف الأدوية التي يصفها الأطباء مختفي من الصيدليات التابعة للتأمين الصحي، مما يجبر المرضى على شرائها من الخارج.
أما فرصة الحصول على موعد لإجراء عملية جراحية على حساب التأمين الصحي في مصر، فأصبح الأمر أشبه بالمعجزة، حسب ما عاينه "عربي بوست" من داخل مبنى المركز الصحي بمحافظة الجيزة.
ورغم المعاناة التي يعيشها المواطن المصري للحصول على حقه في العلاج على حساب التأمين الصحي، فإن الميزانية التي ترصد لهذا الأخير تطرح سؤال أين تذهب هذه الأموال والمواطن لا يتلقى العلاج في ظروف آدمية.
وكشف الدكتور حسام عبد الغفار وزير الصحة والسكان المصري أن ميزانية الهيئة العامة للتأمين الصحي لسنة 2024/ 2023 هي حوالي 45 مليار جنيه، فيما قدرت المصروفات بحوالي 34 مليار جنيه، وقدرت الأرباح وهي فائض مرحل بحوالي مليار ونصف جنيه.
فيما حذر محمود فؤاد، مدير جمعية الحق في الدواء، من توجه الدولة للاستثمار في مجال الصحة على حساب المواطن المصري، وما حدث خلال شهر واحد من إعلان تحقيق التأمين الصحي لمكاسب كبيرة مع تردي الخدمة.
بالإضافة، يقول المتحدث أن قانون تأجير المستشفيات، هو مؤشر كارثي على مخطط الدولة المصرية لغسل يدها من ملف الصحة، وفقا لتوجيهات صندوق النقد الدولي.
وتابع فؤاد في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست": "من يتابع طريقة تمرير قانون تأجير المستشفيات المصرية خلال 10 أيام فقط، خاصة، سيلاحظ الإجراءات المسبقة التي اتخذتها الحكومة تمهيدا لإقرار القانون بشكل خبيث".
ومن بين هذه القرارات رفع أسعار الخدمات الطبية في المستشفيات الحكومية، وتقليل الأدوية التي يتم صرفها ممّا يعكس التوحش الذي يعانيه وسيعانيه الشعب المصري من تلك السياسات الراسخة في منهج النظام الحاكم بمصر".
وأشار إلى ما جاء في تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، والذي ذكر أن 10% من ناتج المصريين يذهب إلى القطاع الصحي بسبب الغلاء، وهو ما يجعل من الضروري أن تسرع الحكومة في تطبيق قانون التأمين الصحي الشامل، ولكن مع معالجة الأخطاء التي ظهرت مع التطبيق التجريبي في المحافظات الست الأولى للقانون.
وختم مدير جمعية الحق في الدواء تصريحاته قائلاً: "لم نسمع عن رهانات حكومية بتحقيق منظومة التأمين الصحي لـ أرباح، ولكن رهان الدول على كسب شعبية المواطنين، خاصة وأن مصر لا تملك أي أرقام عن التأمين الصحي".
وأعربت النائبة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، عن حزنها لحال مستوى التأمين الصحي في مصر، الذي وصفته بالـ"وضع المتردي".
وترى مها عبد الناصر أن منظومة التأمين الصحي القديمة سيئة ولذلك تم اللجوء إلى التأمين الصحي الشامل، ولكن للأسف هناك بطء شديد في تطبيق المشروع.
وقالت المتحدثة إنه من المفترض أن ينتهي تطبيق المشروع على كافة محافظات مصر في 2030، ولكن الواقع يعكس أننا ما زال أمامنا وقت طويل، ولذلك كان يجب على الحكومة أن تعمل على تحسين الخدمات في المنظومة الحالية لحين تعميم المنظومة الجديدة للتأمين.
