تخيل أن تتحول فجأة من عامل توصيل إلى لص مُعتقل تنتظره سنوات من السجن! كانت تلك قصة حقيقية يرويها لنا بصوت يملؤه الانكسار والخذلان فتحي خليفة، أحد عمال التوصيل في مصر، ويقول: "يا ليتني لم أعمل ديليفري"، ويتذكر فتحي الأيام التي عاشها بين جدران قسم الشرطة، بعد اتهامه بسرقة إحدى الشقق بمنطقة المهندسين بالعاصمة المصرية القاهرة أثناء قيامه بتوصيل طلبية "أوردر"، إلى أحد العملاء.
ويروي فتحي صاحب الـ23 عاماً، في حديثه لـ"عربى بوست"، قائلاً: "منذ 3 أشهر كنت أوصل (أوردر) إلى عميل في حي المهندسين، وكان بالتحديد في الساعة الثانية صباحاً وصعدت إلى البرج في الدور الثامن لأتفاجأ بإحدى الشقق مفتوحة وبابها مكسور، وللأسف استرقت النظر إليها؛ إذ تفاجأت بأحد سكان العمارة يصرخ ويقول (حرامي)، وما هي إلا لحظات حتى تجمع حولي 10 أفراد، ثم جاءت الشرطة التي قبضت علي".
قصة فتحى واحدة من عشرات القصص المؤلمة يومياً، والتى يتعرّض لها عمال التوصيل في مصر "الدليفرى" في مصر، فما بين الإهانة والتعدي يتعرض الدليفرى للكثير من المآسى بمصر، بعد أن أصبحت مهنة بلا حماية، وزاد من معاناتهم استخدام العصابات تلك المهنة كوسيلة دخول للشقق من أجل سرقتها، وهو ما يجعلهم دائماً في دائرة الشبهة.
فيما ساهمت الحالة الاقتصادية بمصر في إقبال الكثير من الشباب عليها كعمل إضافى لمن يعمل، أو عمل أساسي للعاطلين، رغم تلك المعاناة، يرصد "عربى بوست" روايات من أرض الواقع لمعاناة تلك المهنة وأصحابها.
إذ قال فتحي لـ"عربي بوست": "ظللت لمدة شهرين في قسم الشرطة حتى الانتهاء من التحقيقات وتأكدت المحكمة من براءتي والوصول إلى اللص مرتكب جريمة السرقة، ولكن الأكثر ألماً هو موقف إدارة المطعم الذي أعمل فيه، فقد تبرأت مني بعد سؤالهم من قبل رجال المباحث، وعلقت فقط بأنني مجرد عامل أوصل الطلبات وأنه تقرر فصلي وعدم عودتي إلى العمل، كما أنه طوال فترة حبسي لم تحاول الاطمئنان علي، بل أصدرت ضدي حكماً مسبقاً دون التأكد من حقيقة الواقعة".
6 ملايين عامل برقم معاملات ضخم
مع نمو شركات الخدمات اللوجستية بمصر، والتي تعتمد على تطبيقات الهواتف الذكيَّة (توصيل الطلبات عبر الإنترنت) بسرعة في السنوات الأخيرة، نمت الشركات التي تنشط فيها هذه النوعية من المجالات فأصبحت تغطي مجالات واسعة من الخدمات، مثل توصيل الطعام والبريد السريع وتوصيل البقالة وخدمات التسليم عند الطلب ومنصات تسليم التجارة الإلكترونية وغيرها.
حيث تعتمد هذه الشركات عادة على شبكة من المقاولين المستقلين أو الموظفين الذين يستخدمون سياراتهم (أو دراجات هوائية ونارية) الخاصة لإجراء عمليات التسليم أو ما أصبح يعرف في مصر بـ"الطيارين" في إشارة إلى سرعة تنفيذهم للمهام.
وفى آخر تقدير لعدد العاملين بتلك الوظائف، ذكرت وزارة التضامن الاجتماعي في 2022، أن عدد العاملين في مجال توصيل الطلبات "الدليفري" وصل إلى 6 ملايين عامل مصري، ومن المتوقع أن يتضاعف العدد في ظل ضغوط الحياة الاقتصادية بمصر خلال العامين الماضيين.
وقدرت الدكتورة ميرفت صابرين، مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي للحماية وشبكات الأمان الاجتماعي، حجم النشاط في هذا المجال بأنه كبير جداً بقيمة 2.5 مليار دولار.
أجور متدنية وظروف اشتغال صعبة
وكحال كافة العمالة غير المنتظمة، فلا يتمتع أصحاب مهنة "الدليفري" بأية حماية اجتماعية، ويؤكد أحد زملاء فتحي في المطعم، أن مصيره لن يكون مختلفاً عن زميله حال حدوث واقعة مشابهة، مشدداً على غياب الحماية القانونية له من قبل أصحاب هذه المحال التي لا يهمها سوى مصلحتها الشخصية.
