هناك ما يشبه اللغز في واشنطن فيما يتعلق بموقف دونالد ترامب من الحرب على غزة وموقفه من إسرائيل وحكومة نتنياهو، فهل يركن الرئيس السابق والمرشح الحالي وصاحب صفقة القرن إلى الغموض المتعمد في تصريحاته؟
موقع The Responsible Statecraft الأمريكي تناول هذا السؤال في تحليل يرصد أين يقف صاحب صفقة القرن ترامب من حرب إسرائيل على غزة، ويتساءل البعض إذا ما كانت الإجابة تمثل لغزاً في واشنطن قبل نحو 7 أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية.
موقف ترامب من الحرب على غزة
كان الرئيس السابق قد عاد إلى تصدر عناوين الأخبار الأمريكية المتعلقة بالحرب الإسرائيلية على غزة، وذلك بعد أن قال مخاطباً الساسة الإسرائيليين في أحدث لقاءاته مع شبكة Fox News الأمريكية: "عليكم الفراغ من الأمر، وإنجازه بسرعة، والعودة إلى عالم السلام. نحن بحاجة إلى السلام في العالم.. ونحتاج إلى السلام في الشرق الأوسط".
وواصل ترامب أيضاً ترديد انتقاداته لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قائلاً: "لقد تلقى ضربة شديدة بسبب هذا الأمر. لم يكن مستعداً. هو لم يكن مستعداً، وإسرائيل لم تكن مستعدة".
ترامب وانتقاد نتنياهو
هذه ليست أول مرة يصرح فيها ترامب بانتقاد نتنياهو. ففي أعقاب خسارته الانتخابات الرئاسية الأمريكية أمام جو بايدن في عام 2020، تحدث ترامب عن مكالمة التهنئة التي أجراها نتنياهو لخصمه بايدن، وأبدى التذمر من رئيس الوزراء الإسرائيلي لأنه "لم يتحدث إليه منذ ترك منصبه"، لذا "تباً له".
وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وجّه ترامب انتقادات متكررة لنتنياهو بسبب الفشل الذريع لحكومته في توقع ومنع وقوع عملية طوفان الأقصى العسكرية أو هجوم المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس". كما انتهز ترامب الفرصة وكرر انتقاداته لنتنياهو والتعبير عن خيبة الأمل بسبب عدم مساعدة رئيس وزراء إسرائيل في عملية اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الذي قتلته أمريكا بضربة صاروخية على الأراضي العراقية مطلع عام 2020.
وعلى الرغم من إصدار تصريحات تعبر عن الدعم لإسرائيل في حربها الجارية على قطاع غزة، إلا أن ترامب تجنب تماماً توجيه أي دعم علني لنتنياهو.
ترامب: إسرائيل ارتكبت أخطاء فادحة
لكن ترامب بدا أنه قد تجاوز المآخذ المعتادة هذا الأسبوع، حين تحدث في مقابلة مع صحيفة "يسرائيل هيوم" الإسرائيلية، عن أسباب ميله إلى إنهاء الحرب في غزة، وقال: "علينا أن نصل إلى السلام، لا يمكن أن يستمر هذا. وأرى أن على إسرائيل أن تأخذ حذرها؛ لأنكم تخسرون كثيرين في العالم، وتخسرون كثيراً من الدعم".
ولما سُئل عن المخاوف من تزايد معاداة السامية في جميع أنحاء العالم، أشار مرة أخرى إلى مشاهد الموت والدمار بين المدنيين. وقال: "هذا لأنكم رددتم الضربة على هذا النحو"، و"أحسب أن إسرائيل ارتكبت خطأ كبيراً جداً. وقد أردت أن أتصل بـ [إسرائيل] وأقول لها ألا تفعل ذلك. [لا تنشروا] هذه الصور واللقطات. أقصد هذه اللقطات للقنابل وهي تُقصف على المباني في غزة. قلت لنفسي: أوه، هذه صورة فظيعة. إنها صورة سيئة للغاية أمام العالم. والعالم يرى هذ.. كل ليلة، كنت أشاهد المباني تتساقط على الناس"؛ وحين سُئل: "حتى لو كانت حماس في المباني المدنية؟"، أجاب: "اذهب وافعل ما عليك فعله. لكنك لا تفعله على هذا النحو".
