من داخل واحد من أعرق الأحياء في العاصمة الأردنية، وأكبرها، حي الطفايلة (شرق المدينة)، لا تزال حملات نصرة قطاع غزة مستمرة فيه، منذ بداية الحرب، بتجربة فريدة، تتمثل في جمع التبرعات النقدية والعينية، ليصبح أكثر أحياء الأردن تبرعاً إلى القطاع المحاصر، بعيداً عن الجهود الرسمية.
رغم الإمكانيات والموارد المالية المحدودة لدى أبناء حي الطفايلة، الذي يوصف بأنّه أفقر أحياء عمّان، إلا أنّ سكانه امتلكوا زمام المبادرة، وقرروا إطلاق جهد شعبي لنصرة غزة تحت مسمى "مبادرة حي الطفايلة"، وعدم اقتصار ذلك على الجهود الرسمية.
"عربي بوست" تتبع هذه المبادرة، وتواصل مع القائمين عليها من أبناء الحي الذي يضم أبناء عشائر أردنية قدمت إلى العاصمة من محافظة الطفيلة (جنوب المملكة)، للوقوف على إحدى أهم التجارب التي نجحت في دعم ونصرة أهالي قطاع غزة.
تُعدّ هذه الجهود، إحدى الآليات الجديدة التي اقترحها عدد من العشائر الأردنية، لتسهيل إدخال المساعدات إلى غزة، بعيداً عن الأدوار والجهود الرسمية الأردنية، من إنزالات جوية أو إرسال شاحنات مساعدات.
مبادرة حي الطفايلة
وسام ربيحات، أحد القائمين على الحملة الشعبية، تحدث إلى "عربي بوست"، مؤكداً أن مبادرة حي الطفايلة في غزة، قامت بتغطية جزء كبير من شمال غزة، وأن غالبية مساعداتها ركزت على هذه المنطقة، لكونها الأكثر حصاراً والأكثر تجويعاً، والأكثر استهدافاً، من الاحتلال الإسرائيلي.
عن طبيعة المساعدات التي تصل من خلال مبادرة حي الطفايلة، أوضح أنه "تمّ شراء كميات كبيرة من الطحين، وماء الصحة، وحليب الأطفال من مصر، ومن ثمّ إدخالها عبر معبر رفح".
مصدر الأموال من المتبرعين داخل حي الطفايلة وخارجه، حتى إن بعض النساء في الحي قمن بتقديم ما يملكن من ذهب ومصاغ إلى حملة التبرع هذه، تضامناً مع قطاع غزة، في حين قام أطفال بفتح حصالاتهم للتبرع بها لأهل غزة.
وقال ربيحات، إنه من خلال التبرعات، "جرى شراء كميات كبيرة جداً من المواد التموينية من جنوب قطاع غزة، وإرسالها إلى شماله، وأحياناً يتم توزيعها في الجنوب إذا اقتضت الحاجة".
إلى جانب ذلك، فإن هناك جهوداً أخرى تتمثل، بـ"توفير وبناء مخيم متكامل للنازحين، بدءاً من توفير الخيم، والأغطية، والفرش الأرضي، وحتى من حيث الطاقة الشمسية، التي تمّ إيصالها للمخيم، لإضاءته في الليل، وتشغيل الحمامات العامة، وتسهيل الأرضية للنوم عليها".
بداية مبادرة حي الطفايلة بسيارة إسعاف
البداية العملية لحملة "تجمع أبناء حي الطفايلة" لنصرة غزة، تمثّلت في شراء سيارة إسعاف من مصر، وإدخالها عبر معبر رفح، في الشهر الأول من الحرب على غزة، أكتوبر/تشرين الأول 2023، وذلك عبر منظمة "أميال من الابتسامات"، بحسب ربيحات.
أوضح كذلك أن ما يطمئن الناس أكثر، هو توثيق ما نقوم به، إذ "تمّ توثيق دخول سيارة الإسعاف، وتمّ الإشراف على ذلك من خلال شخصين منا، حيث ذهبت بنفسي مع زميلي في المبادرة مصعب الحراسيس، إلى مصر، وأشرفنا على تجهيز سيارة الإسعاف بشكل كامل".
وقال: "نبقى حتى آخر نقطة على مقربة من معبر رفح، حتى نطمئن من دخول المساعدات بأنفسنا، وذلك ما يحصل، إذ تصلنا أيضاً مقاطع فيديو وهي داخل المعبر، ومن ثمّ بعد وصولها إلى داخل قطاع غزة".
ضمان إيصال المساعدات بحسب تأكيد ربيحات، هو ما يشجع الناس على المشاركة في مبادرة حي الطفايلة، مؤكداً أن "مشاهدة الفيديوهات والاتصال والبث الحي والمباشر، الذي يصل إلى أبناء حي الطفايلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال علاقاتهم الشخصية، وعبر التواصل المباشر مع الغزيين، كل ذلك يعد ضماناً أمام الناس لوصول مساعداتهم".
