سلّطت صحيفة The Guardian البريطانية الضوء على حركة "غير ملتزم" التي لفتت الأنظار من خلال التصويت الاحتجاجي ضد الرئيس جو بايدن في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي؛ بسبب موقفه من الحرب في غزة٬ مشيرة إلى أن نجاح هذه الحركة هزّت بايدن وسلط الضوء على السخط بشأن الحرب٬ ويمثل تحذيراً للديمقراطيين، بينما يخوضون سباقات نحو التجديد لبايدن في ولاية رئاسية أخرى٬ أمام منافسه ترامب.
ما هي حركة التصويت بـ"غير ملتزم"؟
تقول الغارديان إن الناس في ولاية ميشيغان٬ وفي مختلف أنحاء الولايات المتحدة، ظلوا يحتجون طيلة أشهر على استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة ودور حكومة الولايات المتحدة فيها، ولم يدخروا جهداً في التعبير عن احتجاجهم، فقد نظموا مسيرات في الشوارع، وهتفوا أمام الرئيس في الفعاليات العامة، وضغطوا على مسؤوليهم المنتخبين لكي يطالبوا بوقف إطلاق النار.
لكن بدا أن الرئيس الأمريكي جو بايدن -الذي انتخبته هذه الولاية سابقاً- لا يستمع إلى اضطراب هذه الموجة العارمة من الناخبين الديمقراطيين المعارضين للحرب، وبدا أن التغطية الإعلامية الأمريكية للاحتجاجات، وللحرب نفسها، بدأت تنحسر أيضاً.
وخلصت الحركة الناشئة في مناهضة الحرب إلى أنها تحتاج إلى ابتكار وسيلة أخرى لجذب انتباه الرئيس، فتوصَّلوا إلى استراتيجية أحدثت تأثيراً كبيراً في الأسابيع الماضية، وهي مطالبة الناخبين الديمقراطيين بأن يصوتوا في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي بأنهم "غير ملتزمين" بالتصويت لبايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولا التصويت لغيره، احتجاجاً على استمرار الحرب في غزة، ولمطالبة الإدارة الأمريكية بأن تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار.
حركة "التصويت بغير ملتزم" تُبرز مدى السخط بين الديمقراطيين على بايدن
ما شهدته الانتخابات التمهيدية بعد ذلك في عدة ولايات أمريكية أظهر قوة هذه المجموعة المبادرة من الناخبين، وأشار إلى أن قرارهم ربما يغير مآل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني، لما أظهروا من قدرة على الوصول إلى الناخبين بسرعة، وبميزانية محدودة، مما أعطى درساً جدير بالاعتبار في "التنظيم الشعبي"، فضلاً عن كونها إشارة تُبرز مدى السخط بين الديمقراطيين بشأن تعامل الإدارة الديمقراطية مع الحرب على غزة.
واسترشدت خطة الحشد بخطةٍ تعبوية مماثلة شهدتها ولاية ميشيغان في عام 2008. ففي ذلك العام، لم يصل اسم المرشح باراك أوباما إلى بطاقات الاقتراع في ميشيغان لأن موعد الانتخابات التمهيدية خالف قواعد الحزب الديمقراطي، إلا أن أنصار أوباما عمدوا إلى التصويت "غير ملتزمين" ليعلنوا رفضهم لحملة هيلاري كلينتون هناك. ولقيت رسالة الحشد تأثيراً قوياً، فقد اختار نحو 40 % من الناخبين أن يصوتوا بأنهم "غير ملتزمين"، ومنهم قطاعات كبيرة من الناخبين السود والشباب.
وقد أوجزت الفكرة هذه المرة مذكرةٌ كتبها في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، خبير الحشد الديمقراطي وليد شهيد، إذ طالب في بيانه بأن تستخدم الحرجة الاحتجاجية على الحرب هذا الخيار "لإظهار الاعتراض العارم على دعم الرئيس بايدن لحرب الحكومة الإسرائيلية على غزة وتمويله لها".
وأشار شهيد في مذكرته إلى أن هذه الجهود ستؤدي إلى التفات الصحافة الحرة إلى الحركة المناهضة للحرب، ومعاونة النشطاء على تعلم مهارات في جمع الأصوات وحشد الناخبين عبر المكالمات الهاتفية والرسائل. وتوقَّع شهيد أن تسهم الحملة في "تسييس الحركة الاحتجاجية على الحرب وإضفاء القوة الانتخابية على السخط" بشأنها.