بين التأمين العام والخاص
وعن حجم الفجوة الكبيرة بين خدمات التأمين الصحي الحكومي والخاص، يروي عبد الرحمن فايد، لـ"عربي بوست" أنه نقل علاجه من التأمين الخاص إلى الحكومي وهناك فرق كبير في جودة الخدمات الطبية المقدمة.
وزاد الضغط على المستشفيات الحكومية، ومنها عيادات التأمين الصحي في مصر، بسبب ارتفاع تكاليف الكشف لدى الأطباء في الآونة الأخيرة، حسب ما رصده "عربي بوست".
ويقول عبد الرحمن لـ"عربي بوست" تعرضت لإصابة في ذراعي واحتجت إلى عملية عاجلة لكن تم تحديد موعد بعد 4 أشهر رغم أن حالتي الصحية لا تسمح بالانتظار كل هذه المدة.
وأضاف المتحدث: "في كل مرة أقوم بالكشف يتم عرضي على طبيب مختلف، وأكون في كل مرة مضطر لأحكي له تفاصيل الإصابة، أما إذا أردت الكشف عند نفس الطبيب فأنا مضطر للانتظار أسابيع أو ربما أشهر".
يقول عبد الرحمن لـ"عربي بوست" بسبب الإصابة البليغة، وبعد انتظار لمدة شهرين التجأت لمستشفى خاص لإجراء العملية رغم أن وضعي المادي لا يسمح، لكن قمت بالاقتراض من أجل العلاج.
وهناك نوعان من التأمين الصحي في مصر التابع للحكومة، الأول هو التأمين الصحي العام، والمعمول به منذ عام 1964، والذي يقدم خدماته الطبية عـن طريق الهيئة العامة للتأمين الصحي التابعة لوزارة الصحة المصرية.
ويعد هذا النوع هو الأكثر شيوعاً، حيث ينخرط فيه موظفو القطاع الحكومي والعام، وكذلك موظفو القطاع الخاص التي تعاقدت مؤسساتهم مع الهيئة، وكذلك عمال المقاولات وأصحاب المعاشات والأرامل المسجلين.
كما ينخرط فيه فئات أخرى مثل المرأة المعيلة، طلاب المدارس، والأطفال تحت سن المدرسة، ويحكمه العديد من القوانين القديمة، لكنه يستفيد منه أقل من نصف الشعب المصري عن طريق اشتراكات.
أما النوع الثاني، فهو التأمين الصحي الشامل الذي تعمل الدولة على تعميمه والذي يغطي جميع المواطنين، ويقوم على فصل تقديم الخدمة عن تمويلها وعن آليات الرقابة عليها.
وتتولى 3 هيئات إدارة نظام التأمين الصحي الشامل وهي:
– الهيئة العامة للرعاية الصحية، وتتولى تقديم الخدمات الصحية التأمينية.
– هيئة التأمين الصحي الشامل، وتتولى إدارة وتمويل وشراء الخدمات الصحية. – الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية، وتتولى وضع معايير الجودة واعتماد المنشآت الصحية والرقابة الصحية على استدامة الجودة داخل المنشآت الصحية.
يقول الخبير الاقتصادي الدكتور محمد عبد الهادي عن فكرة تحقيق المكاسب من مشروع التأمين الصحي على حساب الخدمة ذاتها، إن "نظام التأمين الصحي هو نظام اجتماعي تكافلي يقوم على مبدأ من مبادئ التنمية المستدامة من جانب الدولة في بعدها الاجتماعي.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" إن الرؤساء حول العالم يسعون في برامجهم الانتخابية إلى وضع أولويات المواطن الصحية، ومن أهم واجبات الدولة هو الاهتمام بصحة المواطن، وهو ما نجده في دول مثل أمريكا وإنجلترا والسعودية والإمارات، وهنا تكون الأولوية دائما للخدمة ومستواها".
وفي حديثه مع "عربي بوست"، يوضح عبد الهادي أن قطاع التأمين الصحي في مصر لا يحظى باهتمام مناسب، لاسيما وأن نسبة الإنفاق عليه في مصر 3% من إجمالي 6.4 تريليون جنيه.
ولفت إلى أن الاهتمام بالتأمين الصحي في السعودية يستحوذ على 27% من الموازنة العامة الخاصة بها، ونفس الشيء يتكرر في الكويت والإمارات حيث الاهتمام بالمواطن.
واستبعد الخبير الاقتصادي أن يمكن أن يحقق التأمين الصحي الشامل في مصر طفرة علاجية وتحسنًا في تقديم الخدمات الصحية، مبرراً ذلك بـضعف البنية التحتية الصحية وقلة عدد المستشفيات فضلاً عن هجرة الأطباء المصريين إلى الخارج.
المراكز التجريبية
ورغم الآمال الكبيرة المعقودة على تطبيق التأمين الصحي الشامل على كافة المحافظات، إلا أن المحافظات التي طبقته شهدت الكثير من السلبيات، وإن كان هناك تغيير ملحوظ عن النظام القديم.
وبحسب سماح سيد، التي تعمل إدارية بأحد مستشفيات بورسعيد، فإن المستشفيات الحكومية شهدت طفرة كبيرة في التطوير من حيث الأجهزة وتجهيزات الغرف، ولكن مازال هناك خلل في المنظومة.
وتقول سماح: "وفقاً للمنظومة الجديدة المطبقة، فقد تم تقسيم المحافظة بالكامل إلى مراكز طبية، ويكون تعامل سكان كل منطقة مع هذا المركز، وهو الذي يقوم بتوزيع الكشف على المستشفيات المختلفة".
وتوضح سماح لـ"عربي بوست" أن هناك شكاوى كثيرة من معظم الكشوفات المخصصة للتأمين الصحي داخل المستشفى كونها تكون أمام أطباء حديثي التخرج، وأن هناك أيضا عجزاً كبيراً في الاستشاريين، وكذلك مازال هناك قوائم انتظار لإجراء العمليات، والأمر المزعج للمنتفعين من الخدمة أنهم لا يجدون آذاناً صاغية لشكواهم رغم تكرارها".
من جهته يقول إسلام عبد المجيد، القيادي بحزب العيش والحرية – تحت التأسيس – بمحافظة بورسعيد، إن التطبيق التجريبي للتأمين الصحي الشامل أثبت ضرورة أن تكون هناك مشاركة من المنتفعين من الخدمة في إدارة المشروع، وهو الأمر المعمول به في الكثير من الدول بحيث يكون صوت أصحاب المال والخدمة، وفى نفس الوقت يكون عيناً لهم داخل إدارة المشروع.
ويؤكد عبد المجيد في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، أنه من الضروري أن تدرك الحكومة، أن هذا المشروع هو ملك دافعي الاشتراكات، ولذلك يجب أن يتم تطوير الخدمة داخل كل محافظة من الفائض المالي داخل المحافظة، ولا تعتبره الدولة مشروع استثمارياً يعود لها بالعائد المالي حتى لا تتكرر مآسي النظام القديم، ولكي نضمن نجاح المنظومة الجديدة.
وبحسب شهادات عدد من الصحفيين العاملين في مؤسسات صحفية تابعة لـ"شركة المتحدة" المسيطرة على سوق الإعلام في مصر، وتابعة لأجهزة سيادية مصرية، فكافة العاملين في مجموعات المتحدة منخرطون في نظام "هاي كير"، حيث العلاج يكون في أكبر المستشفيات الخاصة بمصر.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه الشعب المصري تعميم حلم التأمين الصحي الشامل، والذي قد يتأخر أكثر من 10 سنوات حتى يعمم في المحافظات الكبرى، تستمر معاناة الغالبية أمام مستشفيات التأمين، بينما تحظى الصفوة من الحكومة والقريبين منها بخدمات صحية على مستوى خمس نجوم.