نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية مقالاً لهوارد فرينش، الكاتب الرئيسي في المجلة، وأستاذ الصحافة بكلية الدراسات العليا بـجامعة كولومبيا٬ التي فجَّرت ثورة الجامعات المتضامنة مع فلسطين٬ بعدما انطلقت في 17 أبريل/نيسان 2024، عندما أقام طلاب كولومبيا خياماً في باحات الجامعة مطالبين بوقف دائم لإطلاق النار في غزة، ووقف المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، والأهم بالنسبة لهم سحب استثمارات الجامعة من الشركات التي تتربح من الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة.
ويدافع الكاتب في "فورين بوليسي" عن طلبة الجامعة التي قام بالتدريس فيها طويلاً٬ بعد كيل الاتهامات لهم والتحريض عليهم إعلامياً٬ واصفاً أن احتجاجات كولومبيا وغيرها من الجامعات بأنها "بالغة الأهمية"٬ وأنها كشفت أن الخلل ليس في الطلبة بل في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية حيال إسرائيل والشرق الأوسط.
ما الذي كشفته احتجاجات جامعة كولومبيا بالنسبة لأمريكا؟
يقول فرينش إنه مع اندلاع الاحتجاجات في حرم جامعة كولومبيا٬ حفزت هذه الاحتجاجات على نطاق واسع على نحو متزايد في حرم جامعي آخر في جميع أنحاء البلاد ودول أخرى. وقد ألهمت هذه بدورها سلسلة متزايدة من ردود الفعل من قِبَل مديري الجامعات، والسياسيين، ومسؤولي إنفاذ القانون الأمريكيين، على التوالي، الذين سعوا إلى تقليص المظاهرات الطلابية أو منعها أو إدانتها أو قمعها بعنف في كثير من الحالات.
إن ما كشفته هذه اللحظة بوضوح أكبر بالنسبة لي ليس أزمة الثقافة الطلابية أو التعليم العالي في الولايات المتحدة، كما ادعى البعض، بل أزمة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة٬ وعلى وجه التحديد علاقتها طويلة الأمد مع إسرائيل.
ويقول فرينش: قبل أن نشرح المزيد، لا بد من التأكيد على أن معاداة السامية مرفوضة٬ وكذلك كل أشكال العنصرية، بغض النظر عن نكهتها أو لونها٬ وخبرتي في الحرم الجامعي الخاص بي تخبرني أن مثل هذه الأحداث ليست شائعة في جامعة كولومبيا. لكن هذه الإدانة لمعاداة السامية٬ يجب أن تتضمن التاريخ المؤسسي العميق لمعاداة السامية التي مارستها جامعة كولومبيا نفسها ذات يوم، والتي فرضت تاريخياً قيوداً على قبول وتوظيف اليهود إلى حد كبير من أجل حماية البروتستانت البيض من المنافسة الأكاديمية.
وتعزز انطباعي عندما شاهدت نفس اللقطات التي تم بثها على قناة فوكس نيوز طوال أسبوع كامل، والتي تظهر أحد المتظاهرين وهو يصرخ مؤيداً لحماس في وجه رجل يهودي أثناء خروجه من محطة مترو الأنفاق خارج البوابة الرئيسية لجامعة كولومبيا. لكن ليس من الواضح أن هذا الشخص كان طالباً بالأساس. علاوة على ذلك، كان الحرم الجامعي محاطاً بطواقم التلفزيون التي تعمل في نوبات طويلة كل يوم، لذلك إذا كانت مثل هذه الحوادث منتشرة، فلماذا لا يتم نشرها بدلاً من إعادة نفس اللقاء مراراً وتكراراً لمشهد المترو؟!
احتجاجات مثيرة للإعجاب!
يقول الأكاديمي الأمريكي إن ما رآه داخل بوابات الجامعة كان بشكل عام صورة للكياسة المثالية التي مارسها طلاب جامعة كولومبيا. منذ 10 أيام، كان هناك مخيم منظم للطلاب، معظمهم يتحدثون بهدوء، وبعضهم في الخيام، ويحتلون مساحة من العشب أمام مكتبة بتلر، أكبر مكتبات كولومبيا. حتى أن الطلاب المتظاهرين نشروا مدونة سلوك مثيرة للإعجاب. جاء فيها: "لا ترمي القمامة؛ لا تتعاطى المخدرات أو الكحول. يجب احترام الحدود الشخصية؛ لا تتعامل مع المتظاهرين المناهضين لنا.." وغيرها من التعليمات.
في أحد الأيام، كما فعلت عدة مرات من قبل، قرأت الأسماء ذات الطوابق المحفورة فوق الواجهة الكلاسيكية الجديدة ذات الأعمدة لمكتبة بتلر: هيرودوت، وسوفوكليس، وأفلاطون، وأرسطو، وشيشرون، وفيرجيل، وأمثالهم. ثم سألت نفسي: ما هو التهديد الذي تواجهه الحضارة الغربية، أو الديمقراطية في الولايات المتحدة، أو حتى التعليم العالي، والذي من المفترض أن تشكله احتجاجات كولومبيا وغيرها من الاحتجاجات التي أعقبتها؟!
يبدو أن الجواب يكمن في الخوف من خطاب الطلاب المحتجين٬ ويبدو أن المفتاح يكمن على وجه التحديد في سطر من قواعد السلوك الخاصة بهم والتي قمت بإعادة صياغتها للتو: لقد أقسموا ليس فقط على التعامل مع أي متظاهرين مناهضين، ولكن على وجه التحديد مع "الصهاينة".