ويشكو عمر سعيد، فى العقد الثالث من العمر، حالة الإجهاد المتواصلة جراء عمله في ظل غياب الحماية الاجتماعية والمالية المناسبة لاحتياجية، لاسيما أنه لم يجد فرصة عمل سوى وظيفة "دليفري" في أحد المطاعم الشهيرة في محافظة الجيزة.
وبحسب حديث سعيد لـ"عربى بوست"، فإنه منذ 4 أعوام يتنقل من مطعم إلى آخر راكباً دراجته البخارية الخاصة ليبدأ العمل في السابعة مساءً وحتى السادسة صباحاً، أملاً في تحصيل عائد جيد من "البقشيش" أو "الإكرامية" إذ يعتمد عليها كمصدر دخل أساسي نظراً لضعف الرواتب في هذا المطعم.
ويفنّد عمر إجمالي دخله الأساسي، إذ يحصل على راتب أساسي 2500 جنيه (حوالي 53 دولاراً) بخلاف نسبة 35% من تكلفة التوصيل والتي تتراوح ما بين 5 و8 جنيهات، مشيراً إلى أنه يرسل نحو 12 "أوردر" خلال 11 ساعة عمل.
وأوضح أن متوسط ما يحصل عليه في الشهر كراتب أساسي ونسبة توصيل، وذلك بعد خصم دخل أيام الإجازة وتكلفة صيانة الدراجة النارية، لا يتعدى 4000 جنيه شهرياً في وقت حددت فيه الحكومة المصرية الحد الأدنى لرواتب العاملين بالقطاع الخاص بـ6000 جنيه.
مقارنة "غير ممكنة"
بالنظر إلى وظيفة الدليفري في أمريكا على سبيل المثال، فعند العمل لمدة 22 يوماً في الشهر، بمعدل 5 أيام أسبوعياً وإجازة يومين، والعمل لمدة 8 ساعات فقط يومياً، فإن مرتبك لا يمكن أن يقل عن 176 ألف جنيه مصري شهرياً، وهو مقابل لمبلغ 3520 دولاراً شهرياً، وهذا الحد الأدنى وليس متوسط أو أقصى مرتب.
في المقابل يقدر الخبير الاقتصادي الدكتور محمد عبد الهادي رواتب عمال الدليفري بمصر، بأنها تتراوح ما بين 150 و200 جنيه في اليوم، وهو ما يقل عن 5 دولارات، ما يعني الأقل من الحد الأدنى مقارنة بدول أخرى.
ويؤكد عبد الهادي في حديثه لـ"عربى بوست"، أن هؤلاء العمال يكسبون قوت يومهم باليوم وليس بالشهر، ما يعني أن هناك أياماً قد يحدث بها عجز مادي؛ سواء في أيام الإجازة أو التوقف عن العمل أو غلق المطعم الذي يعملون به لأي سبب كان أو حتى الفصل، ويضيف دخلاً شهرياً ما بين 4500 و6000 جنيه، هو بالكاد يكفي لمصاريف شخص ولا يسد حاجة أسرة، لذلك فأغلب من يعملون هذه المهنة شباب لا يتعدى عمرهم 23 عاماً أو طلاب.
إهانة وتعدّ وسرقة
من أمام عدة محلات "بارع الترسا" بمنطقة الهرم، تحدث لـ"عربى بوست"، عدد من عمال الدليفري عما تعرضوا له من قبل من مواقف سلبية، ويقول مصطفى، في العقد الثاني من العمر، كثيراً ما نتعرض للتوبيخ لدرجة تبلغ حد السب والشتم من قبل بعض الزبائن، لأسباب عديدة أشهرها تأخر توصيل "الأوردر" أو خطأ ما في الطلب نفسه، فلا يجد العميل تفريغ شحنة غضبه إلا عامل الدليفري.
ويضيف مصطفى أنه تعرض في يوم ما إلى مشكلة مع أحد العملاء الذي رفض تسلم الأوردر بسبب نقص السلطات، وهو ما دفع العميل إلى إلقاء شنطة الطعام في وجهه، وهو ما أدى إلى مشاجرة إلى حد الاشتباك بالأيدي، وبسببها ترك العمل في ذلك المطعم، وقرر العمل "دليفري بإحدى الصيدليات".
أما في المناطق العشوائية البعيدة عن أطراف المدينة فأحياناً يتعرض أحد عمال الدليفري إلى السرقة، كما حدث مع وائل الشاب الذي اشترى دراجته عن طريق نظام الأقساط ذات الفوائد التي بلغت 30% زيادة عن ثمنها الأصلي.
ففي إحدى الليالي في شتاء العام الماضي تعرض وائل إلى سطو من مجموعة من المجرمين في منطقة بعيدة عن المدينة تبعد نحو ساعة ونصف، لكنه في النهاية لم يحصل على مساعدة من المطعم بل طالبوه بمبلغ الفاتورة رغم تعرضه إلى سرقة دراجة تتعدى سعرها 30 ألف جنيه حينها.
