استخدمت أمريكا "الفيتو" لصالح إسرائيل في مجلس الأمن؛ كي تمنع الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، فما دلالات هذا الموقف غير الجديد هذه المرة بعد موافقة فرنسا وامتناع بريطانيا عن التصويت؟
هذه هي المرة الرابعة التي تستخدم فيها واشنطن الفيتو (حق النقض) لتوفير الحماية الدبلوماسية لإسرائيل منذ اندلعت الحرب على غزة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن هذا الفيتو تحديداً يبدو أنه يحمل دلالات ومؤشرات سلبية بالنسبة للتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة.
أمريكا وموقف مختلف عن الحلفاء
صوَّت مجلس الأمن الدولي، الخميس 18 أبريل/نيسان، على مشروع قرار يوصي الجمعية العامة للأمم المتحدة "بقبول دولة فلسطين عضواً في الأمم المتحدة". وافق على مشروع القرار 12 دولة (من أصل 15 هم أعضاء مجلس الأمن)، بينما امتنعت دولتان عن التصويت ورفضت دولة واحدة مشروع القرار، وهي الولايات المتحدة.
لكن الرفض الأمريكي كان كفيلاً بإجهاض مشروع القانون، والسبب هو تمتع الولايات المتحدة بحق النقض (الفيتو)، كونها أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. يتمتع 4 أعضاء آخرين بحق النقض، وهم: روسيا والصين وفرنسا (وافقوا على مشروع القرار) وبريطانيا (امتنعت عن التصويت).
السؤال الأول هنا هو: إذا كانت إدارة الرئيس جو بايدن تتبنى علناً مبدأ "حل الدولتين" وتؤيد إقامة دولة فلسطين المستقلة جنباً إلى جنب مع إسرائيل، فلماذا استخدمت الفيتو بهذه الطريقة؟ فواشنطن فشلت في إقناع حلفائها، وخاصة فرنسا وبريطانيا، في الانضمام لها ووقفت وحيدة في مواجهة العالم تقريباً.
فعلى الرغم من الفيتو الأمريكي، فإن الدعم "الساحق" من أعضاء المجلس "يبعث برسالة واضحة جداً: "دولة فلسطين تستحق مكانها" في الأمم المتحدة، حسبما قال السفير الجزائري عمار بن جامع، واعداً باسم المجموعة العربية بأن يتقدم مجدداً بهذا الطلب في وقت لاحق، ومضيفاً: "نعم، سنعود أقوى".
كيف بررت واشنطن "فيتو" دولة فلسطين؟
نائب السفير الأمريكي روبرت وود حاول تبرير الموقف الأمريكي عقب التصويت، قائلاً إن "هذا التصويت لا يعكس معارضة للدولة الفلسطينية، بل هو اعتراف بأنه لا يُمكن لها أن تنشأ إلا عبر مفاوضات مباشرة بين الطرفَين" المعنيين.
"الولايات المتحدة كانت دائماً متسقة في موقفها من أن أي أفعال غير ناضجة (قبل أوانها) في نيويورك (أي صادرة عن الأمم المتحدة)، حتى وإن خلصت نوايا تلك الأفعال، لن تحقق الدولة للشعب الفلسطيني"، حسبما نقلت وكالة أسوشيتد برس الأمريكية عن نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية، فيدانت باتيل.
السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، كانت قد قالت الأربعاء 17 أبريل/نيسان، إنها لا ترى أن بإمكان مشروع القرار (بأن تنال السلطة الفلسطينية عضوية كاملة في المنظمة) أن يساعد على الوصول إلى حل الدولتين للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.
فبعد سؤالها عما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لإقرار طلب السلطة الفلسطينية الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وقالت: "لا نرى أن الموافقة على قرار في مجلس الأمن سيوصلنا بالضرورة إلى مرحلة يمكننا أن نجد فيها أن حل الدولتين يمضي قدماً". إلا أن غرينفيلد أضافت أيضاً أن الرئيس جو بايدن قال بشكل قاطع إن واشنطن تدعم حل الدولتين وتعمل على تحقيق ذلك في أقرب وقت ممكن.
كيف بررت بريطانيا امتناعها عن التصويت؟
لم توافق بريطانيا على مشروع القرار، لكنها لم ترفضه وامتنعت عن التصويت، والامتناع عن التصويت من جانب دولة تتمتع بحق النقض يعتبر موافقة ضمنية بطبيعة الحال. أي أن الموقف البريطاني -الحليف الأبرز للولايات المتحدة تاريخياً- جاء مختلفاً عن موقف واشنطن.
وتبرز التصريحات البريطانية هذه الحقيقة. إذ قالت المندوب البريطاني لدى الأمم المتحدة، في معرض تفسيرها لامتناع لندن عن التصويت: "نحن نؤمن بأن هذا الاعتراف بالدولة الفلسطينية لا يجب أن يحدث في بداية عملية (سلام) جديدة، لكنه أيضاً لا يجب أن يأتي في نهايتها"، مضيفة: "لا بدَّ أن نبدأ بإصلاح الأزمة المُلحَّة في غزة"، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
الموقف البريطاني يحمل في طياته رداً على الموقف الأمريكي الذي يربط بين الاعتراف بدولة فلسطين وبين عملية "السلام" بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. ففي هذا الإطار، لم يتم إحراز أي تقدم يُذكر في سبيل إقامة الدولة الفلسطينية منذ توقيع اتفاقات أوسلو بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في أوائل التسعينيات، على الرغم من أنه كان من المفترض أن تنتهي مفاوضات الحل النهائي ويعلن قيام دولة فلسطين في مايو/أيار 1999.
ماذا عن موقف فرنسا؟
فرنسا لا تعترف بشكل منفرد بدولة فلسطين، وهي أحد أضلاع التحالف الغربي الداعم بكل قوة لإسرائيل منذ اندلاع الحرب الجارية على غزة. لكن باريس، التي شاركت في الدفاع عن تل أبيب لصد الضربة الجوية الإيرانية قبل أسبوع، صوتت بالموافقة على مشروع قرار منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة.
يمثل هذا الموقف الفرنسي بلا شك تجسيداً عملياً لتزايد عزلة أمريكا الدولية بسبب دعمها المستمر للعدوان الإسرائيلي المدمر على غزة. هذا ما عبَّر عنه بشكل مباشر مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزا، بقوله: "يمكن تسجيل هذا اليوم يوماً في تاريخ العالم عندما اتخذ المجتمع الدولي أخيراً، بعد ثلاثة أرباع قرن، خطوة في الاتجاه الصحيح لتصحيح عقود من الظلم التاريخي تجاه فلسطين"، مضيفاً أنه في هذه الأثناء قررت الولايات المتحدة أن تتحدى الإجماع الدولي.
"الغالبية العظمى من المجتمع الدولي تدعم طلب فلسطين للحصول على العضوية الكاملة في المنظمة العالمية، ومعاناة المدنيين الفلسطينيين يتردد صداها في قلوب وأرواح الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم"، بحسب كلمة نيبينزا عقب التصويت.
السفير الصيني لدى الأمم المتحدة، فو كونغ، قال إن "اليوم يوم حزين"، مبدياً "خيبة أمله" من الفيتو الأمريكي، ومضيفاً: "لقد تحطم حلم الشعب الفلسطيني".
فشل أمريكي في "تغطية" الفيتو
الفيتو الأمريكي الداعم لإسرائيل على حساب فلسطين وشعبها ليس الأول بطبيعة الحال، لكن هذه هي المرة الأولى التي تفشل فيها واشنطن في حشد حلفائها ليتبنوا موقفها وهو ما كان يوفر لها غطاء ما.
ريتشارد غوان، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، كان قد قال لوكالة الأنباء الفرنسية: "أعتقد أن الفيتو الأمريكي مؤكد تماماً"، متوقعاً أن تمتنع عن التصويت دول أخرى مثل بريطانيا (وهو ما حدث) وربما أيضاً اليابان وكوريا الجنوبية، وهو ما لم يحدث.
ورصد تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية كيف أن واشنطن كانت "تأمل في أن تتجنب استخدام الفيتو إذا ما اعترضت دول أخرى على مشروع القرار الخاص بمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة"، وهو ما لم يحدث.
في هذا السياق، تضم قائمة الدول الـ15 في عضوية مجلس الأمن هذا الشهر، والتي صوتت على مشروع القرار، كلاً من: أمريكا وفرنسا والصين وبريطانيا وروسيا والجزائر وسويسرا والإكوادور وسولوفينيا واليابان ومالطا وكوريا الجنوبية وغويانا وموزمبيق وسيراليون.
ونقلت الصحيفة البريطانية عن دبلوماسيين قولهم إن البعثة الأمريكية في الأمم المتحدة كانت تحاول، قبل التصويت، "إقناع دولة أخرى أو دولتين للامتناع عن التصويت بغرض التخفيف من عزلة واشنطن في هذه القضية"، لكنَّ المسؤولين الأمريكيين اضطروا إلى الاستسلام لمواصلة سياسة استخدام حق النقض "الفيتو" لدعم إسرائيل.
وكالة أسوشيتد برس الأمريكية أيضاً أكدت على نفس النقطة، حيث كتبت في تقريرها أن "الدعم القوي للفلسطينيين لا يعكس فقط العدد المتزايد من الدول حول العالم الذين يعترفون بدولة فلسطين المستقلة، لكن أيضاً يعكس بشكل مؤكد الدعم الدولي للفلسطينيين الذين يواجهون كارثة إنسانية" بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة، التي دخلت شهرها السابع.
ماذا قالوا عن "الفيتو" الذي منع حلم الدولة؟
مبعوث رئيس السلطة الفلسطينية لدى الأمم المتحدة، زياد أبو عمرو، لم يقتنع – شأنه في ذلك شأن باقي المندوبين في المنظمة الأممية- بالتبريرات الأمريكية لهذا الفيتو، الذي وضع واشنطن وتل أبيب في معسكر بينما باقي العالم بدا في المعسكر المضاد.
إذ سأل أبو عمرو الولايات المتحدة: "كيف يضر منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة… بفرص تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ وكيف تُضر هذه العضوية بالأمن والسلم الدوليين؟"، بحسب رويترز.
وأضاف أمام مجلس الأمن أن "الذين يعارضون منح دولة فلسطين العضوية الكاملة" لا يساعدون في نجاح فرص تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفرص السلام في الشرق الأوسط بشكل عام، متابعاً أن منح الفلسطينيين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة ليس بديلاً عن مفاوضات سياسية جادة لتنفيذ حل الدولتين وحل المشكلات العالقة. لكنه قال إن منح الفلسطينيين العضوية الكاملة بالأمم المتحدة يمنح الشعب الفلسطيني الأمل في حياة كريمة داخل دولة مستقلة.
أما الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، فقد فنَّد بشكل ضمني المبررات التي ساقتها واشنطن للفيتو، إذ قال إن "التصعيد في الآونة الأخيرة يجعل دعم الجهود حسنة النوايا أكثر أهمية لتحقيق سلام دائم بين إسرائيل ودولة فلسطينية مستقلة بالكامل وتتمتع بمقومات البقاء وذات سيادة".
وأضاف الأمين العام أن "الفشل في إحراز تقدم صوب حل الدولتين سيزيد فحسب من التقلبات والمخاطر أمام مئات الملايين في أنحاء المنطقة، إذ سيواصلون العيش تحت تهديد مستمر بالعنف".
"رضا" إسرائيل وإصرار فلسطين
أما إسرائيل، فقد أعرب مندوبها لدى الأمم المتحدة عن "امتنان" بلاده للولايات المتحدة لدعمها المستمر. لكن ممثل الجزائر الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير عمار بن جامع، أكد أن الطلب الفلسطيني لم يمت، إذ قال: "سنعود أقوى وبدعم من الجمعية العامة من أجل العضوية الكاملة لدولة فلسطين بالأمم المتحدة".
وقال بن جامع في كلمة بعد الفيتو الأمريكي على المشروع الجزائري الذي يوصي بقبول عضوية فلسطين في الأمم المتحدة: "سنعود أقوى وأكثر صخباً بدعم من شرعية الجمعية العامة والدعم الأوسع من أعضاء الأمم المتحدة، فإن هذه ليست سوى خطوة أخرى في الرحلة نحو العضوية الكاملة لفلسطين".
تتمتع فلسطين حالياً بوضع "دولة غير عضو بصفة مراقب" في الأمم المتحدة، وهو الوضع نفسه الذي تتمتع به الفاتيكان. ويعطي هذا الوضع لأصحابه الحق في المشاركة في جلسات الأمم المتحدة؛ لكن بدون حق التصويت على القرارات.
لكن حصول فلسطين على وضع "دولة غير عضو بصفة مراقب" منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2012 سمح للفلسطينيين بالانضمام إلى المنظمات الدولية الأخرى، بما فيها محكمة العدل الدولية، التي تدرس حتى اليوم مدى قانونية "الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات وضم الأراضي الفلسطينية"، إضافة إلى قضية ارتكاب إسرائيل "إبادة جماعية" في غزة، التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام المحكمة خلال الحرب الجارية على قطاع غزة.
كانت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية قد نشرت قبل أيام من التصويت ترصد كيف أن طلب فلسطين "يمتلك الآن احتمالات قبول أعلى من أي وقت مضى"، لأن الحكومات الغربية تبحث "النأي بنفسها" عن الحرب الإسرائيلية على غزة.
"من هذا المنطلق رأينا فرنسا، وأعقبتها المملكة المتحدة، تغيران موقفهما مع الوقت، ولمَّحتا إلى إمكانية دعم طلب (السلطة الفلسطينية)"، بحسب غيلبرت أشكار، أستاذ دراسات التنمية والعلاقات الدولية في جامعة SOAS بلندن، الذي أضاف أن ذلك يجعل من "الفيتو" الأمريكي المحتمل العقبة الوحيدة أمام طلب فلسطين، لكن تلك العقبة الأمريكية تحققت بالفعل وتأجل الاعتراف الأممي بدولة فلسطين مرة أخرى.