هل تعطي هذه الحملة فرصة لبايدن لتغيير مساره؟
تمكنت الحركة الاحتجاجية من تحويل فحوى المذكرة إلى حقيقة واقعة، بميزانية ضئيلة وبضعة أسابيع من العمل المكثف على الأرض، واستطاع المشاركون في الحملة أن يصلوا إلى الناخبين ويُقنعوهم بأنهم يمكنهم استخدام أصواتهم لإعلام بايدن بأن أصواتهم غير مضمونة له في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، فاختار بعض الناس ألا يذهبوا إلى مقار التصويت، وقرر آخرون أن يصوتوا لمرشح ثالث (بخلاف بايدن، ودونالد ترامب) من المرشحين المعارضين للحرب.
وقد منحت حملة "صوِّت غير ملتزم" كلَّ هؤلاء وسيلة لإسماع أصواتهم قبل الانتخابات بمدة طويلة، وقبل أن تنحصر المنافسة بين بايدن وترامب، وأعطت بايدن فرصة لتغيير مساره.
وقال شهيد: "كان شاغلنا ألا تكون هذه الحملة مجرد تصويت احتجاجي، وإنما إنذار للرئيس بايدن بأن هناك كثيرين في هذا البلد (غير ملتزمين) بإعادة انتخابه، وأنه لا بد له أن يأخذ ذلك على محمل الجد".
وعلى الرغم من صعوبة الظروف التي بدأت فيها الحملة من ضيق الوقت وقلة ذات اليد، حدد المنظمون هدفاً لهم أن يصلوا إلى 10 آلاف صوت "غير ملتزم"، وهذا العدد يقارب الفارق الذي فاز به ترامب بالولاية في عام 2016.
أجرى منظمو الحملة أكثر من 500 ألف مكالمة هاتفية، وأرسلوا أكثر من 600 ألف رسالة نصية إلى الناخبين. وتعاونوا مع بعض المنظمات الميدانية التي لديها خبرة في تعبئة الحملات الانتخابية. وقادت الكوادر المتمرسة جهود الحشد، واستعانت بمئات المتطوعين في ميشيغان وفي جميع أنحاء البلاد، من المجموعات التقدمية والجمعيات الدينية والمنظمات المناهضة للحرب.
واستطاعت الحملة أن تجتذب الدعم من منظمات كبرى مثل "الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين"، ومجموعة "ثورتنا"، اللتين أعلنتا عن تأييد الحملة، وشاركتا في حشد الناخبين وإرسال رسائل البريد الإلكتروني إليهم. واستضاف نشطاء يهود فرق الحشد عبر المكالمات الهاتفية.
استطاعت حملة "استمع إلى ميشيغان" أن تجمع تأييد العشرات من المسؤولين المنتخبين، منهم رؤساء بلديات ونواب في مجلس الولاية، وأعضاء في مجالس البلديات ومجالس المدارس. وأعلن عن تأييد الحملة كذلك النائبة رشيدة طليب، التي تمثل مدينة ديترويت في الكونغرس، ونائب الكونغرس السابق آندي ليفين.
أكثر من 100 ألف يعاقبون بايدن في ميشيغان وولايات أخرى تسير على طريقها
وكانت النتيجة أن تجاوزت الحملة هدفها بكثير، فقد اختار أكثر من 101 ألف ديمقراطي في ميشيغان، أي نحو 13 % من المشاركين في التصويت، أن يصوتوا بأنهم "غير ملتزمين" بالتصويت لبايدن، واستطاعت الحملة أن تضمن وجود مندوبين لها في المؤتمر الوطني الديمقراطي الذي يسمِّي فيه الحزب مرشحه للرئاسة الأمريكية، واستنفروا حركة مناهضة للحرب دفعت الرئيس الأمريكي إلى الالتفات بجهوده إلى غزة.
قالت ليلى العبد، مديرة حملة (استمع إلى ميشيغان): "لم أشارك قط في حملة حشدٍ بهذه الشراسة، وعلى الرغم من قلة الوقت المتاح لنا، استطعنا في أقل من ثلاثة أسابيع أن نبلغ ما كنا نظنُّه مستحيلاً"، "لقد كتبت ميشيغان شهادة ميلاد حركة سياسية" جديدة.
تضم الحملة المنتشرة في ولايات مختلفة مجموعات متنوعة من الناخبين، ومن مختلف الأديان والأعراق والأجيال، وتشارك فيها منظمات إسلامية ويهودية وجماعات سياسية ونقابات.
ولم تتوقف الحملة عند عتبات ميشيغان، بل انطلقت إلى المحطة التالية في ولاية مينيسوتا، ولم يكن مع المنظمين سوى 20 ألف دولار، ومع ذلك شرعوا في إجراء مكالمات الحشد الهاتفية، وذهبوا إلى المساجد، وطرقوا الأبواب، وأرسلوا الرسائل النصية، ونشروا المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، واحتشدوا في إحدى الحدائق ونظموا يوماً مفتوحاً للصحافة في اليوم السابق على الانتخابات التمهيدية.
وقد أتى هذا العمل أُكله في ولاية مينيسوتا، فقد اختار نحو 19 % من الناخبين الديمقراطيين التصويت بعدم الالتزام، أي ما يقرب من 46 ألف ناخب. ومن المثير للدهشة أن هذا العدد أكبر قليلاً من الفارق الذي فازت به هيلاري كلينتون في ولاية مينيسوتا على ترامب في عام 2016، وهي علامة على أن الحملة يمكنها الاعتماد على الولاية في التأثير على بايدن إذا لم يغير مساره بشأن الحرب على غزة.
وقد حصلت الحملات في مينيسوتا وواشنطن وويسكونسن على مساعدة تنظيمية من ميشيغان، إلا أن الانتشار إلى ولايات أخرى لم يكن جزءاً من خطة شهيد في البداية، إذ إن تنظيم الحملات في هذا الوقت القصير أمر شديد الصعوبة. لكن الزخم كان شهادة على أن الرسالة لاقت صدى لدى الناخبين الذين يريدون وقف إطلاق النار، وإعلام منهم بأنهم عازمون على استخدام أصواتهم لكي يدرك بايدن رغبتهم هذه.
ويبدو أن الحركة الاحتجاجية قد زعزعت بالفعل بايدن، وغيره من السياسيين الديمقراطيين، بشأن موقفهم من الحرب على غزة. فقد تغير خطاب البيت الأبيض، من السعي إلى "هدنة إنسانية"، إلى المطالب بوقف مؤقت لإطلاق النار؛ وأمر بايدن بإنشاء ميناء لإيصال المساعدات إلى غزة؛ وبدأ كثير من الديمقراطيين يصرحون علناً بمعارضتهم لبايدن في هذه القضية؛ ودعا زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وأحد حلفاء بايدن، إلى الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
القلق يساور الديمقراطيين.. هل تطيح هذه الحركة ببايدن؟
مع ذلك، يقول الناشطون في الحركة الاحتجاجية المناهضة للحرب إن التغيير في الخطاب وتزايد الاهتمام لا يضمنان تحولاً حقيقياً في سياسة الإدارة الأمريكية، وقد كانت رسالتهم صريحة ومتماسكة طوال الحملات: إنهم يريدون رؤية وقف دائم لإطلاق النار في غزة، وإنهاء التمويل والدعم الأمريكي للحرب.
من جهته٬ يقول خبير استطلاعات الرأي المستقل في ولاية ميشيغان ريتشارد تشوبا إن إجمالي أصوات "غير الملتزمين" يجب أن يتراوح بين 20 و30 نقطة مئوية حتى يبدأ الديمقراطيون بالقلق بشأن تأثيرهم في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني.
ويضيف تشوبا لوكالة "أسوشيتد برس" أن "نسبة 20 ٪ تعد أمراً لافتاً، لكنها إذا ارتفعت لـ25 ٪ فإنها ستحظى باهتمام أكبر، وإذا وصلت لأكثر من 30 ٪، فأعتقد أن هذه إشارة إلى أن جو بايدن لديه مشكلات جوهرية جداً في قاعدته الانتخابية". وتعد ولاية ميشيغان محطة حاسمة في السباق إلى البيت الأبيض حيث تمتلك 16 مقعداً في المجمع الانتخابي، الذي يختار الرئيس الأمريكي.