ترامب وتصريحاته الغامضة
هل يقصد ترامب أن على إسرائيل أن تتوقف عن قصف المدنيين، أم يقصد أن تقصفهم لكن لا تترك صورها وهي تفعل ذلك تظهر للعالم؟ يقول موقع The Responsible Statecraft إن هذا هو مبعث الالتباس في تصريحات ترامب، فهي تحمل الوجهين.
والواقع أن ترامب لم يكشف إلا القليل عن رأيه بشأن الحرب على غزة، فلم يوضح رأيه في إمكان وقف إطلاق النار، ولا رأيه فيما قد يحدث بعد توقف القتال في نهاية المطاف. ويتعذر على المتابع أن يستنبط آراءه؛ لأنه لم يقدم سوى القليل من التفاصيل خلال الحملة الانتخابية.
من جهة أخرى، وصف ترامب الديمقراطيين التقدميين الذين يطالبون بوقف إطلاق النار بـأنهم "مجانين يكرهون إسرائيل"، وقال في تصريحات أدلى بها حديثاً إن اليهود الذين يصوتون للديمقراطيين "يكرهون إسرائيل" و"يمقتون دينهم".
أما رأيه في تعامل إدارة بايدن نفسها مع الحرب، فقال لشبكة Fox News في أوائل مارس/آذار: "بصراحة، لقد تهاونوا"، "فلم تكن هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول لتحدث أبداً، لو كنت رئيساً"، و"كذلك لم يكن ليحدث الغزو الروسي لأوكرانيا".
ولا يوضح ترامب سبب ثقته بمزاعمه، لكنه يشدد على أن حملة "الضغط القصوى" التي فرضها على إيران كانت تجعلها "مفلسة"، وليس لديها الموارد اللازمة لدعمِ حماس.
بالنظر إلى هذا الالتباس في تعليقات ترامب المتناثرة بشأن الحرب على غزة على مدى الأسابيع القليلة الماضية، تساءل موقع The Responsible Statecraft: هل يمكننا حقاً أن نتبيَّن كيف ستبدو سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية إذا فاز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة؟ ويرى الموقع أن النظر في تاريخ ترامب بهذا الشأن ربما يكون السبيل الأولى لاستيضاح توجهاته أكثر من الاستماع إلى نصائحه وتصريحاته.
القرائن على توجهاته.. الماضي والحاضر
لا يختلف الحزبان الديمقراطي والجمهوري كثيراً في نفاد الصبر على نتنياهو، إلا أن تصريحات ترامب حتى الآن تحمل تشابهاً أكبر مع آراء المؤسسة اليمينية الأمريكية تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي، وعلى رأسها الاستياء بسبب إخفاق حكومته في توقع هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول.
لكن ترامب واليمين المؤيد لإسرائيل يخصصون معظم اللوم لبايدن، ويتهمونه بأنه لم يمنح نتنياهو ما يكفيه للمضي قدماً حتى إنهاء الحرب على غزة وتحقيق أهدافها المعلنة وبخاصة القضاء على حماس، رغم أن أغلب الخبراء والمحللين الإسرائيليين والأمريكيين يصفون هذا الهدف بأنه مستحيل عملياً.
جدير بالذكر هنا أنه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تعهّدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بتقديم أسلحة ومساعدات لـ"إسرائيل" قيمتها 14.3 مليار دولار (بحاجة لموافقة الكونغرس) إلى جانب المساعدات السنوية التقليدية بقيمة 3.4 مليار دولار.
وفي هذه الحرب المدمرة على قطاع غزة، تلعب الولايات المتحدة دوراً أساسياً في دعم "إسرائيل" عسكرياً، وقد أصبحت موضع انتقادات شديدة ومتزايدة داخلياً وخارجياً حول دورها في رفع التكلفة الإنسانية للحرب الإسرائيلية على غزة التي تموّلها واشنطن بالسلاح الفتاك، في الوقت الذي تقول فيه جماعات حقوق الإنسان إن واشنطن شريك رئيسي في حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها القطاع منذ نحو 175 يوماً.
أما المزاعم بأن ترامب يوصي إسرائيل بضبط النفس في الحرب، واستخلاص ذلك من تصريحاته بشأن "السلام"، فإن هذه المزاعم تكذِبها آراء المقربين منه على مر السنين وتصريحاتهم؛ فصهره جاريد كوشنر -على سبيل المثال- الذي عمل مستشاراً للسياسة الخارجية في الشرق الأوسط، لديه علاقات شخصية ممتدة مع عائلة نتنياهو. وقال في مقابلة أجراها حديثاً إنه ينبغي إيواء اللاجئين الفلسطينيين من غزة في صحراء النقب، وألا يعودوا أبداً، وشدد على أن الفلسطينيين لا يجوز أن "يحصلوا على دولة"، لأن ذلك سيكون "مكافأة" لهم على ما ارتكبته حماس.
علاوة على ذلك، فإن زمرة ترامب الحالية من مستشاري السياسة الخارجية، مثل وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، والجنرال المتقاعد كيث كيلوغ، ومستشار الحملة جيسون ميلر، والسفير السابق لدى الأمم المتحدة ريتشارد غرينيل، لا أحد منهم يمكن حسبانه على "الحمائم" المتساهلين بشأن قضايا السياسة الخارجية، لا سيما الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ترامب.. داعم إسرائيل وصاحب صفقة القرن
أما إذا نظرنا في سجل تصرفات ترامب خلال رئاسته فيما يتعلق بالعلاقة بين إسرائيل وفلسطين، فلا يمكن بأي حال اعتبار أن تصرفاته بهذا الشأن كانت متوازنة، فضلاً عن وصفها بـ"ضبط النفس". إذ كان صاحب صفقة القرن، التي سعت إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، حسبما يرى الفلسطينيون وأغلب المراقبين حول العالم.
فقد عيَّن ترامب العضو البارز في اللوبي الإسرائيلي، ديفيد فريدمان، سفيراً للولايات المتحدة لدى إسرائيل؛ وقرر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس (منتهكاً القانون الدولي)؛ وأصدر اعترافاً رسمياً بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان المحتلة.
وكل هذه القرارات وغيرها تشير إلى توافق وثيق مع سياسة اليمين الإسرائيلي المتشدد وأهدافه، ومع كبار مانحي ترامب من اليمين الأمريكي في الوقت نفسه.
جدير بالذكر أن فريدمان دعا في تغريدة نشرها منذ بضعة أيام على تويتر إلى ترحيل سكان غزة إلى "مصر ودول عربية أخرى"، وهو يعارض حلَّ الدولتين، ويرى أنه من حق إسرائيل ضم أراضي الضفة الغربية المحتلة. وقد قال ترامب لصحيفة "يسرائيل هيوم" في لقائه المذكور، إنه يعتزم لقاء فريدمان للاستماع إلى خطته.
وفي الوقت نفسه، يجنح كبار مانحي ترامب السابقين والحاليين إلى التأييد المتشدد لإسرائيل والعداء لإيران، ومنهم تيم دان، وبيرني ماركوس، وعائلة أديلسون، التي قدمت أكثر من 424 مليون دولار لدعمٍ ترامب والحزب الجمهوري في الفترة من 2016 إلى 2021.
علاوة على ذلك، فإن قاعدة دعم ترامب في الانتخابات تعتمد اعتماداً كبيراً على تأييد الإنجيليين المسيحيين، وهؤلاء يرى أكثر من نصفهم أن الموقف من دعم إسرائيل قضية حاسمة في التصويت بالانتخابات.
مع ذلك، ربما ينتظر ترامب ليرى كيف ستؤثر تداعيات الحرب في غزة على خصمه بايدن، لا سيما أن الأخير يخسر كل يوم من قاعدته الانتخابية بسبب مواقفه من الحرب. ولعله من الصعب معرفة إذا كان الوضع سيكون "أفضل" أو "أسوأ" في عهد بايدن أو ترامب، أم أن الأمر ليس إلا صراعاً على اجتذاب الشعبية في سياق الحملات الانتخابية قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني.