حقق حزب العمال انتصاراً ساحقاً في الانتخابات التشريعية في بريطانيا، يوصف بأنه أكبر تحول لأي حزب في المملكة المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، فكيف قد ينعكس هذا الفوز على اليسار في العالم؟
أظهرت النتائج الأولية فوز حزب العمال، برئاسة كير ستارمر، بأكثر من 400 مقعد في مجلس العموم، المكون من 650 مقعداً، وهو ما يعني حصول الحزب الغائب عن مقاعد السلطة منذ 14 عاماً على أغلبية برلمانية هي الأكبر لأي حزب حاكم خلال القرن الحالي، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
أقر رئيس حزب المحافظين ورئيس الحكومة، ريشي سوناك، بالهزيمة، فجر الجمعة 5 يوليو/ تموز، وقال للصحفيين: ""فاز حزب العمال بهذه الانتخابات العامة، اتصلت بالسير كير ستارمر لتهنئته بفوزه".
زلزال سياسي في بريطانيا
على الرغم من أن استطلاعات الرأي كانت تشير إلى تقدم حزب العمال على المحافظين في هذه الانتخابات العامة، التي أجريت الخميس 4 يوليو/ تموز، إلا أن ما حدث فعلاً، بحسب ما أظهرته النتائج الأولية، أمر لم يتوقعه أحد، في ظل الهزيمة المنكرة التي مني بها الحزب الذي كان يدير المملكة المتحدة منفردا طوال نحو عقد ونصف العقد.
فقبل خمس سنوات، كان عدد قليل من السياسيين أو المعلقين يتوقعون أن يتعافى حزب العمال بهذه السرعة، لكن أحد أبرز ما أفرزته هذه الانتخابات حتى الآن هو أن السياسة البريطانية قد أصبحت "أكثر تقلباً" من أي وقت مضى، بحسب الغارديان.
ففي الانتخابات الأخيرة، التي أجريت عام 2019، كان هناك حديث عن إعادة تنظيم السياسة البريطانية، حيث انتزع المحافظون، بقيادة بوريس جونسون، مناطق الطبقة العاملة التقليدية من حزب العمال، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الناخبين في تلك المناطق كانوا على استعداد لدعمه لإكمال مشوار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست".
على الجانب الآخر، كان حزب العمال بحاجة إلى "معجزة" لم تتحقق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لأي حزب سياسي كي يفوز في هذه الانتخابات بأغلبية بسيطة (أي 326 مقعداً)، لكن مع ظهور النتائج بدا واضحاً أن الحزب في طريقه لتحقيق ما هو أكبر من هذه المعجزة، مستفيداً على ما يبدو من تحول تركيز الناخبين إلى السجل الاقتصادي الضعيف للمحافظين منذ عام 2016.
لكن في الوقت نفسه، يشير هذا الانتصار الساحق لحزب العمال بزعامة ستارمر إلى عدم وجود عملية إعادة اصطفاف طويلة الأمد، حيث تتحكم الولاءات القديمة في السياسة البريطانية. فالناخب البريطاني على استعداد تام للحكم على الساسة بقسوة إذا اعتبر أنهم فشلوا في تحقيق ما وعدوا به؛ ويعني هذا أن الفوز الساحق في انتخابات ما لا يجعل الهزيمة في الانتخابات التالية لها أمراً مستحيلاً.
ستارمر.. أقوى زعماء اليسار
بحسب تحليل لمجلة فورين بوليسي الأمريكية بعنوان "ما يعنيه فوز العمال في بريطانيا بالنسبة لليسار حول العالم"، يعتبر ما يحدث في المملكة المتحدة في هذه الانتخابات أمراً غير اعتيادي بالنسبة لأحزاب يسار الوسط في أوروبا والعالم، إذ يبدو حزب العمال في طريقه للحصول على ما يصل إلى 79% من مقاعد مجلس العموم، وهو انتصار قد يفوق حتى الفوز الانتخابي الساحق الذي حققه رئيس الوزراء العمالي السابق توني بلير في عام 1997.
"يقدم (هذا الانتصار الساحق) دروساً للتقدميين في كل مكان حول العالم، وسوف يحضر ستارمر المهيمن سياسياً قمة مجموعة السبع (التي ستعقد العام القادم في كندا) كزعيم يتمتع بسيطرة سياسية كاملة وشعبية لا جدال فيها، وهو ما يمثل تناقضاً صارخاً مع نظيريه في فرنسا وألمانيا، إيمانويل ماكرون وأولاف شولتس، اللذين يواجهان معدلات رفض عالية ويكافحان من أجل متابعة أجنداتهما الحاكمة"، بحسب فورين بوليسي.
وبشكل عام، سنعكس انتصار حزب العمال في المملكة المتحدة على ثلاثة جوانب رئيسية:
- إعادة صياغة الكيفية التي يمكن بها للتقدميين الفوز في الانتخابات الوطنية
- رفع سقف ما يمكن أن يحققه الديمقراطيون الاشتراكيون (اليسار)؛ فهذا الانتصار سيعيد تشكيل السياسة البريطانية بطرق جديدة وغير متوقعة قد تكون أكثر أهمية من النصر نفسه؛
- قلب التصورات الخارجية عن المملكة المتحدة وإعادة ضبط وجهات النظر الدولية للبلاد ومستقبلها.
البعد عن الشعارات والتركيز على "النتائج"
يتلخص جزء من نجاح ستارمر في التركيز على النتائج وليس فقط الاعتماد على "الشعارات الأخلاقية"، وبخاصة في قضايا الحرب الثقافية مثل حقوق المتحولين جنسياً وماضي بريطانيا الاستعماري وملف الهجرة، وجميعها قضايا حاول اليمين البريطاني توظيفها.
- فقد تعهد ستارمر، وهو محامٍ سابق في مجال حقوق الإنسان، بإلغاء خطة "ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا"، وهي خطة مثيرة للجدل تماماً جاء بها حزب المحافظين. لكن ستارمر ارتكز في تعهده بإلغاء "خطة ترحيل رواندا" على أساس التطبيق العملي لهذه الخطة، وليس انطلاقا من "التعهد الأخلاقي الأوسع".
- أما فيما يتعلق بملف الهجرة بشكل أوسع، فقد تعامل حزب العمال بحذر شديد، وعلى الرغم من أن هذا الحذر قد لا يكون تعبيراً عن "الشجاعة"، لكنه نجح بشكل واضح كما أضهرت نتائج الانتخابات. فعلى الرغم من كل المحاولات التي سعت لإشعال فتيل الحروب الثقافية في هذه الانتخابات، ظل حزب العمال مركزاً على "النتائج" وليس الشعارات التقليدية.
- حاول المحافظون، بزعامة سوناك، إشعال الحرب الثقافية وجعل الانتخابات بشأنها دون سواها، إلا أن الأمور التي ظلت الأكثر أهمية بالنسبة للناخبين في المملكة المتحدة هي الفساد الملحوظ وانتهاك القواعد من جانب كبار المحافظين، والذي بلغ ذروته في "الفضيحة الجارية حالياً بشأن قيام مسؤولين منتخبين باستخدام معلومات داخلية للمراهنة على موعد الانتخابات".
- كانت بريطانيا قد شهدت، في ظل حكومات المحافظين المتعاقبة عدداً من الفضائح، شملت العقود التفضيلية لمعدات الحماية لخدمة الصحة الوطنية (NHS) خلال جائحة كوفيد-19، حيث تم شراء معدات معيبة بقيمة تبلغ 4 مليارات جنيه إسترليني (5 مليارات دولار)، هناك اتهامات أن بعضها وردته شركات لها صلات بالحزب الحاكم). وهناك أيضاً "فضيحة الحفلة"، حين فرضت الشرطة غرامات على بوريس جونسون (رئيس الوزراء الأسبق) وسوناك رئيس الوزراء الحالي، بسبب خرق قوانين الحجر الصحي أثناء وباء كورونا، إضافة إلى فضيحة ممارسة الضغوط التي تورط فيها رئيس وزراء سابق آخر، ديفيد كاميرون، وتسبب ذلك كله في إثارة غضب شعبي كبير.
هزيمة غير مسبوقة لحزب المحافظين
نجحت خطة ستارمر في التركيز على النتائج والبعد عن الشعارات التقليدية لليسار، ليعاقب الناخبين حزب المحافظين بأسوأ نتيجة انتخابية له على الإطلاق في تاريخ الديمقراطية البريطانية الممتد لثلاثة قرون، بحسب الغارديان. فقد خسر ثمانية من أعضاء مجلس الوزراء المحافظين مقاعدهم البرلمانية بحلول الساعة الخامسة صباحاً بتوقيت غرينتش، وهو رقم قياسي. من هؤلاء، غرانت شابس، وزير الدفاع، وبيني موردونت، زعيمة مجلس العموم. كما خسرت ليز تراس، رئيسة الوزراء السابقة، مقعدها. أما في ويلز، فقد خسر حزب المحافظين جميع مقاعده في البرلمان.
لعبت شخصية ستارمر دوراً بارزاً أيضاً في هذا التحول الكبير الذي شهده حزب العمال، فقد وضع ستارمر خلفيته الأسرية المتواضعة في مركز الصدارة في الحملة الانتخابية في المملكة المتحدة وتحدث بشكل أصيل عن "السقف الطبقي" السائد في المجتمع البريطاني.
وكان لهذا التركيز على النشأة والأصول صدى خاص، فستارمر يخوض الانتخابات ضد سوناك، رئيس الوزراء الذي تبلغ ثروته الصافية 822 مليون دولار مما يجعله أغنى زعيم في أي دولة ديمقراطية.