لماذا يجب إنصاف الطلاب المتضامنين مع فلسطين؟
يقول فرينش إن حركة الحرم الجامعي المستمرة التي انبثقت من جامعة كولومبيا لم تنشأ بسبب معاداة اليهود، كما يتصور البعض أو يحاول تصوير ذلك. لقد نشأ هذا من صدمة عميقة إزاء العنف البشع والعشوائي الذي مارسته إسرائيل على الفلسطينيين. لقد تعرض الطلاب المحتجون للاحتقار والسخرية وتم تصويرهم على أنهم "مخالب القطط الخطرة لأعداء الولايات المتحدة في الصين أو روسيا. والأسوأ من ذلك أنه تم وصفهم بشكل خاطئ على أنهم من دعاة الكراهية المناهضين لليهود من قبل النقاد، بما في ذلك من قِبَل كبار الساسة الأمريكيين".
وفي الأيام الأولى من الاحتجاجات، قامت الشرطة باعتقال أكثر من 100 طالب مكبلي الأيدي بعد أن تحدثت رئيسة جامعة كولومبيا، نعمات شفيق، عن مخيمهم باعتباره "خطراً واضحاً وقائماً" ودعت الشرطة إلى التحرك.
وفي جامعات أخرى منذ ذلك الحين، ومع انتشار حركة السلام هذه، تعرض الطلاب للضرب وإطلاق الغاز المسيل للدموع؛ وقال الطلاب في جامعة إنديانا وجامعة ولاية أوهايو إنهم رأوا قناصة متمركزين في الحرم الجامعي ونشروا صوراً لذلك. يوماً بعد يوم، كانت هناك مشاهد لأعضاء هيئة التدريس الداعمين للمتظاهرين وهم يتعرضون للضرب والطرح على الأرض وتقييد الأيدي والاقتياد من قِبَل الشرطة.
لقد حان الوقت لكي يتساءل الأمريكيون، مستبدلين موضوع إسرائيل وفلسطين بموضوع آخر، إذا كانت حركة احتجاجية طلابية كهذه تحدث على هذا النطاق في بلدان أخرى، فماذا سيكون رد فعل الولايات المتحدة على قمعها؟ ما أتخيله بسهولة هو إدانات عالية اللهجة من المتحدثين باسم وزارة الخارجية ومقالات افتتاحية متهورة في الصحافة الأمريكية الرائدة حول "التعصب الاستبدادي" أو "انحطاط الديمقراطية".
وهناك العديد من الأسئلة الملحَّة الأخرى. على سبيل المثال، ما هو ردة فعل المواطن الأمريكي المناسبة على حجم الرعب الذي نراه في غزة؟ في ظل أن واشنطن داعمة بشكل صريح للهجوم الإسرائيلي هناك، وزودت إسرائيل بكميات هائلة من الأسلحة الجديدة. وعلى الرغم من ذلك، يتعامل بعض السياسيين الأمريكيين مع المتظاهرين باعتبارهم تهديداً. ويحذر آخرون من أن المتظاهرين يتدخلون في التأثير على الطلاب غير المتظاهرين من الأغلبية الصامتة، وهو استدعاء مألوف منذ الاحتجاجات الطلابية ضد حرب فيتنام.
الطلاب المحتجون يعلّمون المجتمع الأمريكي والعالم الديمقراطية والمواطنة
يقول الكاتب إنه من خلال الاحتجاج السلمي، فإن الطلاب في جامعة كولومبيا وفي عدد متزايد من الجامعات الأخرى يعلّمون المجتمع الأمريكي، بل والعالم أجمع، الديمقراطية والمواطنة الحقيقية. وقد تبادر إلى ذهني هذا الأمر في محادثات أجريتها مع طلاب من الصين ودول أخرى، والذين تعجبوا من قدرة طلاب كولومبيا على الرد من خلال الاحتجاج. وفي خضم الفظائع، يقولون ما يكفي، ويفعلون ذلك بشكل سلمي دائماً. ويقولون إن مواجهة الرعب تتطلب إلحاحاً أكبر من حملات كتابة الرسائل لأعضاء الكونغرس أو الانتظار بصبر للتصويت في الانتخابات المقبلة.
ويضيف أن غزة ليست الرعب الوحيد في العالم على الإطلاق، وبوسعنا جميعاً أن نستفيد من إلحاح هؤلاء الطلاب الأخلاقي وتحضرهم. إنهم يضغطون حيثما أمكنهم ذلك على المؤسسات التي ينتمون لها٬ وكطلاب، فهم حجر الأساس للمجتمعات. وإذا لم يتمكنوا من إقناع حكومة الولايات المتحدة بالقيام بشيء لوقف الحرب في غزة وفي الضفة الغربية، وهو الأمر الذي يتم تجاهله إلى حد كبير، فيمكنهم على الأقل إقناع جامعاتهم بالتوقف عن دعمه.
وهذا هو ما تعنيه المطالبة بسحب الاستثمارات: وقف الدعم المؤسسي والاستثمارات في الجهود الحربية الإسرائيلية. ويعترض العديد من النقاد على أن هذا المطلب غير واقعي ولا يمكن أن ينجح أبداً. ولكن ما هو الرد المناسب للمواطن؟ الجلوس وتكتيف اليدين مثلاً؟
في النهاية٬ فإن التهديد الذي تواجهه الصهيونية في العالم اليوم لا يأتي من الطلاب الذين يتظاهرون في الجامعات الأمريكية وغيرها٬ بل أزعم أن التهديد الأكبر للصهيونية لا يأتي حتى من حماس. إن التهديد الأكبر ينبع من عدم وضوح أي خط فاصل بين الصهيونية وسحق حياة الفلسطينيين وأملهم في المستقبل٬ كما يقول الكاتب والأكاديمي الأمريكي.