تمثل الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها إيمانويل ماكرون مفترق طرق ليس فقط لرئاسته أو فرنسا، ولكن أيضاً للمهاجرين وأوكرانيا، فهي أكثر الانتخابات أهمية منذ عقود.
فمن المحتمل أن تدفع هذه الانتخابات، التي فاجأ ماكرون الجميع بالدعوة إليها، حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، برئاسة غوردان بارديلا، إلى الفوز بالأغلبية البرلمانية، وبالتالي سيجد الرئيس نفسه مجبراً على العمل مع حكومة تضم ألد خصومه السياسيين.
لم يقدم ماكرون على هذه الخطوة دون سبب، فقد جاءت دعوته للانتخابات المبكرة كرد فعل على نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، التي خسر فيها حزبه خسارة كبيرة لصالح حزب التجمع الوطني، فهل سقط الرئيس الفرنسي في الفخ الذي نصبه له بارديلا؟
استجابة ماكرون لتحدي اليمين المتطرف؟
فاجأ إيمانويل ماكرون الجميع تقريباً، بما في ذلك معظم قيادات حزبه، بالدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مُني بها حزب النهضة الوسطي الذي يتزعمه أمام حزب التجمع الوطني، الذي يرأسه بارديلا خليفة مارين لوبان، في الانتخابات البرلمانية الأوروبية.
فعندما دعا غوردان بارديلا ماكرون إلى حل البرلمان الوطني الفرنسي، قبل أسبوع، بدا الأمر وكأنه تحدٍ سياسي من النوع الثقيل، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية. قال بارديلا لأنصاره: "لا يمكن لرئيس الجمهورية (ماكرون) أن يظل أصم ولا يستمع للرسالة التي بعث بها الفرنسيون هذا المساء"، في إشارة إلى نتائج الانتخابات الأوروبية.
لم يكذب ماكرون خبراً وقبل التحدي معلناً عن حل الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة لانتخابات عامة مبكرة. وبهذا الإعلان أقام ماكرون مواجهة مباشرة بين معسكره المؤيد لأوروبا والوسطية ولأوكرانيا، وبين خطاب اليمين المتطرف المناهض للهجرة والشعبوي والمتشدد بشأن القانون والنظام. .
"اليمين المتطرف هو إفقار الفرنسيين والحط من شأن بلدنا"، بحسب ماكرون في خطابه للفرنسيين: "لذا، في نهاية هذا اليوم، لا أستطيع التصرف كما لو أنه لم يحدث شيء".
كانت المرة الأخيرة التي قام فيها رئيس فرنسي بحل مجلس النواب (الجمعية الوطنية) في عام 1997، ووقتها خسر الرئيس جاك شيراك أغلبيته البرلمانية، ووصل اليسار إلى السلطة.
في الوقت نفسه، شارك عشرات الآلاف في مظاهرات في باريس ومدن أخرى بأنحاء فرنسا، السبت 15 يونيو/حزيران، للاحتجاج على حزب التجمع الوطني المنتمي لليمين المتطرف، قبل أسبوعين من الانتخابات التشريعية المبكرة، فهل هذا ما يراهن عليه ماكرون؟
إذ نقلت محطة بي.في.إم التلفزيونية عن الاتحاد العام للشغل في فرنسا قوله إن 250 ألفاً شاركوا في مسيرة باريس و640 ألفاً إجمالاً في أنحاء البلاد، وقالت الشرطة إنها اعتقلت سبعة في باريس وقدرت أعداد المشاركين في المسيرات في أنحاء البلاد بنحو 217 ألفاً.
وفي حديثها من ساحة الجمهورية، قالت صوفي بينيه، زعيمة الاتحاد العام للشغل اليساري المتطرف للصحفيين: "ننظم مسيرات لأننا نشعر بقلق بالغ من أن (رئيس حزب التجمع الوطني) جوردان بارديلا يمكن أن يصبح رئيس الوزراء المقبل… نريد منع هذه الكارثة"، بحسب رويترز.
متى وكيف ستجري انتخابات فرنسا؟
تُجرى الانتخابات البرلمانية في فرنسا عادة كل خمس سنوات؛ وكان من المقرر إجراء الانتخابات التالية في عام 2027، أي بعد شهر أو نحو ذلك من الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي لن يتمكن ماكرون من الترشح فيها، بعد أن قضى فترتين رئاسيتين بالفعل.
يتم انتخاب النواب (أعضاء البرلمان) البالغ عددهم 577 في الجمعية العامة بالاقتراع المباشر باستخدام نظام الأغلبية البسيطة من جولتين. ولكي يفوز المرشح في الجولة الأولى، يجب أن يحصل على أكثر من 50% من الأصوات المدلى بها ودعم ما لا يقل عن 25% من الناخبين المسجلين (وبالتالي فإن نسبة الإقبال مهمة).
إذا لم يحقق أي مرشح ذلك، فإن الحاصلين على أعلى الدرجات بالإضافة إلى أي مرشح آخر حصل على 12.5٪ على الأقل من إجمالي الناخبين المسجلين، يتقدمون إلى جولة ثانية من التصويت بعد سبعة أيام، وفي تلك الجولة يتم انتخاب المرشح الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات.
وعادة ما يتم انتخاب حفنة من النواب في الجولة الأولى. أما الغالبية العظمى من منافسات الجولة الثانية فتكون عبارة عن سباقات بين مرشحين، ولكن اعتماداً على نسبة الإقبال، يمكن أن يشمل بعضها ثلاثة أو حتى أربعة مرشحين، مما يترك مجالاً لاتفاقيات تكتيكية بين الأحزاب ينتج عنها انسحاب البعض، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
تم تصميم هذا النظام لجعل انتخاب المرشحين من الأحزاب المتطرفة في الطيف السياسي أكثر صعوبة. ومع ذلك، فإن الإدماج المتزايد لحزب التجمع الوطني على مدى العقدين الماضيين ضمن أن يضم البرلمان الحالي 88 نائباً من الحزب، لكن للحصول على أغلبية مطلقة، يحتاجون إلى 290 نائباً.
وستجري الجولة الأولى من الانتخابات المبكرة التي دعا إليها ماكرون يوم 30 يونيو/حزيران الجاري، بينما تجري الجولة الثانية يوم 7 يوليو/تموز.
لماذا تعتبر خطوة ماكرون "مقامرة"؟
لم يسبق لأي رئيس فرنسي أن اتخذ قرار حل البرلمان بينما تظهر استطلاعات الرأي أن حزبه قد لا يحصل على أكثر من 15% من الأصوات، وهو الوضع الذي يواجهه ماكرون الآن. بل يبدو أنه من المرجح للغاية أن يتمكن حزب التجمع الوطني من تعزيز رصيده من الأصوات والمقاعد في مجلس النواب.
وإذا كان أداء حزب التجمع الوطني جيداً بما يكفي للحصول على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية، فقد تكون العواقب وخيمة؛ إذ سيتعين على ماكرون أن يرشح رئيساً للوزراء من حزب التجمع الوطني، وسوف يدير الحزب اليميني المتطرف معظم السياسة الداخلية الفرنسية.
هذا الموقف تحديداً كان شاخصاً أمام ماكرون منذ فوزه بفترة رئاسية ثانية، وكان أنصاره يرون أنه يتعين عليه أن يخطو بحذر إذا لم يكن يريد أن ينفجر الوضع مرة أخرى. فقد كانت ولايته الأولى مليئة بأخطاء في العلاقات العامة جعلته يبدو متغطرساً أو متعجرفاً. ولا يحبه العديد من الفرنسيين، وأخبره رجل في وجهه في أثناء الحملة الانتخابية بأنه "أسوأ رئيس للجمهورية الخامسة". كما تعرض ماكرون لصفعة على وجهه من أحد المواطنين خلال أحد التجمعات الانتخابية.
كما حذر الحلفاء السياسيون من أن ماكرون سيحتاج إلى استشارة المشرعين والنقابات والمجتمع المدني بصورة أكبر، والتخلص من أسلوب الحكم من أعلى إلى أسفل، الذي كان مميزاً لولايته الأولى، والتي وصفها بنفسه بأنها "كوكب المشتري". وقتها قال النائب باتريك فينيال لرويترز: "تلقى إيمانويل ماكرون الرسالة، ومفادها أنه لا يمكنه اتخاذ قرار بشأن كل شيء من الأعلى، فهو ليس رئيس شركة. إنه يحتاج إلى قبول فكرة التفاوض والتشاور".
وكان من المتوقع أن يمثل اليمين المتطرف وممثلوه عقبة أمام ماكرون؛ إذ أبدت مارين لوبان نبرة متحدية في خطاب الإقرار بالهزيمة أمام ماكرون في جولة الإعادة الرئاسية، وتعهدت بوجود كتلة معارضة قوية في البرلمان. كما كان يتعين على ماكرون التعامل مع رفض الشارع لخططه الإصلاحية، لا سيما إصلاح نظام التقاعد الذي سيرفع الحد الأدنى لسن التقاعد تدريجياً إلى 65 من 62.
دور الرئيس والحكومة والبرلمان
بموجب الدستور الفرنسي، فإن الحكومة "تحدد وتدير سياسة الأمة"، ويصدر البرلمان القوانين ويمكنه إسقاط الحكومة، بينما يكون رئيس الدولة هو المحكم الذي يضمن "السير المنتظم للسلطات العامة".
فالرئيس، باعتباره الضامن "للاستقلال الوطني والسلامة الإقليمية واحترام المعاهدات"، مسؤول عن السياسة الخارجية والأوروبية والدفاعية، في حين تدير الحكومة- بدعم أو لا من البرلمان- السياسة الداخلية.
وهذا يعني أن معاشات التقاعد، وإعانات البطالة، والتعليم، والضرائب، ومتطلبات الهجرة والجنسية، والتوظيف العام، والقانون والنظام، وتشريعات التوظيف، كلها تقع، من حيث المبدأ، تحت اختصاص البرلمان والحكومة.