"كان والدي صانع أدوات، وكان يعمل في مصنع، وكانت أمي ممرضة. لم يكن لدينا الكثير عندما كنا نكبر. ومثلي مثل الملايين من أطفال الطبقة العاملة الآن، نشأت في ظل أزمة تكاليف المعيشة. أعرف ما هو شعورك بالحرج عندما تقوم بإحضار زملائك إلى المنزل لأن السجادة رثة والنوافذ متصدعة"، كانت تلك هي خطبة ستارمر الرئيسية خلال الحملة الانتخابية.
وبعد أن أظهرت النتائج الأولية الفوز الساحق لحزب العمال، وفوز ستارمر نفسه بمقعده في البرلمان، قال إن البلاد صوتت لصالح التغيير وإن الوقت حان لأن يفي حزبه بوعده: "قال الناس كلمتهم هنا وفي جميع أنحاء البلاد الليلة، وهم مستعدون للتغيير. التغيير يبدأ هنا".
دروس لليسار حول العالم
يحمل هذا الزلزال السياسي في بريطانيا دروساً هامة لأحزاب اليسار الأخرى حول العالم، بحسب تحليل فورين بوليسي، أبرز هذه الدروس:
- لا تشكل قضايا الحرب الثقافية دافعاً مركزياً لمعظم الناخبين، ففيما يتعلق بجميع قضايا الحرب الثقافية الكبرى، يتمتع حزب العمال بمواقف أقل شعبية من حزب المحافظين. ومع ذلك، عندما ترتفع أسعار الفائدة على الرهن العقاري من 2 إلى 5%، "فهذا هو الاقتصاد يا غبي!"، عبارة بيل كلينتون الشهيرة لجورج بوش الأب (أثناء انتخابات أمريكا الرئاسية عام 1992 والتي فاز بها الأول). الخلاصة هنا أن اليسار ليس بحاجة للخوف من اتهامات اليمين الشعبوي، بل يحتاج إلى تقديم إجابات عملية وأكثر ذكاءً.
- يشكل انتهاك القواعد أو الفساد حافزاً قوياً للناخبين، وتثبت استطلاعات الرأي العالمية ذلك. يحتاج اليسار أو التقدميون إلى موقف أقوى فيما يتصل بتضارب المصالح، وممارسة الضغوط من جانب الشركات، وشراء أرقى العقارات في المدن العالمية على مستوى العالم، ومعالجة الاحتكارات الناشئة التي تنشأ بسبب التوجه السياسي، فالقيام بهذه الأمور يتعارض مع اليمين الشعبوي بشكل مباشر.
- لا يقابل هيمنة سياسات الهوية في المساحات اليسارية على الإنترنت فهم الجمهور لهذا الشكل من السياسة أو اهتمامه به. ولكي يفوز التقدميون في كسب الأصوات، فإنهم يحتاجون إلى رسل من خارج الطبقة المتوسطة العليا ولديهم تجربة حية يتردد صداها مع الأشخاص الذين يشعرون بالإحباط والإهمال.
فعلى سبيل المثال، يحتاج الديمقراطيون في الولايات المتحدة إلى أنجيلا راينر، فمن هي؟
هي واحدة من مهندسي إعادة ارتباط حزب العمال بالطبقة العاملة البريطانية، وهي الآن في طريقها لأن تصبح نائبة لرئيس الوزراء ستارمر. تنتمي راينر إلى الطبقة العاملة، وكانت أماً وهي في السادسة عشرة من عمرها، وجدة وهي في السابعة والثلاثين من عمرها.
كانت تعمل في دار رعاية قبل أن تصعد بسرعة من خلال الحركة النقابية وتصبح مرشحة عن حزب العمال. تعتبر قصة راينر درساً في كيفية الارتقاء بالأشخاص المتميزين إلى السياسة البرلمانية. صحيح أن نجاحها هو نجاحها الخاص، لكن النقابات قامت بتنميتها ودعمها الأعضاء كنائبة للزعيم. تتمتع بقوة حقيقية جاذبة لأوساط العمال، ولا يوجد أحد مثلها تقريباً في المستويات العليا للمؤسسة الديمقراطية في الولايات المتحدة.
ومن اللافت للنظر أن البعد الطبقي لم ينفر الطبقة الوسطى في إنجلترا، فقد تم صد سكان الضواحي المحبطين والليبراليين الوسطيين من قبل حزب المحافظين الذي يبدو متطرفاً على نحو متزايد. فمهنة ستارمر السابقة بصفته المدعي العام الرئيسي للبلاد، ولقب الفروسية ــ الذي يشار إليه رسمياً باسم "السير كير" ــ أعطته جاذبية واسعة النطاق، على العكس تماماً من احتضان المحافظين لقضايا اليمين الشعبوي، وهو ما أدى إلى زعزعة الدعم الذي كانوا يتمتعون به.