وفي أحد الأزقة التي تعرف تواجد مروجي المخدرات حيث موقع توصيل طعام اتجه صوبه عبد الرحمن، فبعد دخوله شارعاً ضيقاً "حارة" تفاجأ بإحاطته من أفراد يحملون أسلحة بيضاء وهددوه بقتله إذا لم يسلم لهم الطعام ويرحل، ما اضطره إلى الاستجابة لهم لينجو بحياته.
وكان الرابط المشترك في شهادات عمال الدليفري، أن صاحب العمل دائماً ما يرفض أي تعامل بأسلوب غير لائق مع أي عميل حتى لو تعرض موظف الدليفري للإهانة والسبّ، وذلك بحجة شعار "الزبون على حق دائماً"، و"إذا قام أحدنا بالرد على العميل بنفس الطريقة قد يتعرض إلى الفصل من العمل فوراً"، حسب مصطفى.
مبادرة "طريقك أمان" الحكومية
فى 2022، أطلقت الدكتورة نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي، مبادرة "طريقك أمان" لحماية العاملين في مجال خدمات التوصيل أو عمال الديلفري، وذلك في إطار مد المبادرة الرئاسية لدعم العمالة غير المنتظمة، ويهدف البروتوكول إلى ضم العاملين بخدمات توصيل الطلبات تحت مظلة الحماية التأمينية، وتمكين العمالة غير المنتظمة اقتصادياً من خلال توفير مشروعات صغيرة تساهم في توليد الدخل، بالإضافة إلى المساهمة في إنشاء جمعية خدمات للعاملين بهذا القطاع والتوعية والتدريب للعاملين بقطاع خدمات التوصيل.
ورغم مرور عامين على إطلاق تلك المبادرة، إلا أن أخبارها توقفت بعد الإعلان عنها، وقال مصدر بوزارة التضامن الاجتماعي لـ"عربى بوست"، إن تلك المبادرة لم تحقق النجاح، وأصبحت طي النسيان، وذلك في ظل غياب الثقة بالمبادرات الحكومية.
وأضاف موضحاً أنه دائماً هناك تخوف لدى هؤلاء الشباب أن الحكومة عندما تسعى لفعل شيء فهي تخدم مصلحتها على حساب الشعب، ومع عمل الكثير من هؤلاء بتلك المهنة كوظيفة إضافية، وحالة انعدام الثقة، فالكثير رفض التعاون مع تلك المبادرة، وكان مصيرها الدخول طي النسيان.
معاناة العمالة غير المنتظمة بمصر
وعن ظروف عمل تلك الفئة بمصر، يقول القيادي العمالي هشام فؤاد إن العمالة غير الرسمية وغير المنتظمة تعاني من فقدان الحقوق، فرغم أن القانون يلزم أصحاب الشركات والمحلات، سواء كانت كبيرة أو صغيرة من التأمين على كل العمالة إلا أن ذلك لا يحدث على أرض الواقع.
ويضيف فؤاد في تصريح لـ"عربي بوست"، أن عمال الدليفري جزء من ملايين العمال غير المؤمن عليهم والمعرضين لمخاطر العمل، سواء الإصابة أو الفصل أو التعسف بدون حماية صحية أو تأمينية.
وينوه إلى أن العمالة غير المنتظمة تحتاج إلى فرض التأمين عليهم والتفتيش على كشوف العاملين وموقفهم التأميني، ووضع شروط على الشركات والمطاعم بالتأمين على العاملين، وفي حالة عدم تنفيذ هذه الشروط يتم غلق المحال، ولكن في الوقت نفسه استبعد فؤاد احتمالية تطبيق هذه الآلية.
وتابع: "تتبنى العديد من شركات توصيل الطلبات (نموذج التعهيد) هذا النموذج الذي يتميز بتفكك الرابطة التقليدية بين العامل والمؤسسة التي يقدم لها خدماته، وتعتمد هذه الشركات على التعهيد الخارجي، حيث تقوم بالتعاقد مع مكاتب توظيف تتولى بدورها استقطاب عمال التوصيل وتوظفهم تحت لوائها، وهذه الطريقة تتيح لشركات التوصيل التنصل من الالتزامات المرتبطة بالتوظيف المباشر، مثل توفير الحماية الاجتماعية أو الأمان الوظيفي، وترتب على ذلك العديد من المشاكل".
وبحسب ورقة بحثية عن عمال الدليفري، فقد خلصت إلى ضرورة وجود التنظيمات النقابية والمفاوضات الجماعية كوسيلة لسد الفجوات في الحقوق والحماية لهؤلاء العمال، ويجب أن تكون هذه الجهود متعددة الجوانب، تشمل تحسين ظروف العمل وتقديم شبكة أمان اجتماعية للحد من العزلة والقسوة التي يواجهونها، وبينما نتجه نحو مستقبل يزداد فيه الاعتماد على التقنيات اللوجستية، لا بد من إعادة النظر في السياسات والأطر التنظيمية لضمان أن تطورات هذا القطاع لا تأتي على حساب العمال الذين يشكلون حجر الزاوية فيه.