وبموجب العُرف، ولأنهم لا يريدون أن يروا حكومتهم تسقط من خلال تصويت بحجب الثقة أو اقتراح بحجب الثقة من قبل البرلمان، فإن الرؤساء يعينون دائماً رئيساً للوزراء وحكومة تحظى بدعم الأغلبية في مجلس النواب.
وبالتالي عندما يكون الرئيس والأغلبية البرلمانية متحالفين سياسياً، فإن هذا الترتيب يعمل بسلاسة نسبياً، لكن عندما لا تكون هذه الصيغة متوافرة، تكون الأمور أصعب. ومن الصعب تصور تعايش عاصف أكثر من تعايش بين ماكرون وأغلبية حزب الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف).
المتنافسون في الانتخابات المبكرة
كتلة النهضة التي يتزعمها ماكرون هي الأكبر في البرلمان المنحل إذ تضم ما يزيد قليلاً على 170 نائباً، وتتمتع ببرنامج وسطي مؤيد لأوروبا، لكن دعمه الشعبي، إلى جانب دعم الرئيس، تراجع بعد سلسلة من الإصلاحات التي لا تحظى بشعبية، وبلغت نسبة التصويت لهذا التكتل في الانتخابات الأخيرة 19%.
بينما تعرض حزب التجمع الوطني، وهو أكبر حزب معارض منفرد، للتصويت العقابي منذ فوزه في انتخابات عام 2022؛ إذ على الرغم من محاولات تطبيعه لا يزال في جوهره حزباً شعبوياً وقومياً ويمينياً متطرفاً لديه خطط لـ"تفضيل وطني" للمواطنين الفرنسيين ومليارات من الإنفاق غير الممول، وتبلغ نسبة التصويت المتوقع له 33%.
أما الجبهة الشعبية الجديدة فهي تحالف مفترض بين اليسار والخضر، أي حزب جان لوك ميلينشون اليساري المتشدد "فرنسا الأبية" (LFI)، والاشتراكيين (PS)، والشيوعيين والخضر (EELV)، وهو تحالف فضفاض لا تتفق أحزابه دائماً ولكنهم اتفقوا على تقديم مرشح واحد فيما بينهم في كل دائرة انتخابية. وإذا تمكنت هذه الكتلة من الحفاظ على تماسكها، تشير استطلاعات الرأي إلى أنها قد تحصل على ما يصل إلى 30% من الأصوات.
يضم حزب الجمهوريين (LR)، حزب يمين الوسط الذي كان يتزعمه جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، 68 نائباً في البرلمان، ولكنه في حالة انهيار بعد تعهد رئيسه، إيريك سيوتي، بتشكيل اتفاق انتخابي مع حزب التجمع الوطني (إما أن يقدم الحزبان مرشحين مشتركين) أو يتفقان على عدم الوقوف ضد بعضهما البعض)، ولا يوافق بقية أعضاء الحزب على هذا الترتيب، ومتوقع أن تكون نسبة التصويت للحزب 7%.
ما السيناريوهات المتوقعة؟
تجعل العملية الانتخابية التي تجري على جولتين من الصعب تقدير أعداد المقاعد بشكل شبه مؤكد، لكن الخبراء يتوقعون أن حزب التجمع الوطني قد يضاعف عدد نوابه إلى ثلاثة أضعاف، على الرغم من أنه من المرجح ألا يحقق الأغلبية المطلقة، في حين أن إجمالي حزب النهضة (تحالف ماكرون) قد ينخفض إلى النصف.
ومثل هذه النتيجة من شأنها أن تجعل ماكرون يواجه ثلاث سنوات من برلمان أكثر انقساماً وعدائية، حيث سيضطر إلى عقد صفقات صعبة مع أحزاب المعارضة لتشكيل حكومة وتمرير القوانين، وهو ما قد يؤدي بصورة شبه مؤكدة إلى طريق مسدود من ناحية التشريعات.
وهذا من شأنه أن يخلق مشاكل كبيرة لفرنسا، لكنه قد يكون سيناريو أقل ضرراً من سيناريو حصول حزب التجمع الوطني على الأغلبية المطلقة. فمن شأن برلمان يسيطر عليه الحزب الذي يرأسه غوردان بارديلا البالغ من العمر 28 عاماً، أن يهدف إلى المُضي قدماً في تنفيذ أجندته الداخلية.
وقد يشمل ذلك زيادة الإنفاق العام، وطرد المزيد من المهاجرين، ووقف لم شمل الأسر، وعكس الارتفاع المخطط له في أسعار الغاز، وخصخصة التلفزيون والإذاعة العامين، ومن الممكن أن تواجه بعض الخطط الأخرى، بما في ذلك "التفضيل الوطني"، عقبات دستورية.
وستكون العواقب أكثر خطورة على الجبهة الأوروبية، فرغم أن الرئيس سيحتفظ اسمياً بالسيطرة على السياسة الخارجية، إلا أن تدابير مثل تقديم المساعدة لأوكرانيا قد تتعرض للخطر لأن دعم البرلمان سيكون ضرورياً لتمويل أي دعم كجزء من ميزانية فرنسا.