منظمة أميال من الابتسامات
التحدي الأول بالنسبة لمبادرة حي الطفايلة، تمثل بحسب ربيحات بـ"البحث عن منظمة أو جهة خيرية، تضمن إيصال وإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، إذ إن الكثير من الأردنيين يريدون ضمان وصول المساعدات إلى أهالي قطاع غزة، وليس احتجازها أو عدم التمكن من إيصالها لهم.
وقال: "وقع الاختيار على منظمة "أميال من الابتسامات"، وهي منظمة أتت تزكيتها من داخل قطاع غزة، من العاملين في مجال التنمية الاجتماعية والصدقات".
أكد ربيحات أنّ من أسباب اختيار منظمة أميال من الابتسامات، أن "لها علاقات مع الجيش المصري والأونروا والمنظمات الإغاثية العالمية"، مشيراً إلى أنّ "قوافلها حينما تنطلق من مصر إلى معبر رفح تكون مجهّزة حسب المواصفات التي لا يمكن أن يرفضها الاحتلال، ويرجع ذلك إلى خبرتهم في التعامل مع طلباته المتعلقة بإدخال المساعدات".
وقال إن هذه المنظمة "قامت بتكوين شبكة علاقات داخل قطاع غزة من عدة شخصيات وجهات، وبات لها تواصل معهم بشكل مباشر، عبر التحري الدائم عنهم، ما ساعدنا يوماً بعد يوم بتكوين شبكة علاقات واسعة جداً في العمل الإغاثي في غزة، مع الجمعيات الخيرية الحقيقية الفاعلة، التي عملها صادق وميداني".
عن المنظمة أيضاً، قال: "بحسب ما وصلنا، فهي لم تقطع أهل غزة من الإغاثة، لذلك توجهنا إليها من خلال التواصل الشخصي، والتقينا بهم، وأعجبنا عملهم الإغاثي، بشكل كبير، على خلفية تخصصهم وخبرتهم، لا سيما أنها منظمة لا تدخل في الجانب السياسي في عملها، باعتبار أنّ عملها ينحصر في إدخال المساعدات إلى غزة".
أحد الأسئلة الدائمة التي تجول في أذهان المتبرعين، بحسب ربيحات، هل معبر رفح مغلق؟ موضحاً: "الحقيقة أنّ كميات دخول المساعدات تكون قليلة، باعتبار أنّها لا تنطبق عليها المواصفات والمقاييس، لذلك وقع الاختيار على منظمة أميال من الابتسامات، التي تراعي في عملها أن لا تتعارض مع القوانين والأنظمة ضمن المعمول بها على المعابر، وأن لا تسبب لها أي مشكلات، ما يسهل عملها بشكل كبير".
يشار إلى أن "أميال من الابتسامات"، وهي منظمة فلسطينية عالمية، أنشأها شباب فلسطينيون في بريطانيا، ولها فرع في القاهرة، تقوم عبر وسطائها وعبر هيئات الإغاثة داخل غزة، بتوصيل المساعدات باستمرار إلى قطاع غزة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2009.
التأثر بمجزرة المعمداني
تحدث خالد عواد، عضو تجمع أبناء حي الطفايلة لنصرة غزة، لـ"عربي بوست"، عن فكرة مبادرة حي الطفايلة، قائلاً إنها جاءت بعد مجزرة المستشفى المعمداني، فكان الاقتراح بشراء سيارة الإسعاف كدعم رمزي للمستشفى المعمداني، ومن هنا بدأت التبرعات من داخل حي الطفايلة لشرائها.
حصالات الأطفال، وتبرعات من أبواب المساجد، ومن مجوهرات النساء ومدخرات كبار السن، جرى جمعها كلها من سكان حي الطفايلة، لتبدأ بذلك مبادرة حي الطفايلة، بحسب عواد.
أوكلت المهمة بعدها إلى أشخاص من أبناء الحي للتوجه إلى مصر للتأكد من إدخال المساعدات، هما الشابان مصعب الحراسيس ووسام الربيحات، وتمّ تجهيز سيارة الإسعاف من القاهرة بشكل متكامل، بكلفة وصلت إلى نحو 42 ألف دولار، لتنضم إلى 13 سيارة إسعاف أخرى، لا تزال عاملة في قطاع غزة، وسط الحرب والدمار.
يذكر أن مستشفى المعمداني شهد مجزرة بحق المدنيين في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عقب قصف إسرائيلي لمحيطه، ما خلف أكثر من 500 شهيد، بحسب وزارة الصحة في غزة، لتثير تنديداً عربياً ودولياً واسعاً حينها.
أكثر من 100 حملة تبرع
حول عدد حملات التبرع التي قامت ضمن مبادرة حي الطفايلة، أكد عواد أنها تجاوزت 100 حملة منذ بداية انطلاقها.
أوضح كذلك أن مهام الحملة الواحدة تكون متعددة، فعلى سبيل المثال هناك حملة بتوفير 100 علبة حليب للأطفال، وحملة أخرى تصل إلى 20 ألف علبة حليب في المرة الواحدة، وتارة نقوم بإرسال 1000 طرد غذائي، وأخرى تصل إلى 3000 وجبة إفطار في رمضان.
كانت آخر المساعدات والتبرعات من حي الطفايلة، إلى مستشفى كمال عدوان، بحسب عواد، الذي قال: "أرسلنا للأطفال داخل المستشفى الحليب، وخرج مدير مستشفى كمال عدوان الطبي حسام أبو صفية، ووجه كتاب شكر لأبناء حي الطفايلة في عمان، لتنتشر قصة حملتنا، كما تمّ تجهيز بعض النقاط الطبية كالأدوية، ما أدى إلى أن تتولد الثقة بيننا".
فيما يتعلق بالمناطق المستهدفة بالنسبة لمبادرة حي الطفايلة في غزة، أكد عوّاد أن كل غزة شمالها وجنوبها وشرقها وغربها مستهدفة، مشيراً إلى أن طبيعة عملهم تركز على العمل الإغاثي والعلاجي، وتجهيز بعض المخيمات بالخيم والطاقة الشمسية، وبتوفير الماء، كما نفذنا مشاريع أخرى تتمثل في تجهيز أفران الخبز وذبح العجول وتوزيع لحمها.
دعوات لاستنساخ مبادرة حي الطفايلة
يدعو أبناء حي الطفايلة إلى استنساخ تجربتهم على مستوى الأردن، وتعميمها على كافة العشائر، هذا ما أكده خالد عواد، قائلاً: "نحن نؤيد هذه الخطوة، لأنّها تجسد معاني الأخوة والتعاون، وحسن الجوار، باعتبار قرب الدم والنسب مع الشعب الفلسطيني".
وقال: "نحن من دعاة أن تنتقل هذه الفكرة إلى كل أحياء الأردن، وإلى كل قراها ومخيماتها وشوارعها، وأن تنطلق وتنتشر وتعمم، في كل شوارع عمّان لدعم غزة".
من جانبه، تحدث أحد أعضاء مبادرة حي الطفايلة مصعب الحراسيس، عن تجربته لـ"عربي بوست"، بالقول: "بعد عودتنا من مصر إلى الأردن، أطلعنا أبناء حي الطفايلة على ما قمنا به، ليتوصلوا جميعاً إلى ضرورة توسيع هذه التجربة".
وقال: "أطلقنا مسمى مبادرة "تجمع أبناء حي الطفايلة"، داعين إلى تعميمها على مختلف العشائر الأردنية، والمكونات المجتمعية، والمناطق والأحياء الأردنية، لننطلق في التجربة بشكل أوسع، لنقل المساعدات الإغاثية من طرود الخير، ومن إعداد الطعام، ومن تأمين الاحتياجات والمساعدات الخاصة بالأطفال والنساء".
أضاف الحراسيس: "بفضل الله، يُسّر لنا القبول والتيسير، واستطاعت هذه الحملة في وقت قصير أن يكون لها أثر على أرض الواقع في غزة، والعديد من المبادرات في مختلف مناطق شمال غزة، خاصة طرود الخير في الشمال والجنوب والوسط".
أشار كذلك إلى أنه "في كل يوم نتوسع، وننشئ ونجهز فرقاً إغاثية جديدة في مناطق عدة في غزة، وحتى الفرق التي عملنا من خلالها كانت أول مرة تنفذ مبادرات إغاثية، وطرود خير، واستطعنا توسيعها عبر المواد التي يحتاجونها، أو بالمال، لتجهيز الطرود الغذائية هناك".
أكد الحراسيس أن "العمل بات يتوسع يوماً بعد يوم، وأنه بعد دخول الأسبوع الثاني من رمضان، أصبح يومياً لحي الطفايلة تكايا إفطار عدة في مختلف مناطق غزة".
وقال إن "الهدف الحالي هو الوصول إلى جميع مراكز النزوح في مختلف المناطق في غزة، وإعداد قوائم مندوبين هناك، لتنسيق الاحتياجات وتأمينها بشكل يومي"، مشيراً إلى أن "هناك جانباً آخر من مبادرات أبناء الطفايلة، مثل تأهيل وإنشاء مشاريع طاقة شمسية لمراكز النزوح، وآبار المياه".
من المبادرات الأخرى لحي الطفايلة، "إنشاء نقاط طبية، وتأمينها بالأغذية والأدوية المتاحة، والتواصل مع المبادرات الأخرى القائمة هناك لتكثيف العمل بشكل جماعي"، وفق الحراسيس.
لفت كذلك إلى أن "هناك تنسيقاً كبيراً في الوقت الحالي لإدخال حاويات طحين، ومواد غذائية، وحليب للأطفال، ومستلزمات نسائية"، منوهاً إلى أنّ أبناء الطفايلة يعملون على جميع المحاور المتاحة، ومنفتحون على العمل مع جميع القنوات الإغاثية النظيفة.
يشار إلى أن قطاع غزة يشهد حرباً دموية يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مخلّفاً أكثر من 32 ألف شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء، بحسب إحصائيات أممية ومن وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع.